"أنا الشعب": كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية؟

لا تزال الشعوبة مقولة سجالية ووصماً لتيار سياسي أو حركة جماهيرية معادية للأجانب في بلدان تتلقى أعداداً متزايدة من المهاجرين.

  • كتاب
    كتاب "أنا الشعب" للباحثة ناديا أوربيناتي.

تغيب الظاهرة الشعبوية عن العالم العربي، ويغيب الحديث عنها، على الرغم من انتشارها في مناطق عدة حول العالم. وذلك خلافاً لظواهر أخرى كثيرة، مثل: الديمقراطية وحقوق الأنسان، إنهما غائبتان تقريباً في العالم العربي، لكنهما حاضرتان بقوة على مستوى الخطاب والمطالبات السياسية والاحتجاجات والثورات.

يمثّل كتاب "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية؟" للكاتبة ناديا أوربيناتي، واحدة من الكتابات المهمة التي قدمت ظاهرة الشعوبية مترجمة لقراء العربية. وهو جزء من السجال النشط حول ظاهرة الشعبوية في العالم، مع تراجع الإيديولوجيات التقليدية أو الإيديولوجيات التي كنا نعرفها. 

الشعبوية ظاهرة قديمة نسبياً. وهي تزداد انتشاراً في العالم اليوم. وأخذت المقاربات حيالها بالتنوع، فهي إما "مفهمة" تحاول الربط بينها وبين الفاشية؛ أو "نمط حكم" موجود في هوامش الغرب والنظام لعالمي، وخاصة في أميركا اللاتينية؛ أو مشكلة تتصل بسيرورة البناء الوطني في البلدان المستعمرة سابقاً؛ أو نمطاً جديداً من التحشيد ضد الديمقراطية والليبرالية والطعن بها، أو إشارة إلى نهضة الأحزاب اليمينية في أوروبا". ص10. 

ولا تزال الشعوبة، مقولة سجالية وليس تحليلية، واسم أو بالأحرى سمة أو وصم لتيار سياسي وحركة جماهيرية معادية للأجانب في بلدان تتلقى أعداداً متزايدة من المهاجرين، أو لديه نزوع متزايد للنزعة الذاتية أو الداخلية أو القوموية الخ.

يتحدث الكتاب عن "تقسيم البحوث الأكاديمية المعاصرة حول الشعبوية إلى مجموعتين، وفقاً لما إذا كانت تعامل الشعبوية بوصفها أيديولوجيا وأسلوباً، أو بوصفها حركة استراتيجية لإعادة تشكيل وتحويل السلطة السياسية. القراءة الإيديولوجية مصممة للإجابة عن سؤال وجودي: ما هي الشعبوية. 

أما القراءة الاستراتيجية، فهي مصممة للإجابة عن سؤال مختلف: ما هي الاستراتيجية الشعبوية للاستيلاء على السلطة، وماذا تفعل الشعبوية بالمؤسسات الديمقراطية؟" ص 177.

مجاز فتغنشتاين

من أجل تمثيل جيد للظاهرة، يتوسل الكاتب مجاز لودفيغ فتغنشتاين "التشابه العائلي". يلتقط المجاز "المطابقة الحدية للشعبوية ... بدلاً من التعامل الحصري مع السمات الأكثر وضوحاً المكتشفة في جميع الصور الشخصية" لأفراد العائلة. أخذ فتغنشتاين في الحسبان وجود الحواف الضبابية المرتبطة بالسمات غير الشائعة أو حتى الاستثنائية". ص40. هذا التصور ساعد فتغنشتاين في "صياغة تصور جديد للفرد: مرن وضبابي ومطلق". وهذا يساعد في تمثيل وتجسد "الحافات الضبابية التي تتشاطرها الشعبوية مع كل من الديمقراطية والفاشية". ص41. كما يساعد في تلمّس حالات التشابه والأنماط التكرارية لانتشار الظاهرة حول العالم. 

