إيمان حميدان في "أغنيات للعتمة": الأنوثة المتصدّعة
في خيط سردي متشابك جمعت إيمان حميدان حيوات 4 أجيال جسدت واقع النساء لإحدى العائلات.
-
رواية "أغنيات للعتمة" لإيمان حميدان
غالباً ما تكون العتبة النصية التي يتصدرها العنوان هي الطعم الذي يلتقط فيه الكاتب قارئه لسحبه إلى متن النص ومتعة التجوّل في معانيه، وهذا ما كان في رواية إيمان حميدان "أغنيات للعتمة"، التي أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورة عام 2025، والصادرة عن دار "الساقي" في بيروت، فالمعنى المتناقض والمتداخل للعنوان بين العتمة والأغنيات بما توحي به الأغنية من روح متجددة يثير التساؤل الآتي: "في الأوقات الحالكة، هل من غناء؟ نعم، ثمة من يغني في تلك الأوقات الحالكة".
لينتقل خط التشويق إلى القارئ مستفسراً: من يغني للعتمة؟ وهنا، لعبة الكاتبة في التكثيف من روح العمل وحركة البطلات بين طموحهن العارم لصوت الحياة وانطلاقتها وواقعهن المعتم الذي يكبت ويقمع مسيرتهن المتوثبة، لذا تنوّع أسلوب كل منهن في المواجهة بين الاحتيال والموت والجنون والرحيل.
في خيط سردي متشابك جمعت إيمان حميدان حيوات أربعة أجيال جسدت واقع النساء لعائلة الدالي، بدأتها من الجيل الرابع وتدرجت في استعراض ذلك التاريخ الذي لم نلملم أطراف الحكاية إلا في نهايته، فمن رسالة "أسمهان" إلى صديقتها "ويبدا" عرفنا شيئاً عن أزمتها الحياتية وصراعاتها مع المجتمع وأعرافه، لتنتقل بعدها إلى الشخصية الأهم في النص وهي "شهيرة"، إذ أفردت لها المساحة الأكبر، حتى يمكن أن يطلق عليها اسم الأم الكبرى، ما يذكرنا بأورسولا ماركيز في "مئة عام من العزلة"، وكيف تدير تلك الأم اقتصاد العائلة متحدية الطبيعة والفقر والجفاف، المرأة التي تنهض بحياة الأسرة وترتب شؤونها وتصلح أعطابها في عطاء غزير ومستمر، ونضال ضد الفقر والظروف الظالمة والعالم الذكوري المتخلف، وهي التي اختُصِرت حياتها وعشقها الأول واخُتزلت طفولتها لتصبح امرأة مسؤولة عن زوج وولدين لأختها المتوفاة. ذلك الواقع الذي لم يستطع وعيها البسيط البعيد عن التجربة التصدي له فكان منطقها التحايل على الحياة عندما نعجز عن تغييرها، وهنا كانت الأغاني والموسيقى المعبّرة عن علاقتها بالكون، الأغاني التي تنير عتمة الوجود وسواد الأيام التي أشارت إليها في عنوان النص "أغنيات للعتمة"، وعندما لا يستجيب الدمع لتفجير أحزانها كان شجن الأغنية تعبيراً لذلك الألم الذي يفيض من ضلوعها، إذ تجمع لغة الموسيقى العذوبة مع الألم، في ظل واقع لا تملك القدرة على مواجهته بشكل مباشر، ولكنها تتحايل عليه بذكاء لتعمر وتبني بإيجابية العطاء الأمومي الذي يشيد عمارة الحياة.
تأتي بعدها حكاية ياسمين التي كررت سيرة أمها بالزواج المبكر قبل أن تفهم الحياة، وكان موتها ضحية الجهل وعدم اللجوء إلى المستشفى لضمان ولادة ميسّرة، والتي لم يسعفها الزمن لتغطية سيرة واسعة لها في النص لأنها توفيت يوم ولادة ابنتها ليلى، الأنثى الثالثة في تسلسل أجيال نساء العائلة. ليلى التي كان للتعليم الأولي دور في استيقاظ وعيها على الحركات السياسية التي تدور بالقرب منها، من خلال علاقتها بيوسف، إذ كان الكتاب والقراءة عنواناً سرياً في علاقتهما، بالإضافة إلى مس هيلين التي كانت خياراً مطروحاً أمامها للسفر والتحصيل العلمي، ولكن خيبتها بمن عشقته وكشفت به عالم الفكر الذكوري المنفصم عند الشريحة المثقفة في المجتمع؛ والتناقض بين التنظير والفعل؛ بين الكلام في السياسة والحرية وانعكاسها على الحياة الواقعية، هذه الخيبة التي قذفتها في أحبولات الزواج التقليدي الذي تقره العائلة وفق مصالحها واستقرار نظامها الاجتماعي المبني على واقع قمعي، والذي لم يكن نتيجته إلا مزيداً من القهر والانطواء والعزلة التي تعقدت بها حياة "ليلى"، التي كانت أيقونة فرح وانطلاق وانتهت إلى ضياع صامت ولم تلحظها العائلة إلى أن رحلت.
