إنهض يا خليل حاوي.. الفلسطينيون يقتلون الوحش

إنهض يا خليل حاوي، يا شاعر الانبعاث الحضاري، وتأمل ما ترى، فها هم الفلسطينيون يقتلون الوحش، ويخلعون أنيابه، ويقصون مخالبه، ويتركونه في الميادين مجللاً بعاره وذلّه.

أعود إلى أعمال خليل حاوي الشعرية وأقرأ ما تيسر منها بين فترة وأخرى، فهو من الشعراء الذين تركوا في ذائقتي مكانة خاصة. إنه صاحب نشيد "الجسر"، والجسر للعبور، عبور الأمة من مكان إلى مكان ومكانة، من زمن الانحطاط إلى زمن الكبرياء والعنفوان والتغيّر، وأخذ المكانة الحضارية اللائقة التي تنقل الأمة من حالة الهوان والانكسار إلى حالة الشموخ ونفض الذل والاستكانة والخنوع.

ولا عجب أن أتذكره حالياً مع انتفاضة "طوفان الأقصى"، انتفاضة فلسطين، والعقاب الذي يوقعه الشعب المعذّب المقهور المضطهد في أعدائه وأعداء الأمة من محيطها إلى خليجها، بينما حكامها يتفرجون، وهم كما وصفهم خليل حاوي يخرجون من جيب (السفير).

في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات كانت حركة الشعر (الحديث)، شعر التفعيلة، شعر التجديد، تحضر بأسماء شعرائها الكبار: بدر شاكر السياب، البياتي، أدونيس، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور، أحمد حجازي، نزار قباني.. ومن لديه أسماء فليضفها، فأنا لست مؤرخاُ، ولكنني تربيت على الشعر وودت لو أكون شاعراُ، وربنا لطف..فحدت إلى النثر، وكتابة القصة القصيرة..وما زلت، والرواية..وما زلت، وبقي الشعر متعتي، وراح بعض الشباب إلى قصيدة النثر التي لم ترقني، ورأيت فيها كثيراً من التزوير والادعاء، وقليلاً من مواهب لم تعمر ولم تثمّر..وهذا رأي شخصي!

خليل حاوي كنّا قرأنا له، ولكننا لم نستمع له، وكنا متلهفين لسماعه، وقد تحقق الأمر عندما دعاه "الاتحاد العام لطلبة فلسطين"، وكان مقره في الجسر الأبيض في دمشق عام 1961، فالتقينا: فايز خضور، وكريم كاصد وهو عراقي كان يدرس في جامعة دمشق، وأنا، ومعاً توجهنا متلهفين لرؤية وسماع حاوي.

مطاع صفدي الروائي والمفكر وصف حاوي بــ "شاعر الانبعاث الحضاري"، ورأيت من يومها، كما غيري، بأن حاوي هو حقاً هذا الشاعر:

وتباركت رحم التي ولدت

على ظهر الخيول

ولدت وما برحت بتول

بطلاً يروّي سيفه لهب الشهاب 

(من قصيدة: رسالة الغفران من ثمود إلى صالح)

ويصيح ساخراً في وجوه من يبيعون مجد الأمة:

يا من خصاك الفلس

هل عوّضت بالشحم المرّفه

عن حماك المستباح؟

 وتأكدنا أننا في حضرة شاعر متميز بصوته ورؤيته الحضارية فصفقنا له طويلاً، وخرجنا من تلك الأمسية ونحن ننشد مع خليل حاوي مقاطع من قصيدته "الجسر"، تلك التي رأينا فيها بشارة بقدوم جيلنا الذي سيعبر من (مستنقع الشرق) إلى (الشرق الجديد)!

مضت سنوات، فتوجهت ذات يوم إلى "دار العودة للنشر" في شارع المزرعة ببيروت، حيث كان الناشر أحمد سعيد محمدية متحمساً لتقديم طبعة جديدة من أعمالي الروائية والقصصية، فإذا بي وجهاً لوجه مع خليل حاوي..وكم سررت بالمصادفة.

قدمني الصديق محمدية للشاعر الكبير، فأبدى اهتماماً، وإذ جلست قربه، مال وسألني: "أتقرؤون لي يا رشاد؟" نترت نفسي واقفاً وبدأت أقرأ له مقطعاً من "الجسر":

أترى يولد من حبي لأطفالي 

وحبي للحياة

فارس يمتشق البرق على الغول 

على التنين، ماذا هل تعود المعجزات؟

بدوي ضرب القيصر بالفرس

وطفل ناصريُ وحفاة

روضوا الوحش بروما،سحبوا 

الأنياب من فك الطغاة

ربّ ماذا

ربّ ماذا

هل تعود المعجزات؟

(من قصيدة عودة إلى سدوم..الأعمال الشعرية الكاملة منشورات العودة)

ثم تشعّب بنا الحديث، وأخبرته بحضور أمسيته الدمشقية، وكيف خرجنا ونحن نشعر بالزهو، بل أخذنا نصيح عالياً: "أيها النوّام، لقد ولد شاعر كبير، شاعر انبعاث حضاري متميّز".

