إبراهيم نصر الله لـ"الميادين نت": اكتشفت أنني عشت حياتي

إبراهيم نصر الله يصدر رواية "طفولتي حتى الآن"، ويتحدث إلى "الميادين الثقافية" عن سبب تعلقه بها ولماذا جعلته يكتشف أنه عاش حياته وكانت ممتلئة.

  • إبراهيم نصر الله خلال حفل توقيع
    إبراهيم نصر الله خلال حفل توقيع "طفولتي حتى الآن"

كيف يستطيع الكاتب الفذّ أن يحوّل السيرة الذاتيّة إلى رواية مشوّقة من دون أَن يقع في فخّ السيرة؟

يسأل الروائي والأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله:"أَتعرفُ ما مصير تلك الروايات التي لا نكتبها؟". ويجيب هو نفسه ببساطة: "إنَّها تصبح ملكاً لأَعدائنا!".

هكذا، أصدر نصر الله أخيراً رواية "طفولتي حتى الآن" عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، بالتزامن مع ذكرى النكبة، وذلك ضمن سلسلة "الملهاة الفلسطينية" التي يكتبها نصر الله منذ سنوات طويلة.

ولو شئنا تصنيف هذه الرواية زمنياً لكان علينا أن نقرّ بأنه كان عليها أن تكون الرواية الأُولى لإبراهيم نصر الله، لأنّها تُعدّ المفتاح الذي في وسعنا من خلاله أَن نلج عوالمه، منذ الطفولة الأُولى حتى الطفولة المتأَخّرة، "طفولة الآن"، كما راق له أَن يسمِّيها، فهي تسلِّط الضوء بطريقة مشوّقة على حياة الطفل الذي ولد في مخيم الوحدات، بالعاصمة الأردنية عمَّان، وترصد مجموعة هائلة من التحوّلات الاجتماعيّة والإنسانيّة للمخيم، والأهم أنها ترصد التحولات النفسية للكاتب، بدءاً من صفر المخيم، وصولاً إلى المخيم، الذي لم ينتج الثورات وحسب، بل أُولئك المبدعين الشغوفين بالحياة، كتابةً ورسماً وموسيقى وسفراً.

إذا كان ديفيد بن غوريون قد قال: "الكبار يموتون، والصغار ينسون"، فإن إبراهيم نصر الله يؤكِّد في روايته الجديد أَنَّ الصغار تحديداً هم الأَقدر على حمل راية فلسطين.

يُعيد إبراهيم نصر الله في هذه الرواية كتابة المخيَّم، مخيَّم الوحدات على وجه التحديد، من خلال علاقته بنور، ابنة الجيران، عبر علاقة حبٍّ أُسطوريَّة تتبدَّى في أَدقِّ تفاصيل الحياة، ومن خلال الأُمِّ التي تشكِّل منذ البدء حتى النهاية الحاضنة والمحرِّك والدافع، والنموذج النسويَّ الذي حمل على عاتقه نتائج خطيئة الخروج، وعمل على تصحيح ذلك الاعوجاج الذي مثَّلته حال المخيَّم كنقيضٍ للوطن، ليس من خلال تلك العذابات الهائلة التي تحمَّلتها النساء في المخيَّم فقط، بل من خلال الوعي المبكِّر أيضاً، والرؤيا الفطريَّة التي اتَّصفن بها، من أَجل تصحيح مسارات التاريخ، بإنتاج جيلٍ من الفلسطينيِّين كان عليهم أَن يقفوا في المرحلة التالية في مواجهة الرواية الصهيونيَّة، التي بحثت دائماً عن مبرّر أَخلاقي لكلِّ ذلك التشريد والقتل والدّماء المسفوكة فوق أَرض فلسطين، من خلال رواية نقيضة تحاول أَن تطمس وتمحو رواية الفلسطينيِّ وسرديته.

وإذا كان ديفيد بن غوريون قد قال: "الكبار يموتون، والصغار ينسون"، فإنَّ إبراهيم نصر الله يؤكِّد في هذه الرواية أَنَّ الصغار  تحديداً هم الأَقدر على حمل راية فلسطين، "يتعلَّمون بسرعةٍ تفوق سرعةَ تعلّم آبائهم"، على حدِّ تعبيره، لأَنَّهم تجرَّعوا مرارة المنافي مضاعفةً بكلِّ ما تحمل من أَلمٍ وحلمٍ في وطنٍ تشكَّل قطعةً قطعةً في الذاكرة، ببطءٍ، واكتمل عبر تلك الكتابة التي تحوِّل الوطن إلى حال مقدَّسةٍ، لأَنَّها تقترب من التجريد وإعادة الخلق من جديدٍ.

يريد نصر الله أن يعيد كتابة سيرة المخيم، وسيرة الطفل الذي كان فيه، ولم يكبر قط، بالحبر، حتى لا يكون قابلاً للمحو السريع، أو الطمس، أو التشويه.

