إيهاب حمادة سارداً: ضحكةٌ ودمعة على "مَصطبة" في الهرمل!

يقتفي حمادة في تجربته هذه أثر من سبقه في كتابة النوادر وتسجيلها، محاولاً أن يسترجع نفسه، وأهله وجيرانه وخلانه، وما سمعه وخبره من حوادث معبّرة وطرائف لا تزال حيّة.

  • كتاب
    كتاب "المصطبة: مستطرفات شعبية واقعية" لإيهاب حمادة.

كأنَّ الوقت يتمدّد بين يدَي إيهاب حمادة حتى يغدو فيه متَّسع لكل شيء، وإلا فكيف يقتنص السياسي والأكاديمي من بين أعبائه الكثيرة في الجامعة وفي مجلس النوَّاب وفي أكثر من هيئة ومنتدى أدبيّ فرصةً لممارسة هوايته الأحبّ: "الكتابة"، فيطل على قرّائه بمؤلفه الثاني قبل أن تغيب شمس العام 2022؟

وإذا كان الشعر شغفه الأوَّل، فإنَّه ليس ميدانه الوحيد، وبعد أن أطلَّ في الدورة الثالثة والستين من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في آذار / مارس الفائت موقّعاً كتابه "رقصٌ في حضرة النور، شرح رموز ومصطلحات صوفيّة"، ومعه كتابه الصَّادر أواخر العام 2021 "أثر الموسيقا في مسارات العربية"، ها هو يوقّع في الدورة الرابعة والستين التي اختُتِمَت أخيراً إصدارَه الجديد "المَصطبة" الصَّادر – كما الكتابَين السابقَين – عن دار الولاء لصناعة النشر في بيروت. 

يقع الكتاب في 95 صفحة من القطع الصَّغير، وقد اختار له كاتبه تصنيفاً متحفّظاً هو "مستطرَفات شعبيَّة واقعيَّة"، رغم أنَّ عدداً غير قليل من النصوص فيه من مواصفات القصَّة وتقنيات السَّرد ما يسمح بالقول – بضميرٍ مرتاح - إنَّها قصص قصيرة "كاملة الأوصاف"، ولو كانت مستندة إلى حكايات واقعيَّة.

ولماذا "المَصطبة"؟ لأنَّها – بحسب الكاتب – ذاكرة الأرض وعامريها، وفضاء الحكايات الشعبيَّة والنوادر المحليَّة، وبيت الطرائف والمستطرفات المستظرفات، وجامعة الأجساد والأرواح والأشواق والسهرات و"النهفات"، ومنبر السَّرد والحكي والرواية والقصّ، وملتقى الأُسَر والعائلات والجيران، وسجلّ الحوادث، ومحل البوح بالآلام والآمال، وحافظة العادات والتقاليد والأسماء والأعيان والمواقع.

يقتفي إيهاب حمادة في تجربته هذه أثر من سبقه في كتابة النوادر وتسجيلها، من أمثال أمين نخلة في مفكّرته الريفيَّة، ومارون عبّود في "أحاديث القرية" و"وجوه وحكايات"، محاولاً أن يسترجع نفسه، وأهله وجيرانه وخلانه، وما سمعه وخبره من حوادث معبّرة وطرائف لا تزال حيّة دافئة على ألسنة الأهل في الهرمل.

على أنَّ هذا لا يعني أنَّ "المَصطبة" كتاب "هرمليّ" بأهدافٍ لا تتجاوز حفظ الذاكرة الشفهيَّة في المنطقة ومخاطبة أهلها حصراً، فمن مَصطبته في الهرمل يخطّ إيهاب حمادة بلغةٍ متينةٍ وأسلوب أدبيٍّ رفيع، تظهر الشعريَّة فيه حيث ينبغي لها أن تظهر، نصوصاً صالحةً لإغواء القارئ في كل زمان ومكان.

وإذا كانت الهرمل – مسقط رأس الكاتب والكتاب - حاضرة في شخوص النصوص وفضائها المكانيّ، من خلال رجال بصوتٍ جرديٍّ وزنودٍ سمراء وشَعر سَكَبَ الله فيه من فضيض الشمس بعضَ لونها، ومن خلال صفصافةٍ ومرجةٍ خضراء وشلال وصبيات ماء وكراسٍ خشبيَّة، فإنَّ في "المَصطبة" أيضاً شلالاً إنسانيّاً من القيَم الجميلة والأفكار النبيلة يتدفّق نحوكَ على متن قصص محبوكة ومسبوكة بإتقان، حاملةً نهايات غير متوقعة تتناوب فيها الضحكة والدمعة.

تدور نصوص الكتاب في فضاءات مختلفة وأجواء متنوعة، فبعضها حكايات تنطوي على مفارقات دالة لا تخلو منها حيوات الفقراء الذين ينتمي الكاتب إليهم سواء كانوا في الهرمل أو في غيرها، مثل "قارورة العطر" والدعم" و"بائعة الحلوى" و"المعطف". وبعضها يحمل همَّ المقاومة وأبطالها مثل "ذو الشهادتَين"، وبعضها استقى أحداثه من تفاصيل حياتيَّة فرضها انتشار جائحة كورونا مثل "الشرطيّ" و"حاسّة الشمّ"، وبعضها مشاهد التقطها الكاتب من يوميات عائليَّة واختزلها في كلمات قليلة تنضح طرافةً وسخريةً كما في "الأسماء" و"توقّع"، وأخرى تغدو فيها السخرية أكثر عمقاً ودلالة كما في حكاية "الفرّوج المشويّ" الذي فقد رجليه على خطوط التماس، والفلاح الذي وبَّخ عن طريق حماره المدرّسين المتلكئين عن القيام بواجباتهم، وبعضها وجدانيّ رومانسيّ كما في "الساعة" المعطَّلة عمداً للحفاظ على لهفة اللقاء، أو حزين كما في "شبهة" وفي "الرحلة الأخيرة" التي تظهر لنا عاطفة الأبوّة في أبهى تجليَّاتها.

يقول إيهاب حمادة في مقدّمة كتابه، في وصف من سبقوه، إنَّهم حنّوا فأبدعوا، وسجّلوا فخلَّدوا، وعبَّروا فأرشدوا، وحسبه في "مصطبته" أنَّه حذا حذوهم وأعاد سيرتهم في كل هذا، بأسلوبه الخاصّ وبصمته المتفرّدة، وبنكهة "هرملية" ستجد طريقها من دون شكّ إلى قلوب الجميع.