أنطونيو تابوكي: عاشق بيسوا أصبح كاتباً بالصدفة

فضّل الذين يخافون لأن الخوف إنساني، ولا يمكن العبور إلى حياته إلا من خلال فرناندو بيسوا.. إليكم حكاية أنطونيو تابوكي.

لا يمكن العبور إلى حياة الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي (1943–2012) إلا من معبر وحيد هو المصادفة التي جمعته بكتابات فرناندو بيسوا (1888-1935). فلكي تعرّف تابوكي على النحو الصحيح ينبغي أن تصفه بالكاتب الإيطالي-البرتغالي، أو الإيطالي-البرتغالي الهوى، والفضل في هذا يعود إلى بيسوا من دون سواه.

ففي محطة القطار في ليون، حيث كان تابوكي يدرس الفلسفة في جامعة السوربون يستعد للعودة إلى إيطاليا في يوم خريفي من أيام عام 1964، اشترى من أحد الأكشاك كتاباً مترجماً إلى الفرنسية يضمّ قصيدة "تاباكاريا" أو "دكان التبغ" لبيسوا الذي لم يكن قد سمع به من ذي قبل.

القصيدة الموقّعة باسم "آلفارو دو كامبو" جاءت على غير ما اعتاده تابوكي في الشعر الإيطالي، إذ كانت بمثابة لوحة شعرية مسرحية لما فيها من أصداء قوية جداً من الأدب الدرامي والشعر الحكائي الروائي.

يقول تابوكي: "قرأت هذه القصيدة في رحلة عودتي إلى إيطاليا، وكان الأمر بمثابة اكتشاف بالنسبة إلي، بمثابة قوة خارقة حتى إنني قررت تعلم اللغة البرتغالية، قلت في نفسي: إذ كان هناك شاعر كتب قصيدة ساحرة إلى هذه الدرجة، فعليّ تعلم لغته".

ويضيف: "في تلك الحقبة لم يكن هناك شاعر إيطالي جدير برواية أي شيء على هذا النحو القوي. إذ كان الجميع يتلو ويبكي ألم الحب".

لكي تعرّف تابوكي ينبغي أن تصفه بالكاتب الإيطالي - البرتغالي، أو الإيطالي "ذي الهوى البرتغالي"، والفضل في هذا يعود إلى بيسوا دون سواه.

بلغ إعجاب تابوكي ببيسوا حد الاهتمام بكل ما يتعلق بالبرتغال وافتتانه بالطعام البرتغالي، وفي نهاية العام كان قد بدأ رحلة تعلّم اللغة البرتغالية والتعمّق فيها في جامعة بيزا بعد أن حصل على منحة دراسية، ثم أصبح أستاذاً محاضراً في اللغة والآداب البرتغالية في جامعة سيينا، وألقى سلسلة محاضرات عن حياة بيسوا وكتاباته وأفكاره.

ولم يكتف تابوكي بذلك، بل عمل طوال سنوات حياته على ترجمة كل أعمال بيسوا، حيث نقل إلى الإيطالية كل ما استطاع بحثه أن يصل إليه من كلمات وعبارات وجمل "معلّمه" ولم يترك منها شيئاً، وكتب عنه مقالات عديدة باللغات الإيطالية والإسبانية والبرتغالية.

 تابوكي: ربّما يكتب المرء لأنه يهاب الموت، غير أنه بوسعنا أن نقول أيضاً إننا نكتب لأننا نهاب الحياة.. أخاف من الأشخاص الذين لا يشعرون بالخوف، وأفضّل الأشخاص الذين يخافون لأن الخوف إنساني.

وعن الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة بيسوا، وهي أيام 28 و29 و30 تشرين الثاني/نوفمبر 1953، التي قضاها في مستشفى القديس لويس الفرنسي، كتب تابوكي روايته القصيرة "هذيان: أيام فرناندو بيسوا الثلاثة الأخيرة"، التي صدرت بالعربيَّة في طبعتين الأولى عن "دار طوى" والثانية عن "المركز الثقافي العربي".

  •  فرناندو بيسوا
    فرناندو بيسوا

تُرجِمَت كتب تابوكي إلى 18 لغة، ولكن أشهرها تبقى روايته الرائعة "بيريرا يدّعي" التي يعمل بطلها مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في جريدة "لشبونيا"، التي أتم كتابتها في 25 آب/ أغسطس 1993، وقد تقصّد كتابة التاريخ لأنه صادف يوم ميلاد ابنته، فبدا له هذا التزامن مدعاةً للتفاؤل، إذ من الرائع أن تولد قصة حياة إنسان بفضل قوة الكتابة في اليوم الذي شهد ولادة أحد أبناء الكاتب.

