ابن من هذا؟

سألت أبي: "مين يابا اللي سلّم اللد..وشو كمان؟". سألني أبي وهو يفرك رأسي المحلوق على الصفر: "شو رأيك بكعكة وبيضة..ولا برغيف وبقرش حلاوة؟".

  • الحافلة رقم 4، التي كانت تتنقل بين البلدة القديمة والقطمون، تظهر هنا بالقرب من باب الخليل في عام 1936، قبل الثورة العربية (عن الانترنت)
    الحافلة رقم 4، التي كانت تتنقّل بين البلدة القديمة في القدس والقطمون، وتظهر هنا بالقرب من باب الخليل قبل ثورة عام 1936 (عن الإنترنت)

وقف شخص فوق رأس أبي وسأله وهو يشير إليّ:

- هذا الولد معك؟

لم تكن مقاعد الباص قد امتلأت بالركّاب، وأنا كنت أجلس بين أبي والشبّاك:

-آ...

أجاب أبي، وقد برم بوزه في وجه ذلك الشخص.

- يجب أن تدفع عنه!

- هو ولد صغير، وسأجلسه في حضني عندما يمتلئ الباص.

- يجب أن تدفع، فهو كبير.

ردّ أبي عليه بغضب:

- هو ولد صغير..وفي الصف. 

لم يكمل أبي للشخص في أي صف أنا، فقد خشي أن أبدو كبيراً لو أخبره بأنني في الصف الخامس.

- يا عمّ.. أنا واجبي أن أفتّش على التذاكر، ويوجد واحد آخر عند مخيم عقبة جبر سيصعد ويفتش، وقد ينزلك من الباص أنت وابنك..فما رأيك؟ 

تساءل أبي:

- وهل يعني أني سأدفع عنه تذكرة كاملة؟

توقّفت سيارة شحن قبالة الباص، وارتفع صوت سائقها:

- للقدس.. المستعجل للقدس.. وبخمسة قروش..يلّا!

وقف أبي وأمسك بيدي، ومرّ بي بين المقاعد مسرعاً.

لوّح لسائق سيارة الشحن.

اقترب ووقف قرب الباب الذي يطل منه:

-أنا مستعجل.

- يلّا أنا ماشي.

- كم تريد أجرة عني وعن ابني الصغير هذا؟

ورفع أبي يدي وكأنه يقول للسائق أنظر كم هو صغير.

- 7 قروش!

- لو معي 7 قروش لما نزلت من الباص يا زلمة.

- قديش معك؟

-  شلن... 5 قروش

- ابنك يركب في صندوق السيارة، وأنت تفضّل بجواري.

- أنا مستعجل. يجب أن ألحق بالمحكمة في القدس.

-يلّا مشينا. إن لقيت أحداً في الطريق سأركبه بجوارك يا عمّ.

- مش مشكلة.

تشعبطت بالباب الخلفي وتشبثت بالعوارض الخشبية.

نبهني أبي:

- خليك بعيد عن الباب، وثبّت نفسك بالعوارض.. تمسّك كويس.

ثم مضى وركب إلى جوار السائق.

اندفعت السيارة عابرة منتصف أريحا، وانعطفت ومرّت عن الجسر، وبعد قليل رأيت مبنى المقاطعة حيث كان أبي سجيناً قبل سنتين، وهو حالياً يحاكم من جديد بعد أن تركوه بكفالة.

تأمّلت بيوت مخيم عقبة جبر، ثم الاستراحة التي تتوقف فيها سيارات آتية من بعيد، فيها كراسٍ، ويستظل المسافرون تحت أشجار الكينا. انعطفت السيارة وبدأت تصعد طريق القدس، وعلى يسارنا البحر الميت مثل لوح زجاج أزرق يبدو ساكناً.

مع الاهتزاز وددت أن أنام ولكنني خشيت أن أتدحرج على أرضية صندوق السيارة، فتشبثت وأنا أمرّ بنظري على كل ما تعبر به السيارة.

وددت لو أن أبي يوقف السيارة ويجلسني معه في غرفة السائق. 

شعرت بالجوع، فأنا وأبي لم نأكل شيئاً في الصباح الباكر عند مغادرتنا مخيم النويعمة. 

