أَزمَاتٌ كاشفة: ما الأسباب العميقة للاحتجاجات في "إسرائيل"؟

تواجه "إسرائيل" تفككاً في الميثاق السياسي والاجتماعي، بسبب تحركات لتغيير النظام القضائي بشكل جذري وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة.

  • ما هي الأسباب العميقة للاحتجاجات في
    ما هي الأسباب العميقة للاحتجاجات في "إسرائيل"؟

أظهرت الاحتجاجات غير المسبوقة في "إسرائيل" كيف تتجه السياسة في الكيان الغاصب لتشبه –في جوانب منها- السياسات في عدد من دول المنطقة العربية والشرق الأوسط: فواعل سياسة فاسدون يريدون التمسك بالحكم بأي ثمن، وآخرون يريدون الوصول إليه بأي ثمن أيضاً، حتى لو أدى ذلك إلى التهديد بـ"حرب أهلية"؛ ولو أن الأمور تتجاوز الرغبة الشخصية (نتنياهو وآخرون) أو الحزبية (ائتلاف اليمين) بالحكم، إلى صدوع اجتماعية وسياسية وإيديولوجية عميقة بدت أكبر مما كان متوقعاً، وخلافاً لما كان يُروّج له من اندماج اجتماعي واستقرار سياسي وتوازن وديمقراطية، إسرائيلياً وغربياً وحتى عربياً!.

ومن هنا وصف الاحتجاجات بأنها "كاشفة"، بمعنى أن الأمور لم تبدأ هنا، وهي ليست وليدة برنامج حكومة اليمين الائتلافية والتعديلات القضائية، بقدر ما أن الأخيرة، تُكثِّف وتُظهِّر وتكشف حجم التناقضات والمنافسات والصدوع في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحجم التحولات في القيم حول المجتمع والدولة والدين والأمة، والعلاقات المدنية-العسكرية، والموقف من الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وبالطبع المواقف والسياسات في الإقليم.

وإذ نتحدث عن فواعل سياسة، وصراع بين نتنياهو وخصومه، فإن المقصود ليس سعي شخص أو مجموعة أشخاص لـ"التنصل" من المحاكمات بتهم الفساد فحسب، ولو أن هذا أمر مهم، وإنما شريحة من السياسيين والجماعات والأحزاب والنواب أيضاً، الذين على ما يبدو، يغامرون بكل شيء ممكن من أجل تحقيق المكاسب على حساب الخصوم، وكلٌ يعتبر أن مصلحته تتطابق مع مصلحة "إسرائيل". 

حذّر المؤرخ اليهودي سيمون شاما، من أنّ "إسرائيل تواجه تفككاً في الميثاق السياسي والاجتماعي، بسبب تحركات لتغيير النظام القضائي بشكل جذري وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة"[1]. وقال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق أفيغدور كهلاني إنّ إسرائيل في "منتصف حرب أهلية". وصرح رئيس بلدية نيويورك السابق ورجل الأعمال اليهودي مايكل بلومبرغ ان "إسرائيل تسير نحو كارثة"، معتبراً أنّ "حكومة نتنياهو تلحق ضرراً بتحالفات إسرائيل في العالم، وبأمنها في المنطقة، وباقتصادها ونظامها السياسي". وهذا ما قاله الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتزوغ من ان "إسرائيل" تعيش "أصعب اللحظات التي خبرتها، ونحن نعرف في صميمنا أنّ هذه الأزمة تمثل خطراً قومياً علينا"[2].

هل الأمور كذلك حقاً، وهل تمثل الاحتجاجات تهديداً بصراعات ومواجهات خطيرة، قد تصل إلى "حرب أهلية"؛ أم أنها مبالغات الخطاب والاستقطاب السياسي والحشد في "إسرائيل" ضد أجندة ائتلاف اليمين؟

تنطلق الورقة من أن ما يحدث يمثل لحظة فارقة في تاريخ الكيان، وتحدياً غير مسبوق على الصعيد الداخلي، وصورة "إسرائيل" في العالم، وأثار مدارك تهديد وجودية بالفعل. والأمر ليس مجرد تعديلات قضائية وتغييراً في نظام المحكمة العليا، بل هو مقدمات لتغييرات كبرى في العلاقات بين مجتمع ودولة، والعلاقات الدينية-العلمانية، والعلاقات المدنية-العسكرية، وبالطبع تغييرات في طبيعة وديناميات السياسة في الكيان.