ويرى تابوكي في مقالة نُشِرَت في جريدة "آل غاتزيتينو" في أيلول/سبتمبر 1994 أننا لو تمعنّا في حبكة الأحداث المشفرة التي تضعنا الآلهة في خضمّها لوجدنا أنَّ لكل شيء معنى.

تابوكي: ربما تعتبر حياتنا في العمق بحثاً عن ذواتنا، والسرد وسيلة لفهم من نحن وما ننشده ونسعى إليه، فالحياة غير مفهومة، ومن هنا نشعر بالحاجة لمنحها قالباً سردياً منطقياً يربط الأحداث ويخلق معنى.

ويذكر في المقالة أن بطل روايته زاره أول مرَّة في سهرة من سهرات أيلول/سبتمبر عام 1992 وكان شخصية تبحث عن كاتب ولَدَيه رغبة حثيثة في أن يكون بطل رواية، حيث كانت تلك الروح التي تهيم على وجهها في السماء بحاجة إلى سرد قصتها من خلاله ولا يعلم ما الذي دفعها إلى اختياره تحديداً، ليصبح "الأستاذ بيريرا" بعد ذلك صديقه المقرّب.

توفي تابوكي في 25 آذار/مارس 2012 عن عمر يناهز 68 عاماً، ووسط تأبين الصحافة الثقافية الغربية له، نقلت أكثر من صحيفة عنه قوله في سياق حوار مع "المجلة الأدبية الفرنسية": "لا أعلق آمالاً على الخلود"، مضيفاً أنَّ "الخوف هو الوقود لمحرك الكتابة"، ورأى أنه أصبح كاتباً بالمصادفة، وبسبب الشعور بالضجر، وأنه "إذا كان الكاتب يجني ألواناً من المعاناة بسبب الكتابة، فإنه يجني منها أيضاً مسرات وملذات عظيمة"، وأضاف: "ربما تعد حياتنا في العمق بحثاً عن ذواتنا، والسرد وسيلة لفهم من نحن، وما ننشده ونسعى إليه، فالحياة غير مفهومة، ومن هنا نشعر بالحاجة إلى منحها قالباً سردياً منطقياً يربط الأحداث ويخلق معنى".

ويوصف تابوكي بأنه كاتب ملتزم وصاحب مواقف سياسية احتجاجية، وهو كان من أشد خصوم رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني وتوجهاته الرأسمالية المتوحشة، بقدر ما عبّرت مواقفه الاحتجاجية عن خلاف مع كتّاب آخرين أمثال أمبرتو إيكو حول دور المثقف، حيث رأى الأخير أن "على المثقف أن يصمت"، وفيما جاءت روايته الأخيرة بعنوان "الزمن يشيخ بسرعة"، قال تابوكي: "ربّما يكتب المرء لأنه يهاب الموت، غير أن في وسعنا أن نقول أيضاً إننا نكتب لأننا نهاب الحياة.. أخاف الذين لا يشعرون بالخوف، وأفضّل الذين يخافون لأن الخوف إنساني".

وإذا كان القرّاء اليوم في جميع أنحاء العالم، وبعد أعوام من وفاة تابوكي، يسعون في أثر أعماله بهدف التعرّف إليه أكثر والوقوف على ما قدّمه للأدب العالمي من إضافة عظيمة، أسوة بالشخصيات الروائية التي تتهافت عليه لتضع نفسها بين يديه كما فعل "الأستاذ بيريرا"، فإنّ بعض ما قيل في حقه يمكن أن يوضح أكثر أسباب هذا الشغف. إذ يقول رونالد دي فيو "قصص تابوكي تنتهي فقط حين نأمل أن تستمر".

أما أنتوني كوستانتيني فيقول "كتابة تابوكي، قبل كل شيء، حيلة"، ويرى تشارلز كلوب عام 1998 أن "ظهور رواية جديدة لتابوكي اليوم هو حدث أدبي"، في حين كتبت عنه "الإيكونوميست" عام 1997 "أنطونيو تابوكي يواصل تقدّمه باتجاه أن يصبح غراهام غرين إيطاليا".