"تدفق العواطف والكراهية والرغبات في مثل سياسية غائمة وغامضة". ص42. هذا ما يمكن تقصّيه في ظواهر مختلفة حول العالم اليوم: التوتر والغضب حيال الحكومات ونظم الحكم، وزيادة تواتر التظاهرات والاحتجاجات حول العالم، وكراهية الأجانب الخ.

ديمقراطية الزعيم

في بدايات دراسة الشعبوية، ربط الباحثون بينها وبين رد الفعل على عمليات التحديث (في المجتمعات ما بعد الاستعمار) والتحول الشائك للحكم التمثيلي (في المجتمعات الديمقراطية). ص36. لكن المطلوب –في رأي الكاتبة- هو وضع  الظاهرة "ضمن مرحلة الانتقال من "ديمقراطية الأحزاب" إلى "ديمقراطية جمهور المتلقين" (أو "ديمقراطية الجمهور العام")".

ومن هنا، تبدو الديمقراطية الشعبوية المعاصرة "مثل ديمقراطية تتمحور حول زعماء أكثر من تمحورها حول أحزاب مهيكلة. ومثل ديمقراطية تكون الأحزاب فيها أكثر مراوغة وقدرة على زيادة جاذبيتها لأنها تعتمد على تماهٍ عاطفي مع زعيم (أو زعيمة) وخطاباته (أو خطاباتها) أكثر من اعتمادها على المطالبات الحزبية".

"تعد الأحزاب الشعبوية حركات كلانية ذات تنظيم فضفاض. وبناء عليه هي قادرة على الجمع بين كثير من المطالبات المختلفة تحت راية زعيم تمثيلي واحد. الجمهور العام غير المتمايز –جمهور المتلقين- هو التربة الخصبة التي يرسّخ فيها نمط شعبوي من الديمقراطية جذوره. تنبثق الأنماط المتغيرة أو الجديدة بالفعل في ديمقراطية الأحزاب، مثلما وثّق علماء السياسة. تستل هذه الأنماط الجديدة أقطاب الجذب التي في وسعها توسيع الإجماع، بفضل زعيم شعبي لم يعد متحصناً داخل هيكل الحزب ويستهتر بمؤسسات الحزب، وهو على أهبة الاستعداد لاستخدام آلة الحزب لتملق جمهور متلقٍّ (وهيئة انتخابية) ليس أوسع من عضوية الحزب (كما في الديمقراطية الانتخابية) فحسب، بل كذلك غير حزبي بطريقة أو بأخرى، بمعنى أنه قادر على تحفيز كثير من المصالح والأفكار المختلفة تحت راية زعيم الشعب". ص47. 

مناهضة السياسة

إن "النزعة إلى مناهضة مؤسسة الحكم"، تمثل "البارادايم الذي يجعل الشعبوية لاهوتاً سياسياً، ويحوّل السلطة الدستورية لديمقراطية الأحزاب إلى نظام جديد هو حقاً قوة الحزب (parti-kratic). ص 70.

تبدو الشعبوية مناهضة للأحزاب، لكنها في نهاية المطاف، "تدفع باتجاه نوع جديد من التمثيل، قائم على علاقة مباشرة توحد الشعب بزعيمه". وتبدو الانتخابات بالنسبة للشعبويين نوعاً من "الاحتفال" لـ"الشعب" بانتصار الزعيم. وتحذر الكاتبة من النظر للشعبوية من منظور يسار–يمين، أقلية-أغلبية، لأن ذلك مضلل، على ما تقول، ذلك أن الظاهرة الشعبوية هي "نوع مختلف عن الأحزاب"، وتتطلع لـ"إجماع الشعب" ولبس مجرد فوز بنسبة أو أغلبية". ص71.

