إيزابيلا حماد تعيد القضية الفلسطينية إلى الأدب العالمي

حازت إيزابيلا حماد على 5 جوائز أدبية: جائزة "بليمبتون" للرواية لعام 2018، جائزة "كتاب فلسطين" لعام 2019، جائزة Sue Kaufman لعام 2020، جائزة "أسبن ووردز" الأدبية لعام 2024, وجائزة بيتي تراسك من جمعية المؤلفين في بريطانيا.

  • ادخل أيها الشبح

عُرفت الكاتبة الفلسطينية - البريطانية إيزابيلا حمّاد بروايتها الأولى "الباريسي" التي صدرت في نيسان 2019. ونالت جائزة كتاب فلسطين وجائزة Sue Kaufman لعام 2020 من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب في نيويورك. كما عدّت أحد أهم الكتّاب الشباب في بريطانيا. في "الباريسي" التي ترجمها دار التنوير في بيروت قبل أشهر، تمكّنت حمّاد من دمج الشخصي بالسياسي، وهي تعود لتفعل ذلك بعد أربع سنوات في روايتها "ادخل أيها الشبح" التي تتناول فلسطين الوقت الحاضر. إنها قصة عن فلسطين، تحرّكها أسئلة الهوية والانتماء، الشتات والنزوح، ترابط العائلة ومسألة المقاومة. صدرت الرواية عام 2023 عن دار نشر "غروف" وتقع في نحو ثلاثمئة وثلاثين صفحة. وقد عادت إلى الضوء اليوم بعد فوزها في شهر نيسان/ أبريل 2024 بجائزة "أسبن ووردز" الأدبية في الولايات المتحدة، وهي جائزة تُمنَح للأعمال الأدبية التي تركّز على القضايا الحيوية المعاصرة وتبرز قيمة الأدب التحويلية. 

  • رواية
    رواية "الباريسي" لإيزابيلا حماد

تأخذنا رواية "ادخل أيها الشبح" الحائزة على جائزة "أسبن ووردز" الأدبية لعام 2024  في نيويورك إلى أعماق تجربة بطلتها، وتفتح نافذة أوسع على حياة الفلسطينيين وصراعاتهم اليومية المنهِكة. ورغم أنها رواية معاصرة، فهي مشبّعة بماضي فلسطين. نتتبّع في الرواية قصة سونيا ناصر، ممثلة فلسطينية-بريطانية في أواخر الثلاثينيات. تحاول سونيا التعافي من علاقة عاطفية سيئة مع مخرج مسرحي في لندن، ولأجل ذلك، تسافر إلى موطن عائلتها "فلسطين" لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية. في البداية، كانت نية سونيا أن تلعق جراحها العاطفية، وتمضي وقتاً مميزاً مع أختها حنين في حيفا، ثم تعودَ إلى لندن بعد استعادة عافيتها. لكنها ما تلبث أن تجد نفسها مضطرة لاستيعاب التغييرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت منذ آخر مرة زارت فيها موطنها. 

تبدأ الرواية مع وصول سونيا إلى المطار، حيث يتم استجوابها وتفتيشها على نحو مزعج. وقبل أن تتجه إلى حيفا حيث توجد أختها، تستقل سيارة تاكسي إلى العقبة، عازمةً على "رؤية شيء جميل أولاً". وعند وقوفها على قمة الجرف، تشعر بأنها منفصلة عن البحر أمامها بقدر ما هي منفصلة عن "تروما" فعل التفتيش في المطار، ثم تتخيل نفسها وهي تسقط فوق الصخور. في الطريق، تتحدث سونيا مع سائق التاكسي بالإنكليزية، "قاومتُ فكرة الارتباط بهذا الشخص"، ومع هذا الرفض لماهيتها تصل سونيا، مثل شبح، إلى أرض أجدادها.

بعد وصول سونيا إلى حيفا، تتخذ الأمور مساراً مفاجئاً إذ تقنعها صديقة أختها، مريم منصور، أن تلعب دور غيرترود في نسخة عربية من مسرحية "هاملت" تقوم بإخراجها في الضفة الغربية. يبدو قرار المشاركة في المسرحية أمراً مهنياً، لكنه سرعان ما يتخذ شكل يقظة سياسية مؤلمة، ويجعل سونيا تكتشف أجزاء من ذاتها كانت غائبة، كما أنه يعرّي مع الوقت هشاشة علاقتها بفلسطين. العرض مشحون سياسياً، يستخدم العربية الكلاسيكية، ويتحدى سونيا شخصياً ومهنياً. تشعر سونيا أنها منفية عن طفولتها وعن البلد ذاته، غير واثقة من شرعية انتمائها، وتدرك مع الوقت أن هروبها من زواجها السيئ "لم يكن قط هروباً. أنت فقط تنزلق من شيء إلى آخر".