أسمهان النموذج الرابع والسارد لحيوات من سبقنها من نساء العائلة، والتي استطاع التعليم والعمل والتطور العام في المجتمع أن يحقق لها استقلالية شخصية واجتماعية إلى حد ما، بالإضافة إلى اختيار زواج يحقق لها طموحاً نسبياً لم يلبث أن اصطدم بالعقليات الذكورية التي تستند وتستفيد من القوانين والتشريعات الظالمة عندما قررت أن تنتفض لكرامتها وطلب الطلاق رداً على خيانة مازن (زوجها). هذا الموقف كلفها أن تفقد حضانة ابنها والهروب بابنتها خارج البلاد، فـ"مازن" المثقف المتحرر والمتنور الرافض لقوانين المجتمع وإكراهاته يرجع ليلوذ بالتشريعات ذاتها التي رفضها سابقاً ليقبلها الآن لأنها تتوافق مع ما يريده من هيمنة وسلطة ضاغطة على من كانت حبيبته وزوجته.
نساء إيمان حميدان في تشريحها للذات الأنثوية عبر شخصياتها الأربع توضح أن الزواج لم يعطهن متعة الالتصاق بالآخر، والإشباع الطبيعي لعلاقة سوية. ورغم التطور في الأجيال الأربعة، فإن واقع المرأة لا يتقدم إلى الأمام، فهي إن أصابت قدراً من التعليم واستطاعت أن تدخل ميدان العمل عادت لتصطدم بالقوانين والتشريعات التي تمنعها من أن تكون حاضنة لأولادها، إذا ما قررت الانفصال عن المؤسسة الزوجية انتصاراً لكرامتها، كما في حالة "أسمهان"، ولكن ثمة إشارة تؤخذ للإنصاف وعدم إطلاق حكم قيمي مطلق للتصنيف المجحف لعالم شخصيات الرجال في نص إيمان حميدان، فالكل إما هامشي ضعيف أو متجبر حقير، ولا حالة إيجابية لرجل حاولت طرحها إلا في الإطار التاريخي العام الذي أحاط بواقع الشخصيات على غرار مغامرة الحصول على القمح من الشامي عبر إطار زمني عرف باسم السفر برلك، حيث تمايزت الأسرة والأجيال اللاحقة بالسياسة التي أخذت عقولهم، ولكن كمتابعين لها وليس فاعلين فيها.
الشخصيات الثانوية: الأخت المتوفاة وجيش من الأحفاد والأولاد والأصدقاء، برزت صدى مكملاً وكاشفاً لعوالم النساء المحورية الأربعة وصورة عن حال وحركية المجتمع من حولهن، وعاملاً مساعداً في توضيح ذلك الواقع، إذ تولد المرأة في بلاد الشرق مليئة بالرغبات والأمنيات وطموح جامح للحياة، ولكن ما تلبث الحياة أن تروض المهرة في داخلها وتدجن مصيرها تحت وقع الهيمنة الذكورية وأعراف المجتمع وتقاليده.
صورت إيمان حميدان عالم النساء كشخصيات مقموعة وخائفة، فهي وإن كانت طموحة، ولكنها تخاف الانزلاق إلى خارج نطاق العائلة، وفقدان الحماية التي تتاح لها من خلال الأسرة في غياب قوانين مجتمع تصون وتحمي الفرد بشكل عام.
كتبت "أسمهان" لتقول لنا: إن المرأة مرآة الزمان، ووجه المكان عبر ضمير المتكلم، والموت هو موت الكلام.
نهايات مفتوحة لبطلات الرواية: هل تستمر أغنيات شهيرة؟ هل تعود ليلى من ضياعها؟ هل تلتقي أسمهان بابنها؟ وهل من إياب من غربتها الإجبارية، نهايات تعلن أن هذه المعاناة وهذا الواقع مستمران في حركية لا تعاند الثبات، وتعد بأمل قادم مجهول وغامض.