قال وابتسامة تضيء وجهه: "أنا أدرّس في الجامعة الأميركية، ولا أجلس في مكتبي، بل أتمشى مع طلبتي في الساحة، ونتبادل الأحاديث..فتعال لنلتقي هناك".

في اليوم التالي صباحاً كنت أقف بباب الجامعة الأميركية. استدار بين طلبته فرأني..فلوّح لي فاتجهت صوبه، ومشيت بين طلابه وطالباته، ولم أشارك بالكلام، بل سرت صامتاً، مستمتعاً بسماع الحديث الغني بينه وبين طالباته وطلاّبه.

كان ذاك لقائي الأوّل والأخير بالشاعر الكبير، فقد انفجرت الحرب، وزحف جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت..وسقط على رؤوسنا النبأ الفاجع: انتحار خليل حاوي!

لم يتحمل حاوي، شاعر الانبعاث الحضاري، المبشّر بنهوض الأمة..هول الهزيمة المهينة، وزحف جيش الاحتلال وبدء حصاره لبيروت ابنة الحضارة الفينيقية..فوضع حدّاً لحياته ببندقية صيد كان يمتلكها يوم 6/6/ 1982.

أنا أتذكره في هذه الأيام المجيدة التي يُمرّغ فيها أبطال فلسطين، أبناء قطاع غزة، أبناء الطوفان.."طوفان الأقصى"..أنوف جيش الصهاينة برمال غزّة، ويذلونه، ويتصدون ويصمدون لأكثر من 100 يوم مذيقينه كؤوس الهوان، ووضعه و(دولته) في مكانهم المناسب لهم: جيشاً لا يقوى سوى على قصف المدنيين وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، وتمزيق أجساد الأطفال والأمهات..والاختباء في جوف دبابات الميركافا التي يحرقهم أبطال غزة في جوفها، ويجعلونهم فرجة للعالم.

 لقد تمّ تنفيس أكذوبة الجيش المتفوّق الذي لا يُهزم. هو المسلّح بكل صنوف الطائرات والصواريخ والدبابات الأحدث في العالم، فإذا به يُصطاد كما يصاد البط بأسلحة المقاومين المتميزين المتواضعة، بروح الإقدام والاشتباك من مسافة صفر.

إنهض يا خليل حاوي، يا شاعر الانبعاث الحضاري، وتأمل ما ترى، فها هم الفلسطينيون يقتلون الوحش، ويخلعون أنيابه، ويقصون مخالبه، ويتركونه في الميادين مجللاً بعاره وذلّه.

قدمت الناقدة ريتا عوض لأعماله الكاملة الصادرة عن "دار العودة" في طبعة كاملة ضمّت كل أعماله الشعرية: "لقد أكد خليل حاوي في تجربته الإبداعية أهمية الدور الذي يضطلع به الشاعر في عصره، بما هو ضمير الأمة ووعيها المتوهج. وقد كان على الشاعر الحديث في هذا العصر أن يتبنّى القضايا الكبرى في وطنه، ويحمل هموم أمته حتى يعيد للشعر دوره الكبير الذي عُرف به في الحضارة الإنسانية وينفي عنه صفات التلهي بالهموم الذاتية، والميوعة العاطفية الرومنطيقية، والجماليات الفارغة. وقد وصلت التجربة الشعرية العربية المعاصرة مع خليل حاوي إلى الحداثة الحقّة وأعاد بالروائع الشعرية التي أبدعها للشاعر العربي الدور الرائد الذي عرف به في تراثنا الحضاري".

خليل حاوي، يا شاعر الانبعاث الحضاري، معك ننشد لمن يعبرون "الجسر"، وتمتلئ نفوسنا بالشموخ ونحن نرى أهلنا في اليمن ينضمون للمقاومة مع الجنوب اللبناني الشجاع، والمقاومة العراقية..مع أهلنا في قطاع غزّة، ومدن وقرى ومخيمات الضفة،فننشد نشيد العبور:

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً 

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق 

إلى الشرق الجديد 

أضلعي امتدت لهم جساً وطيد