لماذا الاحتجاج الآن؟ 

تمثل حزمة التعديلات القضائية السبب المباشر للاحتجاجات، ووصفها المحتجون، وهم شريحة تبدو كبيرة في المجتمع وفواعل السياسة والأمن والمال والأعمال والقانون وغيرهم، بأنها "انقلاب قضائي"، فيما وصفها التحالف الحكومي بـ"برنامج إصلاح قضائي". والآن، ماذا عن حزمة التعديلات تلك؟

نشر موقع مركز "هشومريم" أي "الحراس" الإسرائيلي تحقيقاً بعنوان "دولة شريعة فعلياً: الانقلاب القضائي الذي لا يتحدث عنه أحد!"، قال فيه: إن الهدف من التعديلات هو "منح المحاكم الدينية اليهودية مكانة المحاكم العادية، المدنية، بكل ما في الكلمة من معنى وبكل ما يعنيه ذلك!". وتوسيع صلاحيات المحاكم الدينية لتشمل "قوانين الأموال" وقوانين الشراكة، والجيرة، والأضرار، والملكية وغيرها[3]. بكل ما يعنيه ذلك من تغيير في نظام التقاضي، والتمييز فيه ضد النساء والعلمانيين وغير المتدينين وغير اليهود الخ. 

وتتضمن التعديلات القضائية "بند الاستثناء" الذي يتيح للكنيست، بأغلبية بسيطة، إلغاء قرار صادر عن المحكمة العليا. وتطال التعديلات لجنة انتخاب قضاة المحكمة العليا، التي ستتألف من تسعة أعضاء، هم: رئيس الحكمة العليا، ووزير العدل، وثلاث نواب من الكنيست بينهم رئيس لجنة الدستور، وعضو من الائتلاف الحاكم، وعضو من المعارضة، واثنين من القضاة المتقاعدين يعينهم وزير العدل بموافقة رئيس المحكمة العليا. ويكون تعيين المستشارين القانونيين في الوزارات، مباشرة من قبل الحكومة، ويكونون خاضعين للوزراء، بدلاً من تبعيتهم للمستشارة القضائية للحكومة. وثمة تغييرات في قوانين تخص الانسحاب من مستوطنات في محيط غزة وغيرها.

إن الجانب الأكبر من التعديلات القضائية والقانونية، هي جزء من الاتفاقات التي أسست للائتلاف الحكومي، وتلتزم حكومة نتنياهو بها، وترى أنها تملك الأغلبية في الكنسيت، والتي تعبر بدورها عن أغلبية في اتجاهات الناخبين في "إسرائيل". 

يرى ائتلاف اليمين الحاكم أن "إسرائيل" محكومة من قبل بيروقراطية علمانية وضباط الجيش السابقين وقوى وفواعل "غير يمينية"، وأن بيروقراطية الحكم لا تعبّر عن اتجاهات الناخبين، وهي الاتجاهات التي أخذت تتحول إلى اليمين منذ العام 1977، وصولاً إلى الانتخابات في السنوات الأربع الأخيرة، وخاصة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر  2022.  

ميزان المعنى والقوة

إن ميزان المعنى والقوة في المجتمع والكيان يتغير بشكل متزايد وشبه مستقر أو مؤكد لصالح اليمين، وتحول الميزان داخل خط اليمين نفسه لصالح اليمين المتطرف، وهو ما أكدته بشكل حاسم تقريباً نتائج خمس انتخابات للكنيست خلال السنوات الأربعة الماضية. وهذا له معنيان رئيسان: 

-      الأول 

من حيث المعنى، وهو أن فكرة اليمين تغلبت على اليسار، واليمين المتطرف تغلب على اليمين العلماني وأطياف اليمين المختلفة الأخرى. وتغلَّبَ التدين على العلمانية، وبالتالي فإن فكرة اليمين عن معنى الدولة والهوية والأمن والعمل والإنتاج والقضاء وغيرها هي التي تغلبت، وتمكنت من أن تسيطر على براديغم التفكير والمزاج العام في الكيان. 