قدمت مارغريت كانوفان هذه الظاهرة بدقة منذ سنوات، قالت: "تصور أن "الشعب" واحد، وأن الانقسامات بين أجوائه ليست تضارباً حقيقياً في المصالح بل مجرد فئات تخدم مصالحها الذاتية، وأن الشعب سترعاه بصورة أفضل زعامة غير سياسية وحيدة ستضع مصالحه أولاً .... هذه الأفكار مناهضة للسياسة، لكنها مع ذلك عناصر أساسية في استراتيجية سياسية استخدمت في أحيان كثيرة للظفر بالسلطة". 

نجد في النص المقتبس من كانوفان، في رأي الكاتبة، "المكوّنات الأساسية للغز الشعبوية: حزب لا يريد مجرد الدفاع عن مصالح أو مطالبات، بل يسعى بالأحرى إلى حشد الطاقات الاجتماعية لخلق وحدة واسعة في مواجهة خصومه، إذ إن في إمكانه الحكم كأن إرادة أغلبية هي إرادة الشعب صاحب السيادة. ص71. 

تحشد الشعبوية بقوة ضد الأحزاب، ولكن طموحها العميق هو "دمج أكبر عدد ممكن من الأفراد فيها حتى يمكن أن تصبح الحزب الوحيد للشعب وتكتسح العدد الهائل من الانتماءات الحزبية التي سبقت ظهوره". ص73.

وهكذا فإن إحضار الشعب إلى السياسة أو العكس، لا يهدف إلى تغيير الشعب، أو تنقيته، وإنما تغيير روح الشعب، وقلب منظور الإرادة العامة رأساً على عقب. وبالتالي فإن أي ربط بين الشعبوية وفكرة الإرادة لدى جان جاك روسو "هي خطأ بالكامل"، بتعبير الكاتبة. إن جذر الشعبوية هو الشعب غير النخبوي، أو الجماهير من دون النخب: هي مناهضة مؤسسة الحكم". ص 81.

الشعائرية

يستخف الشعبويون بأعدائهم ليس أساساً بسبب محتوى ما يقترحونه، بل بسبب الإقرار الشعبوي بأن من لا يندمجون بشعب الشعبويين ليسوا جزءاً من الشعب .. هذا يجعل الانتخابات مجرد شعيرة لأنها لا تفعل شيئاً سوى التعبير عن الأصوات وجمعها. تظهر الانتخابات الأغلبية، لكنها لا تخلقها؛ إنها تكشف في الواقع أغلبية يقال إنها توجد بالفعل "الشعب الصالح" أو "الأصيل"، ويبرز زعيمها ويجعلها منتصرة". ص148.

بالتالي، فإن "الأغلبية الشعبوية ليست أغلبية بين أغلبيات أخرى. إنها الأغلبية "الصالحة"، وشرعيتها ليست مجرد شرعية عددية، لكنها شرعية أخلاقية (معنوية واجتماعية وثقافية). ومن المعتقد أن هذا الأمر يجعلها مستقلة عن الإجراءات الديمقراطية وأعلى منها. قد يقول قائل إن الشعبوية تستخدم الانتخابات كاستفتاءات. وبذلك هي تشوه الانتخابات". ص148. و"إن الزعماء والأحزاب الشعبوية في السلطة لا يكتفون بمجرد الفوز بالأغلبية؛ هم يبتغون سلطة بلا حدود، ويريدون البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة". ص170.

أحد الأفكار أو المحاججات الرئيسة في الكتاب تتمثل في أنه "لا يمكن تصور الديمقراطية خارج الثنائية التي تعارض الأكثرية (التي لا تمسك بمقاليد السلطة) بالأقلية المتنفذة (التي ليست حقاً جزءاً من الشعب لأنها تمسك بمقاليد السلطة الاجتماعية والسياسية)". ومع ذلك فإن من الخطأ عد الشعبوية "دعوة للحكم المباشر". إذ إن ما يحدث هو الاهتمام بـ"خلع الطبقة السياسية وإحلال أخر مكانها، ولا يسمح "للشعب" بأن يحكم مباشرة. يبقى الشعبوي عاملاً من عوامل صنع القبول، وليس حكماً مباشراً". وهكذا، فإن الديمقراطية الشعبوية نقيض الديمقراطية التمثيلية و"يكمن جوهر تناقضها في إعلانها كونها تمثيلاً بوصفه تجسيداً بدلاً من كونها تمثيلاً تفويضياً". ص 178.