في البداية، تتفاجأ سونيا بأن الحياة اعتيادية في الأرض المحتلة. تعتقد أن هذه البلاد "لا تبدو ممزقة بفعل الحرب". لكنْ، قبل مضي وقت طويل، تتعمق تصوراتها، وتتكشف الصعوبات. فخلال التدريبات، تختبر سونيا صعوبةَ الحياة في المناطق المحتلة، وتكتشف أن صناعة الفن في ظل الاحتلال تتضمن تحديات كثيرة مثل التمويل، نقاط التفتيش، الاعتقالات والاستجوابات، بالإضافة إلى السؤال الحاضر دائماً: هل سيسمح الإسرائيليون بعرض المسرحية؟ كذلك، يعاني الممثلون من التعامل اليومي الوحشي الذي تمارسه "إسرائيل". بعضهم لا يعرف إذا كان سيتمكن من عبور نقاط التفتيش ليصل إلى مكان التدريبات، آخرون يخافون من أن تهدم القوات الإسرائيلية منازلهم في أي لحظة، أحدهم يتعرض لاستجواب، وآخر يُعتقل. لكن، كما تقول مريم لسونيا: "إذا سمحنا للكارثة أن تقف في طريقنا، لن نفعل أي شيء. كل يوم هنا هو كارثة".

بالإضافة إلى ذلك، تؤجج ضغوطات الاحتلال التوترَ بين الممثلين الفلسطينيين المشاركين في العرض والذين هم إما من المقيمين في مخيم لاجئين، أو المقيمين في الداخل الفلسطيني. هكذا، تُظهر الرواية تناقضات العلاقات بين عرب 48 وفلسطينيّ الضفة الغربية. لكنّ الممثلين رغم اختلافاتهم وتنافسهم المهني، يتفقون على شيء هام: إن كلاً منهم يريد جلب شكسبير إلى هذا الجانب من الجدار. إنهم يريدون من مسرحية "هاملت" أن تمثّل بشكل مباشر قصة فلسطين. ترفض سونيا في البداية هذه القراءة، لكنها ما تلبث أن تفهم أن رفاقها بحاجة إلى مثل ذلك التأويل ليلعبوا أدوارهم بشكل فعّال. في أحد المشاهد المؤثرة، تدرّب مريم وائل، الممثل الشاب الذي يلعب دور هاملت، على إيصال الجانب المظلم من الشخصية من خلال تجسيد شخصية الجندي الإسرائيلي الذي يستمر بمضايقته. مع هذا، تعتمد مريم في العرض على الرمزية أقلّ مما تعتمد على التفاؤل الذي تعدّه رئيسياً في فعل الإخراج، في سياستها، وفي أمومتها. إنها تطالب نفسها بالأمل مهما بلغت صعوبة استحضاره. وسونيا تقدّر تلك الخصلة عالياً، كما أن إحساسها بالانتماء يتعمق من خلال علاقتها بمريم وبفريق الممثلين.

حمّاد كاتبة مرهفة ودقيقة، وهي في هذه الرواية تضفر ماضي فلسطين مع ماضي سونيا، محاولةً أن تعطي سونيا أشباحاً شخصية بقدر الأشباح التاريخية. فكما يوحي عنوان الرواية، سونيا مثل هاملت يطاردها شبح ماضيها. تحاول سونيا أثناء وجودها في فلسطين فهمَ دور أفراد أسرتها في المقاومة الفلسطينية، وتستعيد ذكريات فصول الصيف التي قضتها في موطنها أثناء مراهقتها، ما يتسبب بترميم الفجوات والمسكوت عنه في تاريخ عائلتها. تحلّل سونيا وأختها حنين "الطرقَ التي ناقشت بها عائلتنا، ولم تناقش، علاقتنا بفلسطينيّ الضفة الغربية". وفي واحد من أقوى المشاهد وأكثرها تأثيراً تستعيد الرواية زيارة قامت بها الأختان حين كانتا مراهقتين لشخص مضرب عن الطعام في الضفة الغربية، وهي زيارة تلقي الضوء على الاختلاف بين الأختين. بالنسبة إلى حنين، كانت تلك الرحلة إلى الضفة الغربية حافزاً للالتزام السياسي؛ بالنسبة إلى سونيا، كانت مزعجة للغاية حتى أنها أقسمت ألا تعود أبداً. أصبحت حنين، من خلال عملها الأكاديمي، منخرطة في القضية الفلسطينية، أما سونيا فبقيت بعيدة جغرافياً وعاطفياً. وبعد أكثر من عشرين سنة، تحاول الأختان تجاوز توترات الخيارات المختلفة، وهذا بدوره يلقي الضوء على توترات المجتمع الفلسطيني وتعقيداته.