على يمين الطريق مقبرة، وفي المنخفض كنيسة وأجراس، وصعدت السيارة ملتفة، ثم اندفعت في الشارع الذي على يمينه بيوت كثيرة ودكاكين، وتوقّفت.

رأيت أبي يهبط ويستدير رافعاً يديه ليتلقفني، فتجاوزت الباب، ودلّيت نفسي، وقفزت من بين يدي أبي.

-جدع...

قال أبي:

-معنا نتفة وقت...

ميّل إلى دكان وعاد يحمل كعكتين وبيضتين:

-يلاّ كل..على مهلك..معنا نتفة وقت.

بدأت بالتهام الكعكة وقضم البيضة نتفة نتفة..متمنياً ألا تنقص، وأن تشبع الكعكة بطني الفارغ.

مسح أبي فمه والتفت إلي:

-سنصل بعد شويّة...

مسحت فمي، وأسرعت لأجاري أبي في خطواته الواسعة.سألته:

- يابا، ليش ما لبست عباءتك الحمراء؟

ضحك:

- أنت شاطر والله. تلك للتظاهرات، وليست للمحكمة.

ضحك وهو يجذبني من يدي:

-بس تكبر راح تعرف الفرق بين العباءتين: السودا والحمرا.

صعد أبي درجاً، وأنا صعدت وراءه، ثم أسرع في ممر، وتوقّف أمام غرفة واسعة. 

عند الباب قال لي:

-إجلس هنا ولا تتحرّك، ولا تعمل أي شيء. أُقعد وأنت ساكت..أيوه؟

هززت رأسي.

التصقت بالباب، وأبي جلس على مقعد في منتصف الغرفة. وأمامنا منصة مرتفعة يُدخل إليها من باب جانبي.

دخل شخصان بعباءتين سوداوين. انحنيا على أبي وتكلما معه وهو يبتسم ويهز رأسه. امتلأت القاعة، وأنا التصق بالباب وأبصبص على كل شيء. 

ارتفع صوت: "محكمة". وقف الحضور، ودخل عجوز شائب الشعر بدا غاضباً من شيء ما، وأجال نظره فوق الحضور ثم حدّق في وجوههم ونظر إلي بغضب، وأشار:

- ابن من هذا الولد؟

ردّ أبي:

- إنه ابن الذي سلّم اللد والرمله يا سيدي القاضي!

صاح القاضي:

ارموه برّااااا..بسرعة..ارمووووه برّاااااا.

جاء شخص يرتدي ملابس خاكي وأمسك بي ورماني برّا.

ارتفع صوت أبي وهو يبتسم:

-لا تخااااف. خليك عندك ..لا تبتعد عن الباب.

أخذت في استراق السمع لكلام لم أفهم منه شيئاً، وسمعت أحد الشخصين اللذين حكيا مع أبي وهو يرّد على القاضي، ثم صوت القاضي وهو يعلن:

- تؤجّل الجلسة...

خرج من في القاعة، وأبي ينظر باتجاهي وهو يصغي لأحد الشخصين:

- لا يهمك، سننفّس غضبه، ونتعبه، ونجعله يملّ..

أمسك أبي بيدي، وعبرنا بين أشخاص كثيرين، وهبطنا على الدرج، ثم عندما صرنا على الرصيف، سألته:

- من شو زعلان العجوز الذي طردني؟

ضحك أبي:

- كان ينقص أن أُحضر على كتفي عباءتي الحمراء.

- مين يابا اللي سلّم اللد..وشو كمان؟

سألني أبي وهو يفرك رأسي المحلوق على الصفر:

- شو رأيك بكعكة وبيضة..ولا برغيف وبقرش حلاوة؟

-رغيف وحلاوة...

وقفنا أمام دكان ودفع أبي ثمن رغيفين والحلاوة، وأخذنا في المضغ.

- عندما تكبر ستعرف سرّ غضب القاضي، وستعرف من سلّم اللد والرملة!

واندسسنا في باص القدس أريحا، وغفوت مع اهتزاز الباص وأنا أُردد: اللد والرملة.

 

* الذين سلّموا مدينتي اللد والرملة في حرب الـــ 48 في فلسطين هم الضباط الإنكليز الذين كانوا يقودون الجيش (العربي).

*في هذه القصة مفردات عامية، هذا مقصود.