-      الثاني 

من حيث القوة، وهو أن ذلك التحول في المعنى له مقتضاه من حيث السلطة والحكم، ما يعني تظهير فائض المعنى إلى قوة أو سلطة فعلية، وإعادة صياغة النظم والقوانين، والسلطات والقضاء والأمن، بحيث تعكس اتجاهات القيم والمزاج السياسي الجديد في الكيان. وإن على الائتلاف الحكومي أن يتولى ذلك التغيير في اتجاهات المعنى ليصبح تغييراً في السلطة والحكم. ووجد الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة نتنياهو، أن البداية يجب أن تكون في تفكيك أحد أهم العقد التي تحول دون التغيير، والمتمثلة بالمحكمة العليا والنظام القضائي.

وهكذا، فإن الاحتجاجات هي ضد التعديلات، ليس بما تتضمنه فحسب، وإنما بما تحيل إليه أيضاً، وبما تشرع به، أي تغيير ليس نمط السياسة والحكم بالمعنى الإجرائي فحسب، وإنما تغيير الأساس في ميزان الضبط والتوجيه في السياسة أيضاً، ومن ذلك تغيير "القواعد المؤسسة" للكيان، أو ما يُعرف بالقواعد فوق القانونية (أو فوق الدستورية، إن أمكن التعبير) التي يسير وفقها الكيان منذ ديفيد بن غوريون، وما يعرف بـ"القوانين الأساس" في "إسرائيل"، وهي بمثابة دستور لدولة أو كيان بلا دستور، الذي لم يعد مناسباً بنظر شريحة كبيرة من الإسرائيليين، وخاصة اليمين. 

لم يعد مناسباً أن يبقى بن غوريون حاكماً من قبره، ولا أن تكون الدولة وبيروقراطية الحكم علمانية فيما الكتلة الناخبة الرئيسة فيها متدينة، وكذلك الكتلة الرئيسة للنواب متدينة، فيما يتراجع اليسار اجتماعياً وسياسياً وبرلمانياً الخ.

لكن كيف وصلت الأمور إلى هنا؟ 

هناك عدة مداخل للبحث في الأسباب العميقة لما يحدث في "إسرائيل"، وإليكم بعضاً من أهم النقاط التي تفسر ما يحدث، وتتناول: أسباب بالولادة أو بصمة التأسيس، والتحول في مدارك الهوية والمجتمع والدولة، والعلاقات المدنية-العسكرية، والعلاقات الدينية-العلمانية، والتحولات الليبرالية في الاقتصاد، وتحولات البنى الاجتماعية، والتحول نحو اليمين، وتأثير المقاومة في فلسطين سواء داخل أراضي الـ48 أو أراضي 1967، وتأثير خط المقاومة وخاصة ظاهرة حزب الله. ولو أن الورقة تركز على عدد من النقاط المذكورة. وأما النقاط الأخرى فتتطلب حيزاً آخر.  

"مشكلات بالولادة"!

إسرائيل هي كيان استيطاني إحلالي، وهي اخر المشاريع الاستيطانية في العالم اليوم، بعض المشاريع الاستيطانية كما في جنوب أفريقيا مثلاً، انتهت –بحكم عوامل عديدة- إلى "تسويات تاريخية"، في حين أن طبيعة المشروع الصهيوني في المنطقة تقوم على منظور واحد، هو "يهودية الدولة". 

يدرك الإسرائيليون صعوبة أن تكون دولة مستقرة على أرض للغير، وصعوبة تأمين الظروف الاجتماعية والجغرافية والتاريخية لإقامة دولة قابلة للاستقرار والاستمرار، في ظل عدم القدرة على تفكيك المسألة الفلسطينية، ليس فلسطيني الضفة والقطاع والشتات فحسب، وإنما عرب الـ48 أيضاً، والأهم هو الإخفاق في تفكيك مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي.  