تتأمل الرواية، من خلال شخصية سونيا، حدود الفن وأهميته في ظل الظروف الصعبة. في ليلة الافتتاح، يقترب جنود إسرائيليون من الخشبة، ثم يتوقفون ويشاهدون العرض، تماماً كما خطّط هاملت لعرض مسرحية تجبر القاتل كلوديوس على مواجهة ذنبه وجهاً لوجه. هكذا، تصطف مسرحية "هاملت" إلى جانب الفلسطينيين: يتحدى المضطهَدون مضطهِدهم من خلال فعالية عرض مسرحي. إنها ذروة مُرضية لرواية ذكية.

علاوة على ذلك، تستخدم حمّاد المسرح لا كحبكة فحسب، بل كشكل أيضاً؛ أجزاء من الرواية مكتوبة على شكل نص مسرحي، مع استخدام الإرشادات المسرحية التي تُستخدم عادة لإدارة الحركة على الخشبة. ويفيد استخدام هذا الشكل المسرحي في إضفاء الدراما على الحدث وجعله مُمسرَحاً. كما أن اتباع التقاليد المسرحية هنا يضفي استقراراً على حيوات الشخصيات التي هي في الواقع مضطربة، ودائمة التغير في ظل الاحتلال. كذلك، يرى أحد النقاد أن الفراغ الذي يتركه هنا شكل الكتابة المسرحية على الصفحات يرمز إلى ترك مساحة للتحرك، وتجريب طرق جديدة لمقاومة الاحتلال. من ناحية أخرى، استخدام ضمير المتكلم في السرد يُبرز صراع النازحين الذين قد يفكرون في أنفسهم باستخدام ضمير الغائب.

في نهاية الرواية، تختبر سونيا يقظة سياسية مُغيِّرة. وهذا الاهتمام والالتزام بالقضية الفلسطينية يربطها أكثر بعائلتها، يجعلها تفهم زملاءها أكثر، ويساعدها على العمل معهم كنظير حقيقي بحسّ تضامن عالٍ. هكذا تُظهر الرواية أن بلوغ سن الرشد قد يحدث أكثر من مرة في الحياة؛ فها هي سونيا تختبر هذا النمو الروحي وهي في الثامنة والثلاثين. كذلك، تناقش الرواية أن النمو الحقيقي، الشخصي والسياسي، لا يمكن أن يحدث قبل أن تخرج جميع الأشباح من مخابئها. والفن هو، على أقل تقدير، أداة هامة لدفع تلك الأشباح للخروج. سونيا التي جاءت إلى فلسطين غريبة وغير منتمية، تصبح أحد أكثر أفراد المجموعة المسرحية انخراطاً وفاعلية ضد الاحتلال. كذلك، عودة شبح والد هاملت المتكرر في العرض تمثّل تمسك الفلسطينيين المستمر بأرضهم. يقول والد سونيا لها: نحن مثل أشباح بالنسبة إليهم. "نحن نطاردهم. يريدون قتلنا، لكننا لن نموت". وعلى شريط كاسيت يعود إلى عام 1994، تسمع سونيا صوت جدتها وهي تقول: "حتى لو لم أستطع العيش فيها، روحي سوف تستيقظ إذا كانت هنالك دولة فلسطينية". إنها لحظة عميقة للغاية؛ فها هو شبح يستمع إلى صوت شبح آخر، ويقولان معاً إن الأشباح ستعود دوماً إلى موطنها وتطارد المحتلين إلى ما لا نهاية.

تتميز  إيزابيلا حماد بأنها قد تكون أول فلسطينية وصلت بهذه السرعة لتكون بين أهم الروائيين العالميين رغم صغر سنها. وإلا لماذا حازت على 5 جوائز دولية في أميركا وبريطانيا وفرنسا؟ وقد صنّفت مؤخراً بين الخمس الأوائل على قائمة مجلة Granta غرانتا البريطانية عام 2023، التي ضمّت عشرين من أفضل الروائيين البريطانيين الشباب.

  • إيزابيلا حماد
    إيزابيلا حماد

نشير إلى أن إيزابيلا حمّاد فازت عام 2018 بجائزة "بليمبتون" للرواية عن قصتها "Mr. Can’aan" "السيد كنعان" والتي تمحنها كل عام مجلة "باريس ريفيو" في باريس. 

وقد وصفت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية مؤخراً حماد بأنها "فازت بسلسلة من الجوائز والثناء من شخصيات أدبية بارزة... لاستحضارها الحيوي لفلسطين وفرنسا في السنوات الأولى من القرن الماضي... وتعتقد حماد أن الحرب على غزة هي "حرب على الفلسطينيين وإبادة جماعية" وتستشهد بمقالة كتبها الباحث "الإسرائيلي" في الهولوكوست راز سيغال، الذي وصف تصرفات "إسرائيل" في غزة بأنها "حالة كتابية للإبادة الجماعية".