أجنبي أشقر في غزة.. كيف وصف كليمنت غزة قبل 150 عاماً؟

نادرة هي نصوص الرحّالة الأوروبيين المتعلقة بغزة في القرن التاسع عشر، ومنها كتاب "فلسطين" للتشيكي فرانتيشيك كليمنت. فكيف وصف كليمنت رحلته من جبل نيبو إلى غزة؟

  • فرانتيشيك كليمنت
    فرانتيشيك كليمنت  (1851 - 1933)

نادرة هي نصوص الرحالة الأوروبيين المتعلقة بغزة في القرن التاسع عشر. فالمدينة لم تكن مدرجة ضمن كتيّبات السياحة الدينية للأماكن التي يقصدها الحجاج إلى الديار المقدسة في الشرق. والأكثر ندرة هو النصوص التي لا تكتسي بالغرائبية عند الحديث عن بلادنا وناسها في تلك الحقبة. ومن هذه النصوص، التي جنح كتابها إلى الواقعية، كتاب "فلسطين" الصادر في العاصمة براغ سنة 1895، والذي يوثق فيه فرانتيشيك كليمنت (1851 - 1933) معالم بلادنا، وبينها رحلة من جبل نيبو إلى غزة قام بها نحو سنة 1870. 

وُلد كليمنت قرب مدينة براغ. كان والده عامل بناء إلا أنه حرص على أن ينهي ابنه المدرسة الثانوية كي يشق طريقه في الحياة. التحق كليمنت الفتى بخدمة الأرشيدوق والرحالة لويس سلفاتور توسكانا، الذي كان عالمًا إثنوغرافياً وكاتباً مشهوراً، وأحد أكثر الأشخاص سفراً في عصره. فسافر معه إلى عدة دول أوروبية قبل أن يزور الدولة العثمانية وشمالي أفريقيا.

لم يكتب كليمنت عن رحلاته إلا بعد عودته إلى براغ سنة 1876، فوصف بصورة أساسية البلدان الشرقية التي زارها.

وأظهر في نصوصه موهبته في الرصد، ولم يتأثر محتوى كتبه بالغرابة الأدبية السائدة في ذلك الوقت، مستخدماً الاسم الأدبي كويدو مانسفيت. ولا تزال أعمال كليمنت لدى القراء التشيكيين (لم تترجم إلى أي لغة أخرى)، ومنها "من يافا إلى القدس" (1894)، و"فلسطين" (1895)، و"من ريح الحريم والصحاري" (1909) والقصص التي نشرها في مجلة "كفيتي"، ذات قيمة معرفية حتى اليوم. 

إلى فلسطين

  • غلاف كتاب فلسطين، 1895
    غلاف كتاب "فلسطين"، عام 1895

يميز كليمنت بين شخصيات السيّاح والرحالة في فلسطين، فيقول: "خلال الإقامة الطويلة في الشرق، يتعرف المسافر إلى شخصيات متعددة لمجموعة من السيّاح، إلا أن معظمهم يعمل وفقاً للوصفات المدرجة في الكتيبات الإرشادية. ونادراً ما ينحرفون عن المسارات المألوفة للسياح الذين سبقوهم. جزء ضئيل جداً من السياح يسافر وفق مزاج خاص وبصورة مستقلة، غير آبه بالكتيبات المطبوعة. النوع الأول من السياح أكثر هدوءاً وراحة ويلتزم التعليمات، أما الثاني فأكثر جرأة ويبحث عن المغامرة في دروب غير معروفة. يتسم تعامل الأول مع العرب بالخجل وعدم الراحة، بل يتجنبهم في كثير من الأحيان، بينما يشعر الثاني بالأمان في صحبتهم ويستمتع بالضيافة في جوار خيامهم، وبالبندقية على كتفه، وقد يؤدي أحياناً دور البدوي فيلتفع العباءة العربية ويعتمر طربوشاً ملفوفاً بوشاح حريري".

وبشأن الهدف من السفر إلى فلسطين، يرى كليمنت أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، لكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين. ومن المؤكد أن الشخص، الذي يستعد بجد لهذه الرحلة، عليه إتقان اللغة العربية إلى درجة تجعل التواصل مع السكان العرب ميسراً، فعليه أن يحفظ عن ظهر قلب 200 جملة قصيرة وعدداً من الكلمات للاستخدام اليومي المستمر، وستكون كافية بناء على تجربتنا الخاصة. وإذا ما انغمس المسافر جزئياً في عادات العرب وأعرافهم، فستكون حصيلة رحلته مهمة جداً ومضمونة مسبقاً". ويقدم إلى القراء جملة من النصائح المهمة وعرضاً للأغراض واللوازم المطلوبة لإتمام الرحلة.