والواقع أن قدرة الكيان على "صهر" المكونات الواردة من أنحاء العالم لتكون "مجتمعاً واحداً"، تواجه صعوبات متزايدة، وثمة صدوع وخطوط انقسام اجتماعي ملازمة للتأسيس، إن أمكن التعبير، مما لم يمكن لسياسات الصهر الاجتماعي تجاوزه، وخاصة خطوط الانقسام بين الشرقيين والغربيين، بين المراكز المدينية والمستوطنات، المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن التفاوت الاجتماعي في أنماط العيش والعمل والإنتاج والدخل.  

اختبار أو استفتاء دائم

وباعتبار أن فكرة الدولة في "إسرائيل" غير مستقرة، وتبدو غريبة وشاذة في عالم السياسة اليوم، فهذا ما يجعلها تحت اختبار دائم، قل استفتاء دائم بين اليهود في فلسطين، فهي من جهة "دولة لليهود" من كل أنحاء العالم، ولكنها لا تضمهم جميعاً، ولا تستقر الفكرة، من هذا المنظور، بوجود الفلسطينيين على الأرض نفسها. وهي من جهة أخرى حيز جغرافي وسيميائي وتاريخي وسوسيولوجي تم اغتصابه والاستحواذ عليه بالقوة، قوة السلاح والحرب والتهجير والإبادة، ولكنه ليس محض جغرافي أو حيز لليهود، إذ إن البعد الفلسطيني أعمق وأقوى من أن يمكن لـ"إسرائيل" احتواؤه وتفكيكه، ولا تزال نسبة الفلسطينيين داخل أراضي الـ48 كبيرة، وهي في ازدياد، باعتبار نسبة التزايد السكاني بالولادة كبيرة نسبياً، فضلاً عن العمق الوطني الفلسطيني في أراضي الـ1967 والشتات، وبالطبع العمق العربي (والإسلامي).

تجاوز العقد بالحديث عنها!

والواقع أن عدداً من المؤرخين الإسرائيليين تحدث عن المجازر والكوارث والتهجير الخ التي قامت بها الحركة الصهيونية منذ حرب 1948[4]. وهذا يضع المشروع الصهيوني أمام مصادر تهديد من الصعب تفكيكها، إذ إن الكيان تأسس بالقوة العسكرية والتهجير والإبادة، وليس بقوة الواقع والتاريخ والديمغرافيا. هذا يعزز السردية العربية والفلسطينية، التي تقوم على الحقوق غير القابلة للتصرف أو غير القابلة للتقادم بأنهم أصحاب الأرض. 

إن حديث المؤرخين والسوسيولوجيين عن مآسي وكوارث التأسيس أو ما يعرف إسرائيلياً بـ"حرب الاستقلال" عام 1948، ليس من باب "تصحيح التاريخ" أو "التكفير" عن تلك الجرائم، وإنما من باب تجاوز العُقَد بالحديث عنها[5]. وعلى مبدأ: نعم حدث ذلك. لكن المشروع يجب أن يستمر! ذلك أن من مشكلات أو صدوع التأسيس الملازمة للكيان، هو أن "إسرائيل" هي نتيجة تطور أو تحول من ميليشيات ومستوطنات إلى كانتونات وغيتوات، ومن عصابات إلى جيش، ومن جيش إلى دولة أو كيان.

المزاودة المحاكاتية

في "إسرائيل" نوع من صراع المعنى أو "المزاودة المحاكاتية" حول من الذي يعبّر عن اليهودية والهوية، ومن الذي يعبّر عن الدولة، ومن يحدد ما يصلح للمجتمع والدولة[6]، وهذا سؤال قديم-جديد، ودفع اسحق رابين حياته ثمناً لاستعداده التخلي عن بعض المستوطنات. كما دفعت أحزاب اليسار ثمناً لتحالفاتها مع النواب العرب في الكنيست لتشكيل حكومات ائتلافية. الثمن هو –مع عوامل أخرى- تراجع التصويت لهذه الأحزاب في الانتخابات، بل إن التراجع أصاب الأحزاب اليمينية لصالح الأحزاب اليمينية الأكثر تشدداً والأحزاب الصهيونية.  