إنها رواية الحب بامتياز، كما أنها رواية الحلم، ومن خلال هاتين النافذتين يعيد نصر الله فلسفة الواقع في محطات تحتاج إلى إمعان الفلسفة فيها: المسافات، والمدن، والسفر الاختياري والإجباري، والطفولة، والأمومة، والمكان الحاضن، والمكان المعادي، والكتابة، والفن، ليس بقلم الرصاص هذه المرة، على حد تعبير الكاتب، لأن ما يكتب بقلم الرصاص قابل للمحو، إنما بقلم الحبر، لأن الكتابة بالحبر لا تمحى بسهولة.

هكذا يريد الكاتب أن يعيد كتابة سيرة المخيم، وسيرة الطفل الذي كان فيه، ولم يكبر قطّ، بالحبر، حتى لا يكون قابلاً للمحو السريع، أو الطمس، أو التشويه. 

في حفل التوقيع الذي أقيم أخيراً للرواية في "المكتبة الأهلية" في عمّان، طرحت "الميادين الثقافية" على الكاتب إبراهيم نصر الله السؤال التالي: ما الذي أضافته رواية "طفولتي حتى الآن" إلى المنجز الروائي الإبداعي لإبراهيم نصر الله، وأين يمكن تصنيفها في هذا المنجز؟

فكان جوابه: "من الصعب أن يحدّد الكاتب موقع عمله، سواء تعلق الأمر بموقعه في منجزه، أم موقعه في النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل. لم يكن في استطاعتي مثلاً الحديث في هذا الأمر حين كتبت روايتي الأولى "براري الحمى" قبل 42 عاماً، أو أي رواية لاحقة، لكن ربما أستطيع أن أتحدث عن إحساسي الخاص بهذه الرواية، موقعها في نفسي إنسانياً، ربما يكون هذا أصدق".

وأضاف: "ما أستطيع الحديث عنه هنا أن هذه الرواية واحدة من أكثر الروايات قرباً إلى حياتي، ومع ضرورةالتزام عدم إبداء تعلق ما على العمل بعد صدوره، لأنه يصبح ملك قارئاته وقرائه، إلا أنني حين قرأتها مرة أخيرة قبل دفعها إلى الطباعة، انتابني إحساسان غريبان لم يخطرا لي من قبل. الأول: أنني اكتشفت أنني عشت حياتي، وأن هذه الحياة كانت ممتلئة؛ مع اعترافي هنا بأن ما استطاعت هذه الرواية استيعابه قليل مقارنة بما لم يكتب فيها، لأن هناك مساحات أخرى في اعتقادي صالحة لأن تسكن أعمالاً أخرى".

نصر الله: همست لنفسي وأنا أقرأ الرواية: "لو كتبها كاتب آخر لحسدته!"، وهذا لم يسبق أن أحسست به من قبل. 

وأوضح نصر الله  أن: "أجمل ما في الأمر هنا، أنني كنت أتمنى دائماً كتابة رواية حب فلسطينية، وإذا بي أنتبه بعد أن أنهيت الرواية أنني قد كتبتها، بمعنى أنها عن ذلك الذي حلمت به كثيراً، وإذا بي أكتشف أنني قد عشته".

ويكمل نصر الله حديثه إلى "الميادين الثقافية" بالقول: "أما الأمر الثاني، فهو إحساس غريب، ولعل من غير الملائم البوح به؛ أنني همست لنفسي وأنا أقرأ الرواية: "لو كتبها كاتب آخر لحسدته!"، وهذا لم يسبق أن أحسست به من قبل. ربما أحتاج إلى وقت طويل حتى أتأمل هذا الأمر للوصول إلى سببه، لكنني الآن أقول إن الأمر لا يتعلق بقيمة النص الأدبية، فهذه يحددها القارئ والناقد، لكنني أتحدث عن شعوري حيال حياتي، بأثر أحداثها وربما باتساعها، على رغم كل الزوايا الضيقة التي عشت فيها طفلاً وشاباً في المخيم، وما بعده".

وختم نصر الله حديثه بالإشارة إلى أن "اختلاف هذه الرواية، هو في ظنيّ قائم على تقاطع حياتي للمرة الاولى، بهذه القوة، مع نص روائي أكتبه بصورة مباشرة، بخلاف نصوص كثيرة أفادت من تجربتي الحياتية، وأبرزها "طيور الحذر"، فكما تعرف أننا ككتاب نشبه إلى حد بعيد الشاعر العربي عروة بن الورد، الذي قال: "أقسم جسمي في جسوم كثيرة"، وهنا يمكنني القول: "أقسم روحي في نصوص كثيرة"، لكن هذا النص أخذ حصة أكبر بالتأكيد، ربما توازي حصة الشعر في تجربتي الأدبية، وربما يكون مساحة جيدة للقارئ لتأمل بقية نصوصي، على ما فيه من خيال عشته وحقيقة عاشتني".