انطلق كليمنت في رحلته من جبل نيبو، الواقع غربي المملكة الأردنية اليوم، إلى غزة، وزار عسقلان. ونقتطف من هذا القسم من الرحلة ما يأتي: 

من جبل نيبو إلى غزة

  • في الطريق إلى غزة
    في الطريق إلى غزة

"وقفت الشمس الحارقة عالياً فوق الهضاب، التي تمتد على الشاطئ الشرقي للبحر الميت إلى أعلى نقطة، نيبو العظيم، ارتفع لاستقبالنا من أرض موآب (مادبا الحالية). تحت الصخور شديدة الانحدار تتلألأ مساحات طويلة من المياه، تقطعها في عدة أماكن الجبال الغربية للشاطئ. يندمج وادي الأردن مع سهل أريحا مع جبال السامرة البعيدة إلى الشمال الشرقي في لون رمادي داكن... وتنتشر بالقرب منا عدة خيام داكنة لقبيلة التعامرة من بيت لحم.

"في الصباح الباكر خرجنا بصحبة شيخ وابنه من التعامرة، ونتيجة لتأكيدهما أن لا خلاف بين البدو والحكومة في المنطقة بأكملها، سرنا بلا مبالاة. سرنا إلى وادي الراهب. كانت معنا حمولة من الأسلحة، ولم نفكر في استخدامها بصورة جدية، لكن علينا إظهارها بحيث تُرى من مسافة كبيرة، الأمر الذي يضمن لنا عدم المساس بنا.

"هنا في فلسطين، من الضروري الحصول على شهادة سلاح تصدرها الشرطة التركية للجميع في مقابل 11 قرشاً عبر القنصليات، ويجب الحصول على جواز سفر خاص كذلك. بعد رحلة استغرقت ساعة واحدة، مررنا في قرية بيت تمر الصغيرة، وبعد نصف ساعة من هناك، مررنا في وادٍ صغير، وقفنا عند سفح جبل الفريديس.

"يقف الجبل المخروطي وحيداً تماماً بجلال كبير، مثل بركان خامد لم يكن موجوداً من قبل... وبعد 7 ساعات من الراحة ليلاً، نهضنا وركبنا على سرجنا عند الرابعة صباحاً، وواصلنا السير في الهواء الطلق إلى المرتفعات، على طول الطريق المؤدي من القدس مباشرة إلى غزة.

"لفتتنا الكهوف الصخرية، وفكرنا في زمن كانت تؤوي مجتمعاً من الزاهدين. مررنا في منطقة جبال يهودا الأقل إثارة للاهتمام، وسننزل منها بعد ذلك إلى سهل الفلسطينيين المبارك. ها هو المشهد بأكمله ينكشف أمامنا الآن، سهل منبسط تتخلله تلال خفيضة، مشهد رائع، هناك عدد قليل من القرى. سهل رحب فسيح، لو انتظمت ظروف الزراعة فيه لازدهر وأنتج محاصيل وافرة، إلا أن المشاحنات بين البدو وسكان الريف حيناً، وابتزاز الحكومة للفلاحين الفقراء، ومعاملتهم وفق منطق القوة، من العوامل التي لم تسمح لهم بتنمية السهل. نحو الساعة الثانية ظهراً ظهرت لنا أخيراً أشجار النخيل النحيلة وبساتين البرتقال والزيتون التي تزنر مدينة غزة، وخلال ربع ساعة توقفنا في أحد هذه البساتين. نصبنا خيامنا على الفور، ولم ننتقل منها سوى في اليوم التالي".

مدينة غزة

  • مشاهد من غزة
    مشاهد عن غزة

"كانت مفاجأة كبيرة لأهل مدينة غزة أن يروا أجنبياً أشقر الشعر قادماً إليهم من وسط هذه البلاد. الحياة في المدينة مطبوعة بالطابع المصري نتيجة ارتباطها الحيوي بذاك البلد. يمكننا ملاحظة ذلك في السوق التي تكررت زياراتنا لها، وهي سوق كبيرة جيدة التجهيز، تشبه بصورة كبيرة الأسواق المنتشرة في المدن المصرية.

"أول ما اشتريناه هناك بعض من تمور غزة الشهيرة والممتازة ذات المذاق الرائع والحجم الكبير. يزودنا بائع الفاكهة بأنواع متعددة من التمور في مقابل المجيدية الفضية (ربع المجيدي). في غزة، تمتلئ أيدينا بقطع النقد النحاسية التركية، ولا يمكننا أن نعرف إذا ما كانت كلها تساوي نصف مجيدي أو بشلكاً قصديرياً. مشكلة التعامل بالنقود المعدنية التركية فظيعة للغاية هنا. يتباين سعر صرف النابليون والروبل القيصري الفضي والليرة الإنكليزية بين مدينة وأخرى، وكذلك تتقلب قيمة المجيدية التركية الأكثر انتشاراً من حيث عدد القروش التي يتلقاها الأجنبي مقابلها.