والسؤال المطروح مع موجة الاحتجاجات هو: هل سياسة حكومة الائتلاف اليميني تمثل الفكرة اليهودية، وهل نمط السياسة والحكم في "إسرائيل" لا يزال صالحاً في اللحظة الداخلية والإقليمية والدولية الراهنة؟ 

الجواب –في ضوء اتفاقات الائتلاف اليميني- هو لا، ولذا قدمت حكومة نتنياهو الائتلافية حزمة تعديلات قانونية، تفسح المجال أمام المزيد من "أدينة" الاجتماع والسياسة في الكيان، بوصفها الاستجابة الحكومية المناسبة ومقدمة لسياسات أخرى تضمن أن تكون "إسرائيل" أكثر يهودية بل "دولة يهودية" وليس مجرد "دولة لليهود". 

إن "إسرائيل" هي الكيان الوحيد في العالم الذي يعد أي يهودي في العالم مواطناً ما أن تطأ قدماه أرض الكيان، هي "دولة اليهود" في العالم، كما تتكرر الإشارة، ولكنها تعد الناس أهل الأرض الأصليين غير موجودين، وإن اعترفت بوجودهم فبوصفهم مشكلة تأخر حلّها، أو مشكلة يجب الإسراع في حلّها، بالطرد والاقتلاع ما أمكن، والحكم العسكري والحصار لمن لم يمكن إبعاده، والتمزيق والاحتواء العميق والمديد، كما هو حال مع فلسطينيي الـ48.

مع تزايد حضور اليمين في الكيان، تزداد المراجعات المتطرفة حول فكرة الكيان ومفهوم الهوية والدولة والأمة، منها ما يعيد إنتاج السردية الصهيونية المتطرفة حول "أرض من دون شعب، إلى شعب من دون أرض"، ويهودا والسامرة، وأرض التوراة، وأرض الميعاد. وهي سرديات كانت موجودة على الدوام، لكن في خلفية المشهد وفي "لا وعي" الساسة والعسكر والكيان ككل، لكنها أمست اليوم في قلب المشهد. 

وها أن  بتسلئيل سموتريتش،  وزير المالية في حكومة نتنياهو، يقول في خطاب له في باريس: "على المرء أن يقول الحقيقة من دون الانصياع لأكاذيب وتحريفات التاريخ، ومن دون الانصياع لنفاق حركة المقاطعة والمنظمات الموالية للفلسطينيين". ويضيف: "لقد اخترعوا شعباً وهمياً ويطالبون بحقوق وهمية في أرض إسرائيل لمجرد محاربة الحركة الصهيونية". يتابع: "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني ... الشعب الفلسطيني اختراع لم يتجاوز عمره 100 عام"[7]. 

الإشارات والتنبيهات

-      يفترض أن تضع مؤشرات القوة والإمكانات "إسرائيل" في موقع آمن حيال مصادر التهديد المختلفة، مقارنة بكثير من الكيانات والدول حول العالم؛ لكن ما يحدث هو العكس، إذ إن الشعور بالتهديد يزداد حدة وتواتراً، ويظهر صدوعاً في المدارك والسياسات، ليس حيال الخارج فحسب، بل حيال الداخل أيضاً، وربما قبلاً، وهذه ليست مجرد مدارك تهديد اعتيادية، وإنما هي مدارك تهديد وجودية.

-      يشكل التحول إلى اليمين واحدة من التحديات الكبرى، صحيح أنه محل اعتراض شريحة من أهل السياسة والفكر، إلا أن ذلك التحول هو نتيجة تطورات متزايدة في طبيعة المجتمع، الذي يتجه إلى التطرف في لحظة اتجه فيها عدد من الدول العربية إلى التسوية والتطبيع مع "إسرائيل"، أنظر اتفاقات إبراهام مثلاً، والبحث عن تحالف إقليمي يكون بمثابة "ناتو عربي" في مواجهة إيران. 

