«أثر الفراشة».. في مديح هادي الجيار

لم يسعَ إلى البطولة المطلقة وآمن بأن الحياة عمل جماعي.. كيف شقّ هادي الجيار طريقه إلى النجومية؟

في العام 1963، صاغ الأميركي إدوارد لورينتز مصطلح «أثر الفراشة»، وهو تعبير مجازي يصفُ الظواهر ذات الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة، والتي تنجم عن حدث بسيط، لكنه يولّد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية، وهو ما عبّر عنه بالقول إن «رفرفة جناح فراشة في الصين قد تتسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أميركا أو أوروبا أو أفريقيا».

لكن، بعيداً من النظريات الفيزيائية والفلسفية التي تبدّى فيها مصطلح لورينتز، إلا أن «أثر الفراشة» يصلح عنواناً لسيرة الفنان المصري الراحل هادي الجيار (1949 - 2021)، إذ على امتداد 50 عاماً، كانت حركته عبر الشاشة بمثابة رفرفة جناح فراشة تحرك الأحداث، وتدفعها إلى ذروتها الدرامية، فهو ربما لم يكن بطل العمل الدرامي، لكنه بالتأكيد سيكون صاحب المشهد الذي سيُحدث الأعاصير ويُثير الرياح الهادرة على امتداد حلقاته.

لم يسعَ الجيار إلى البطولة المطلقة، بل آمن بأن الحياة عمل جماعي، يتشكل من الأدوار الثانوية للبسطاء، ثم ظهر عبر الشاشة مرتدياً الجلباب، ليؤدي أدوار الفلاح والصعيدي والمعلم ابن البلد، ومعبراً عن حال الموظفين والمثقفين والعمال، هؤلاء الذين يحركون تروس الحياة برفرفة أجنحتهم الهشة، كل ذلك بمقدرة وبراعة جعلتاه يحتل مكانة في قلوب المشاهدين.

في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1949، كان ميلاد الجيار داخل أسرة لا علاقة لأفرادها بالفن، أي أنه لم يرث الموهبة عن أحدهم، لكن المصادفة التي قادته لدخول أحد الاستوديوهات مع قريب له وهو في السابعة من عمره، فجرت في داخله تلك المحبة ليعيش حياة أناس آخرين، متقمصاً شخصياتهم في أفراحهم وأحزانهم، ومؤمناً بأن «كل منا داخله فنان، لكن الأقدار والظروف هي الكفيلة بأن تضعك في الطريق الصحيح».

خرج الطفل هادي الجيار من الاستوديو مسحوراً بالسينما، كأنه وجد نفسه وقد سلب التمثيل روحه، ثم عاش يبحث عنها في كل شخصية جسدها. شارك بعدها في فرق الهواة في المدرسة، فكان طفلاً على وداعته قادراً على سرقة الألباب، وشجعه معلموه على أن يكمل مسيرته، فانتظر حتى أتم مرحلة الثانوية، ثم التحق بــ "المعهد العالي للفنون المسرحية".

كان دخول الجيار المعهد بمثابة مرحلة جديدة في حياته، شارك خلالها في عدد من المسرحيات، منها مسرحية «القاهرة في ألف عام» التي أظهر فيها قدراته التمثيلية، الأمر الذي جعل أساتذته يرشحونه للعمل في مسلسل «القاهرة والناس» وقت طلب منهم المخرج محمد فاضل أن يرسلوا إليه الطلبة الموهوبين، علماً بأن «القاهرة والناس» الذي بُثت أولى حلقاته في تشرين الأول/أكتوبر عام 1967، مسلسل اجتماعي مصري، صُنع أسوة بمسلسل أميركي اسمه «بيتون بليس». وعدّه البعض فتحاً في الدراما العربية، كما كان نقطة الانطلاق لعدد من الفنانين، وبينهم هادي الجيار.

"أثر الفراشة" ساق الجيار إلى المشاركة في مسرحية «مدرسة المشاغبين» التي بشرت بظهور جيل جديد من النجوم. 

ويقول «الجيار» في حوار له: «قابلت عادل إمام لأول مرة في مكتب محمد فاضل، وكانا يتفقان على شغل، فرشحني للمشاركة في مدرسة المشاغبين من بداية العمل في دور لطفي».

في «االقاهرة والناس» بدأ الجيار حياته بأجر 8 جنيهات في الحلقة، وفي «مدرسة المشاغبين» تعاقد هو ويونس شلبي وأحمد زكي على أجر 15 جنيهاً في الشهر، لكن بعد عام من النجاح تزعمهم أحمد زكي مطالباً بزيادة في الراتب، ثم كانت زيادتهم 5 جنيهات إضافية، هو المبلغ الذي ارتضاه قائلاً للنمر الأسود: "خلاص بقى يا أحمد حلوة الخمسة جنيه وبلاش طمع". لم يكن المال ضمن أهداف الجيار.