تقول حنة فينيكل بتكن: "إذا كان الهدف الرئيس الذي يتعين تحقيقه هو التحام الأمة في كل موحد ... من المغري استنتاج أنه في إمكان رمز دراماتيكي واحد تحقيق ذلك بفعالية أكبر بكثير من كامل هيئة تشريعية من الممثلين". ص180. والواقع أن الشعبويين يتبعون سياسات براغماتية، يدخلون في مساومات وفساد واستئثار وتركيز للموارد الخ ويمضون في سياسات في الواقع تخالف ما يقولوه ويلتزمون به في العلن.

لكن الحكومات الشعبوية تخفق في وعودها. وإذا ما ظهر ذلك، تكون الحجة، أنها ليست مسؤولة عن ذلك. المسؤول هو الظروف أو التدخلات الخارجية أو التراكمات التاريخية أو عوامل إخفاق خفية ملغزة في المجتمع والدولة الخ. وإن تجاوز ذلك يتطلب المزيد من التمركز للسلطة، والكثير من الولاء، والقليل من المراقبة والمساءلة الخ. 

"يعود منشأ المعضلة الشعبوية إلى مماهاة التمثيل بالتجسيد. وهذا من شأنه أن يعرض التعددية للخطر في المبدأ، وهذه التعددية لا يضمنها سوى التمثيل بوصفه تفويضاً انتخابياً". ص 187. تضيف الكاتبة: "في النهاية، ينبثق عجز الشعبوية عن دمج السياستين "الخلاصية" و"البراغماتية" من استخدامها لنموذج تمثيل غير قادر على التصالح مع ركائز ديمقراطية الأحزاب .. أعني التعددية الحزبية". ص 187.

إلهام هوبز

"تتمسك أنظمة الحكم الشعبوية كافة باسم زعيمها. إن "بناء الذاتية الشعبية ... يصل إلى نقطة حيث تجري وظيفة المجانسة باسم مجرد: اسم الزعيم". وينجح "تجميع من عناصر غير متجانسة" عندما يشكل وجه زعيم "مظهراً خارجياً للتضمين" يكون الجمعي تكويناً حرفياً. مع أفول الدور السياسي للطبقات والسياسة الطبقية، يجد التفكك التنظيمي للمجتمع وانعدام تجانسه مبدأ تحديد هويته في "اسم الزعيم". يتولى هذا الزعيم  الشعب، ويصبح صوته ومجازه". ص 184. 

هذا يذكر بدولة توماس هوبز. وهذا هو بالذات (إلهام هوبز) ما يظهر في كتابات مارغريت كانوفان وإرنستو لاكلاو. ص 184. ويذكر ذلك بـ"أمير" ماكيافيلي. ص 185.  ويتحدث كارل شميت عن أمر مشابه، ذلك أن "الزعيم لا يسعى إلى الشرعية بالمساءلة الرسمية والدفاع عن الأحزاب، لكنه يستخدم الانتخابات كطريقة من طرق التذكية". ص 187. 

شعبوية من دون زعيم

"إن خلق زعيم شعبوي هو مشروع استراتيجي يتطلب عمل "مثقفين سياسيين". "يساعد" هؤلاء المثقفون المجسد في توسيع المقولات بتشكيل السردية ويساعدونه في ابتكار رموز فعالة. أنشأت كريستينا كيرشنر رئيسة الأرجنتين أمانة سر للتفكير الوطني عام 2014، كان لاكلاو مثقفها العضوي. فساهم في بناء "الكيرشنرية" عن طريق أسطرة وفاة زوجها نيستور، وتشكيل فريق لكرة القدم "من أجل الشعب" مع نجم كرة القدم دييغو مارادونا. ويستحضر لاكلاو في كتابه "العقل الشعبوي" شيئاً من أساليب ماكيافيللي ويقدم نصائح لـ"الأمير". ص189.