-      لا تشهد "إسرائيل" خلافات جدية حول طبيعة الكيان، وقوته، وكيفية إدارة الأمن واحتواء مصادر التهديد في الخارج، ولا حتى في الداخل، مع وجود فروق في الكيفيات وأنماط توزيع الموارد، فجميع فواعل السياسة من غير اليهود ضمن أراضي الـ48، هم على هامش المشهد، وغالباً ما يتم استخدامهم كورقة مساومات أو موازنات في لعبة الائتلافات الحكومية، ومنحهم فرصة التأثير النسبي في أمور اجتماعية وخدمية مطلبية وليس سياسية وأمنية واستراتيجية. 

-      إن من المهم البحث في دور المقاومة داخل فلسطين وخارجها في ديناميات الاستقطاب الداخلي في "إسرائيل"، وفي بروز مدارك تهديد متزايدة تخلق استجابات متوترة وخائفة (مثل التوجه نحو اليمين المتطرف) تزيد من الأزمات الداخلية، بدلاً من أن تحتويها أو تحلهّا. فضلاً عن البحث في العلاقات بين الجيش والسياسة، وأثر التحولات الاقتصادية نحو الليبرالية، والدين والعلمانية، وتجربة المقاومة في لبنان ودول المنطقة، وخاصة ظاهرة حزب الله، وغيرها.  

في الختام 

لعل أبلغ تعبير عن حجم الصدوع والمخاوف من الأزمة السياسية في "إسرائيل"، هو ما ذكره تقرير لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (inss) من أن الأزمة تعزز نظرية الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، عن "بيت العنكبوت"، وان "إسرائيل تقترب من نهايتها"[8]. 

قد يتمكن الإسرائيليون من التوصل إلى تسوية، لكن الأزمة كشفت عن حجم التناقضات والصدوع الاجتماعية والسياسية، والأهم هو استخدام صناديق الاقتراع من أجل الانقلاب على نمط التفكير والفعل السياسي في "إسرائيل" الذي كان سائداً منذ إعلان الكيان عام 1948 وحتى اليوم. ولعل النداء الرئيس الذي لعب عليه خطاب اليمين هو نداء الأمن ويهودية الدولة، وهو نداء تقع المقاومة فيه موقعاً مركزياً، كما هو معروف، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم. 

تعطي الاحتجاجات في "إسرائيل" مؤشرات جدية حول طبيعة الكيان ونقاط الضعف الرئيسة فيه، والتحولات الاجتماعية والقيمية التي يشهدها، بقي أن تجد تلك المؤشرات من يقرأها بشكل جيد، ليس بقصد تدبيج الخطابات، وإنما تدبير السياسات حيالها، بوصفها العدو رقم واحد في الإقليم، والذي يجب مواجهته. 

الهوامش 


[1]  "لماذا يظهر سلاح الجو الإسرائيلي كأبرز المعترضين على التعديلات القضائية؟"، الميادين، (7 اذار/مارس 2023). 
[2]  "رئيس الاحتلال الإسرائيلي: نحن في أزمة تاريخية تهدد بخرابنا من الداخل"، الميادين، (6 اذار/مارس 2023). 
[3]  الجانب المخفيّ من تشريعات "الانقلاب القضائي": خطوة أخرى كبيرة نحو جعل إسرائيل "دولة شريعة" (يهودية)!، المشهد الإسرائيلي، 27 شباط 2023. 

 [4]  انظر مثلاً: إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007). وشلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عياش، مراجعة وتقديم انطوان شلحت، (عمان: الدار الأهلية، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الاستراتيجية، 2011). 
[5]  باروخ كيمرلنغ، المجتمع الإسرائيلي: مهاجرون مستعمرون مواليد البلد، ترجمة عن العبرية: هاني العبدالله، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011). 
[6]  إيلان بابيه، فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة، ترجمة: محمد زيدان، (عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015). 
[7]  "إدانات دولية وعربية لتصريحات وزير مالية الاحتلال سموتريتش"، الميادين، 21 شباط/فبراير 2023. 
[8]  "الأمن القومي الإسرائيلي": أزمة "إسرائيل" تعزز نظرية بيت العنكبوت لنصر الله"، الميادين، (17 اذار/مارس 2023).