"لذلك يكون سؤالنا الأول في كل مدينة نزورها: كم قرشاً مقابل النابليون؟ وهو سؤال ضروري للنفقات الصغيرة، ويمكن للمسافر تفادي الخسارة، لكن يتحتم عليه دائماً فحص قطع النقد الذهبية، لأن أغلبيتها تحتوي على شقوق صغيرة، وبالتالي يخسر المسافر عند صرفها لأن وزنها ناقص. الخسارة واقعة لا محالة عند التعامل مع الصرافين، سواء في الشارع أو في المحال التجارية، بل حتى مع عدد من البنوك، ويكثر أن تبقى قطع النقد المعدنية في جيوب المسافرين في أثناء عودتهم إلى ديارهم كتذكار من فلسطين. 

"تقع غزة اليوم على ارتفاع 55 متراً فوق مستوى سطح البحر، وأكبر عيب فيها هو أن الطريق الرملي غير المريح يستغرق ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة للوصول إلى الشاطئ. المدينة نفسها تعاني أكثر من غيرها نتيجة هذا الموقع غير السار، بحيث من المحتمل أن تظل مغلقة أمام الاتصال المباشر عن طريق البحر. وأجمل منظر للمدينة توفره تلة المقبرة، الواقعة على مسافة غير بعيدة إلى الجنوب الشرقي. من هناك تنكشف أمام العين أكثر المساحات الخضراء المظللة بالألوان، كأن المدينة تقع وسط حديقة ضخمة، يوجد فيها عدد كبير من المباني. مياه الينابيع هنا ممتازة وهي تتدفق بغزارة، تبث الحياة في الأراضي المزروعة وتعطي ثماراً رائعة.

"أن تكون في غزة ولا تزور عسقلان ولا تتذوق القلفوط (الثوم العسقلاني) الأكثر شهرة في عالمنا كله، وألا تشرب من قطرات النبيذ السماوي، سيكون ذلك خطيئة حقيقية، وخصوصاً أن هذه الرحلة يمكن القيام بها في يوم واحد.

"خرجنا في الساعة الثالثة فجراً، وفي الساعة السابعة والنصف صرنا أمام عسقلان، مكثنا فيها قليلاً ثم انتقلنا إلى قرية المجدل، فبقينا حتى الساعة الثامنة والنصف، ثم في الساعة الثانية عشرة عدنا إلى غزة من جديد. السير فوق الرمال والضفاف الرملية أمر مزعج ومحزن في آن معاً. تحرك الرياح الرمال نحو الداخل بصورة كارثية، رافعة كثباناً تخفي خلفها الكروم وأشجار التين والزيتون...".

مسجدان

  • مسجد السيد هاشم في غزة
    مسجد السيد هاشم في غزة

"أكثر ما جذب اهتمامنا، من بين مباني المدينة، المسجد الكبير الذي بني على أنقاض كنيسة صليبية، والتي كانت بُنيت بدورها فوق معبد قديم. لا يوجد أي تعصب تجاهنا ولم نتعرض لأي إساءة هنا في غزة أو في فلسطين كلها، ولم يحدث أن كنا في خطر من جانب المسلمين.

"دخلنا المسجد من دون سابق إنذار بجواربنا. فيه أضيف صحن إلى صحون الكنسية القديمة الثلاثة، مع المحافظة على الأروقة والنوافذ والمداخل بأسلوبها الأصلي. يوجد حول المسجد فناء مرصوف بصورة جميلة، يمكنك من خلاله المشي إلى المدارس ذات الطراز العربي. في إحدى الغرف تحلّق نحو 30 ولداً فلسطينياً حول معلمهم وهم يرتلون بانسجام تام السورة الـ109 من القرآن، وهي تقول: "وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ".

"إنها سورة معقولة بشكل رائع. كانت جوقة الأطفال ترتلها بصوت جميل عال، ومع الأولاد معلمهم الجالس على درجة مرتفعة فوق سجادة رثة. حاولنا عدم إزعاجهم وهم يتابعون الترتيل.  

هناك مسجد قديم آخر، دُفن فيه هاشم، جد النبي محمد. فيه منحوتات شبكية قديمة رائعة الصنع تؤدي إلى المنبر المزخرف. ويتمتع بساحة أمامية جميلة ذات أعمدة. في أثناء مرورنا بشوارع المدينة الداخلية، لاحظنا في كل مكان تقريباً البقايا الرائعة للمباني القديمة وأعمدة الغرانيت وأبنية الحجر الرملي. غالباً ما تكون الأعمدة مصنوعة بصورة متقنة من الرخام الأبيض، وفوقها تيجان تبرز جمالية العمارة الداخلية خلفها. كما أن الكتل الحجرية الكبيرة أمر شائع هنا. بين هذه الأبنية القديمة يعثر الناس على تحف معدنية جميلة وعملات معدنية وتماثيل رخامية من العصور الغابرة. يتجول أحد الموظفين المحليين حول الأجانب بصورة دائمة، ويعرض عليهم شراء أحذية متنوعة عالية الجودة بأسعار بخسة. قد يرغب في الحصول على ليرة كاملة لكنه يرضى ببعض القروش". 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.