لكن، ثمة ما يجب التحوط منه أو حياله، فيما يخص التعميمات النشطة حول الزعيم والشعبوية، ففي أوروبا مثلاً لم يمكن تركيز الظاهرة الشعوبية في زعيم مطلق القوة والشرعية، قد يكون رمزاً مهماً، لكن الأمور لا تتمركز حوله بالتمام. وهذا ما يتطلب المزيد من التدقيق والبحث، وهو تحدٍ للأفكار الرائجة عن الظاهرة الشعبوية المتمركزة حول فرد أو زعيم. ص191.

أنا الشعب!

أقرب صورة للزعيم وهو يخاطب الشعب، هي "صورة النبي المتكلم". ص 195. يقول الزعيم: "أنا لست نفسي ... أنا لست فرداً، أنا الشعب" و"لا ينقذ الشعب إلا الشعب، وأنا سأكون أداتكم". ص 195. تقول الكاتبة: "مثل نبي يتصل مع الله، ليس للزعيم (أو الزعيمة) إرادة خاصة به (أو بها)، لكنه (أو لكنها) وعاء لإرادة صاحب السيادة، أي الفم الذي يعبر عن إرادة الشعب عن نفسه". وهكذا، يصبح الزعيم فوق المساءلة، وحتى فوق المطالبة! تقول الكاتبة: "تمثل الشعبوية المعاصرة علمنة للاهوت السياسي للتمثيل بوصفه هوية وتجسيداً جمعيين". وهذا ما يظهر في خطابات العديد من الزعماء الشعبويين حول العالم. 

تتطور الأمور لدى الزعيم، ليس بإعلان أنه تمثيل وتجسيد لإرادة الشعب فحسب، وإنما للقول انه "يحل" في الشعب. هذا نوع من "اللاهوت السياسي"، كل ما يصدر عن الزعيم هو تعبير عن إرادة الشعب، وما يصدر عن الشعب هو تعبير عن إرادة الزعيم. هنا تصبح الأمور فوق السياسة. إلهية الطابع. ومن يستطيع أن يسأل أو يطالب أو يحاسب. كل ما هو ممكن: الأمل والدعاء بأن يحيط الله الزعيم بـ"بطانة صالحة"!

ديمقراطية الانترنت

في كتاب "نحن في حالة حرب" يقول "جانرو بيرتو كازاليجيو" و"بيبي غريلو" إن هناك حرباً تدور بين "العالم القديم" و"العالم الجديد". يمثل العالم القديم ديمقراطية الأحزاب والسياسة الحزبية والتمثيل السياسي. أما الجديد، فيمثله مواطنون أحرار مرتبطون أفقياً عبر الشبكة من غير منظمات ولا انقسام بين "الداخل" و"الخارج". 

"لا ترغب شكبة الانترنت بالوسطاء"، كما يقول كازاليجيو وغريلو، و"هذا يعني أن الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام التقليدية محكومة بالاختفاء". ص 272. و"يمثل اندثار بنية الحزب التقليدية خطوة ضرورية في مسعى المضي قدماً نحو سياسة أكثر سيولة". ومن ثم فإن "وضع "الشبكات الرقمية" الثوري هو واحد من عوامل عدة تكمن خلف النهضة الشعبوية". ص 273.

طريق مسدود

يختم الكتاب بإجمال لما أرادته أو حاولته الكاتبة، وهو النظر إلى الشعبوية بوصفها "نظرية سياسية". ص 293. تتعالى عن الانقسامات الحزبية التقليدية، وتتعالى على الإيديولوجيات: يمين ويسار، أكثرية وأقلية، وتركز على صنع "وحدة" و"استبدال نخبة"، و"لا تصبر على الإجراءات". وتحول الانتخابات إلى "استفتاءات". ويصبح صوت الزعيم وهو صوت الشعب، وإرادة الشعب هي إرادة الزعيم، والعكس. 