ساعدت «مدرسة المشاغبين» الجيار على أن يتعرف إليه الجمهور سريعاً. لكنه لم يكن ممثلاً كوميدياً، بل كان يرى نفسه ممثلاً تراجيدياً في الأساس، وقدّم بعدها عدداً من المسرحيات، أشهرها «قصة الحي الغربي»، التي عُرضت موسماً واحداً، ثم مُنعت لأنها كانت تحمل رسائل سياسية. وكما كان المسرح سبباً في معرفة الجماهير به؛ كان أيضاً سبباً في معرفته بزوجته.

كان هادي الجيار شاباً طموحاً، سرقه الفن من كل شيء، حتى حياته الخاصة. لم يكن يفكر في الزواج مطلقاً، إلى اليوم الذي جاءت فيه فتاة اسمها «إيمان» إلى مسرح الريحاني مع صديقتها؛ لحضور عرض من بطولة الفنان حسن عابدين، ويشارك فيه الممثل الشاب. 

وقتها، أحس الجيار بأن ثمة شعوراً طيّباً تسرب إلى قلبه، ثم أصبح مفتوناً بها، لكن الفتاة كان لها رأي آخر يحكيه قائلاً: «لم تُعجب بي أو بشخصيتي إلى الدرجة التي دفعتها إلى أن تقول لصديقتها عني بأن دمي ثقيل وهخنقه من رقبته»، لكنها لمّا التقته ثانية، أصبحا صديقين، ثم تقدم إلى خطبتها ووافقت.

بحكم مرضه وإجرائه عملية قلب مفتوح، عاشت زوجته معه حياة صعبة بعض الشيء، لكنها وقفت إلى جانبه، وتحمّلا معاً عثرات كثيرة، كما رُزقا بابنتيهما مشيرة وبسنت، اللتين تخرّجتا من كليتي الإعلام والتجارة، وكانتا اختصارا لحظه السعيد من الدنيا، حتى إنه أحياناً كان يضيق بمحبته الشديدة لهما، وخوفه عليهما، الأمر الذي جعله يرفض عمل إحداهما في التمثيل، لا لشيء غير أنه يراه «شغلانة صعبة جداً».

إلى جانب المسرح، قدم الجيار عدداً من الأفلام السينمائية، أولها «شلة المشاغبين» 1973، وكان محاولة لاستغلال نجاح مسرحية «مدرسة المشاغبين»، لكنه باء بالفشل، ولم يُكتب له النجاح، ثم أفلام «الغيبوية»، و«احترس عصابة النساء» و«عزازيل»، وجميعها لم يحقق النجاح المطلوب، ثم كان التلفزيون هو نافذته إلى قلوب الناس.

عرف المشاهدون الجيار في الأعمال الدرامية، وخصوصاً في شخصية «صبري» ابن عم «رفيع بك» ويده التي يحرك بها الأحداث. في مسلسل «الراية البيضاء» كان «سيد العربي» أستاذ الفلسفة المناصر لفريق «مفيد أبو الغار». وشارك في قرابة 129 عملاً درامياً، منها: المال والبنون، وما زال النيل يجري، أبناء ولكن، الراية البيضاء، كفر دلهاب، وولد الغلابة. لكن يبقى «الحاج برهامي عم منصور» في مسلسل «سوق العصر»، الذي حصل عنه على جائزة أفضل ممثل من مهرجان الإذاعة والتلفزيون، هو أكثر الأدوار التي تركت داخله أثراً عميقاً.

ظل هادي الجيار ضيفاً خفيفاً على الدراما حتى آخر أيامه، حيث مشاركته الأخيرة في مسلسل «الاختيار 2»، الذي ما إن أنهى تصوير 80% من مشاهده فيه، حتى فوجئ صنّاع العمل بوفاته في 10 كانون الثاني/يناير 2021، متأثراً بإصابته بفيروس "كورونا". ولما كان من المنتظر أن يتوفى ضمن أحداث الحلقة 22 أو 23، لجأ صناع العمل إلى تقديم مشهد وفاته في المسلسل.

رحل الجيار عن عمر ناهز 71 عاماً، وشُيِّع إلى مثواه الأخير في مدافن الأسرة في مدينة السادس من أكتوبر، على مقربة من العاصمة المصرية. وبكاه محبوه مرتين، الأولى يوم رحيله عن الدنيا، والثانية يوم رحل عن شاشة التلفزيون، وفي المرتين رددوا ما قاله محمود درويش: «أَثر الفراشة لا يُرَى، أَثر الفراشة لا يزولُ».