وهكذا، فإن الشعبوية هي "أكثر من مجرد حركة اعتراض أو تعبئة، وينبغي ألا يخلط بينها وبين الحركات الاجتماعية في المجتمع المدني. الشعبوية هي حركة اعتراض على مؤسسة الحكم السياسية القائمة، لكنها حركة تسعى إلى أغلبية ستحكم بمطامح لا ضوابط لها وتخطط للبقاء في السلطة لأطول أجل ممكن، ولكن دون إلغاء الحرية السياسية أو تصفية الخصوم". ص296.

في الختام، يقدم الكتاب قراءة عميقة لظاهرة الشعبوية في العالم، مركزاً على تحليلات ومقاربات عدد من أهم الباحثين والمنظرين حول الظاهرة. ويجهد في إثبات فكرته، بحشد أمثلة ومقاربات وإحالات مرجعية كثيرة وغنية. الكتاب إذ يتحدث عن الشعبوية بوصفها "نظرية سياسية"، إلا أنه يقدم نصاً سجالياً بامتياز، وأحيانا ما يبدو تثقيفياً أو دعوياً. المفارقة في الكتابات السجالية، هي أنها تجعل الموضوعات أكثر تلقياً، وأقل أصالة وعمقاً.  

جاءت مقدمة الكتاب طويلة من الصفحة (9) إلى الصفحة (66) تداخلت فيها معانٍ كثيرة: مقدمة أو مدخل للكتاب، وتلخيص موسع للنص وللفكرة. وهذا ما يفعله في خاتمة طويلة أيضاً (ص 393-319)، حيث يتضمن عرضاً مطولاً ومتكرراً لمحتويات الفصول. ويشعر القارئ أن النص هو حديث ومناقشة لكتابات أخرى، منها كتابات للكاتبة نفسها، أكثر منه كتاب أو خطاب أو نص جديد. وأحياناً ما يشعرك النص أنه تعليق على كتاب بعدما تم الانتهاء منه، أو رد مسبق على ملاحظات أو أسئلة تتوقعها أو تفترضها الكاتبة. 

لعل أفضل ما في الكتاب هو تحليله لظاهرة تركيز السياسة والمجتمع والدولة في شخص الزعيم. وكيف يحاول "مثقفو الشعبوية" و"أجهزتها الإيديولوجية" صناعة صورة وفكرة الزعيم كنوع من "اللاهوت السياسي". وأكثر ما يظهر ذلك في صور الزعماء في مجتمعات "ما قبل الديمقراطية" وربما "ما قبل السياسة"، كما هو الحال في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وكما في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. 

لكن ربط الكاتبة بين الشعوبية والديمقراطية وعدها الأولى "انحرافاً" في أوضاع الثانية، وهذا هو المنظور الرئيس والصريح للكتاب، كما يظهر في العنوان، يفسّر الغياب –شبه التام- للعالم العربي والإسلامي عن الكتاب. ذلك أن الديمقراطية شبه غائبة عنه، ولو أن الكثير مما قاله الكتاب عن الأحزاب ومركزة السلطات وصور الزعماء، يمكن سحبه على أوضاع السياسة في العالم العربي والإسلامي. 

صحيح أن الكثير من مظاهر الشعبوية موجودة في المنطقة العربية والإسلامية، إلا أن الشعبوية، بما هي "نظرية" و"خطاب سياسي"، بالمعنى الذي يعرضه الكتاب، غير موجودة فيها. وهذا يطرح السؤال: لماذا تبدو الشعبوية غائبة تقريباً عن العالم العربي؟ وألا يمكن تقصي ظاهرة الشعبوية من دون الارتباط بالديمقراطية؟ ثمة مقاربات مهمة في هذا الباب. قد تكون موضوع قراءات لاحقة.

الكتاب: أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية؟

الكتاب: ناديا أوربيناتي.

المترجم: عماد شيحة.

الناشر: بيروت: دار الساقي، 2020. 334  صفحة.