استعادة تاريخ التتار في بغداد.. معالم الخرطوم التاريخية في مهب الحرب

معالم الخرطوم التاريخية عرضة للخراب بسبب الحرب الدائرة في السودان. ما هي هذه المعالم؟ وأي منها تعرض للخراب؟

ذات المرارة التي تجتاح أفواهنا كلما جاءت سيرة إحراق التتار لمكتبة بغداد، ستكون هي الطعم الذي يستشعره أهل السودان في ذكرى الحرائق والخراب الذي طال ويتهدد معظم منشآتهم الأثرية والثقافية، جراء حروب الجيش وقوات "الدعم السريع". 

ولمعرفة أحوال منشآت الثقافة والتراث بعد قرابة 7 أشهر من حرب السودان، يكفينا مشاهدة المقطع الذائع لعناصر تتبع لقوات "الدعم السريع" بالمتحف القومي، أحد أبرز المعالم التاريخية في الخرطوم، وهم يتساءلون من أمام توابيت المومياوات: "لمن تعود هذه الجثامين، وهل لرجال نظام المعزول عمر البشير صلة بوجودهم في هذا المكان؟".

السؤال الذي ينم عن جهل كبير بالتاريخ، لا يمكن قراءته بمعزل عن خسارات أخرى لا تقل فداحةً، وعلى رأسها خسائر الجغرافيا، إلى حد أنّ مدينة بحجم الخرطوم استحالت في أشهر معدودة إلى مدينة أشباح، لا يعرف معظم سكانها مصير بيوتهم الواقعة تحت طائلة النهب والقصف المدفعي، دعك من المتاحف والمسارح والمكتبات التي هي حرفياً "في مهب الحرب".

معالم تاريخية

لا تحتضن الخرطوم "المتحف القومي" الذي يؤرخ للتاريخ المحلي منذ عصر مؤسسي الحضارة السودانية وبناة الأهرامات من لدن ملوك وملكات مروي القديمة، فحسب، وإنما تحتضن "متحف بيت الخليفة" الذي يؤرخ لحقبة الثورة المهدية ضد الاحتلال التركي (1821 – 1885)، وصولاً إلى المتحفين العسكري و"متحف القصر الجمهوري" اللذان يؤرخان للحياة العسكرية خاصة إبان فترة الاستعمار الإنجليزي المصري للسودان (1898 – 1956)، ولحياة الرؤساء السودانيين في حقبة الدولة الوطنية. 

ويعتبر "متحف القصر الجمهوري "– في ذاته -  قطعة معمارية تاريخية فريدة، ما أهّله لأن يكون رمزاً للدولة، والمبنى السيادي لكافة الحُكام السودانيين.

كذلك، تحتضن الخرطوم بين دفّتي نيليها "متحف التاريخ الطبيعي" الذي يعكس التنوع والثراء الحيواني باحتوائه على  فصائل شديدة الندرة، ومحميات طبيعية أبرزها (غابة السنط) التي تعد وجهةً للطيور المهاجرة بين قارتي أفريقيا وأوروبا، والحديقة النباتية التي تضم أشجاراً معمرةً ونادرةً، ومعرضاً مبهجاً للزهور.

ولن نتجاوز أرصدة الثقافة والفنون في الخرطوم من دون الإشارة إلى المكتبات التي أسهمت في تكوين الوجدان السوداني، وأبرزها مكتبة الإذاعة والتلفزيون (أهم أرشيف وسائط)، بجانب "دار الوثائق السودانية" التي تحتوي على أرشيف للصور، وأرشيف ورقي ضخم، بما في ذلك سجل يؤرخ لمسير الصحافة السودانية لأكثر من قرن.

وحتى مكتبات الجامعات التي تحتوي على مخطوطات وبحوث نادرة، يتهددها ذات المصير المجهول، وسط أنباء مقلقة عن تحول عدد منها إلى مقار وثكنات للعسكريين.

وينضم "المسرح القومي" التاريخي وعدة مسارح متناثرة على مدن العاصمة الثلاثة (الخرطوم، بحري، أم درمان) إلى ذات اللائحة، زد عليها منشآت ذات طابع سياحي، كمسجد الملك فاروق، وبوابة عبد القيوم، ومبنى البرلمان.

قلق متصاعد

يقرّ المتخصص في الحضارة السودانية، ناجي محمد، بجهل العسكريين التام بمصير المنشآت الأثرية ومؤسسات الثقافة منذ أول أسابيع الحرب، جراء وقوع معظمها في قلب مناطق الصراع والاشتباك.

وأبدى إبراهيم في حديثه مع "الميادين الثقافية" سوداوية غير خافية بإمكانية ضياع تراث إنساني غير قابل للاستعادة، تأسيساً على المعارك الحامية التي تدور باستمرار بهدف السيطرة على الإذاعة والتلفزيون، نزولاً عند عادة قديمة تقول بأن أي سلطة تريد اكتساب الشرعية فعليها إعلان ذلك عبر مايكروفونات الجهازين.

وأضاف: "مما يبعث على القلق كذلك، النداءات التي جرى إطلاقها لإنقاذ حيوانات "متحف التاريخ الطبيعي" من الموت، بجانب مخطوطات وكتب شديدة الندرة في المكتبات الجامعية التي تحتضن مراكز ومعاهد متخصصة للدراسات والحضارة السودانية بنت اسمها خلال عقود".

وأعرب عن تمنياته بأن تكون عمليات الرقمنة قد طالت كثيراً من أرشيف هذه المؤسسات، أملاً في خفض وتقليل خسائر الحرب.

من جانبه، قال أستاذ التاريخ والحضارة، الزين طلحة، إن الحرب السودانية تعكس  تراجعاً مقلقاً لأجندة الحقوق الثقافية، مع كون ذلك أمراً لا يقل حيوية لتضمينه في مسارات حل الأزمة، مثل حماية المدنيين، وفتح ممرات المساعدات الإنسانية.

وأهاب طلحة في حديثه مع "الميادين الثقافية"، بمنظمة "اليونيسكو" ومؤسسات الحفاظ على الثقافة حول العالم، بالتحرك الفوري لحمل طرفي الصراع على عدم المساس بالحضارة والثقافة السودانية، وفي الصدد، نادى بضرورة سنّ قانون وطني يجرم الاعتداء على الأعيان التاريخية والثقافية، وملاحقة المنتهكين في المحاكم المحلية والدولية. 

أمة بلا تاريخ

  • جانب من الدمار في جامعة أم درمان
    جانب من الدمار في جامعة أم درمان

الأمر المهم الذي يجعل كل ما ذكر أعلاه، ذو قيمة عالية، يتأتى مع ربطه بالآثار الوخيمة التي قد تنتج في حال ضياع هذا التراث السوداني.

ويساوي ناجي محمد بين الأمم التي تعاني من مشكلات الهوية اليوم وتلك التي يعوزها التاريخ. وقال إن التاريخ لا ينحصر فقط في خلق آصرة بين الإنسان، ويمتد لتشكيل وجدان شعبي يستخدم في دفع عجلة الحضارة أو في الاستدعاء لمغالبة لحظات الهزيمة والانكسار.

ونوّه إلى أن ضياع (مخطوطة، تمثال، لوحة، كتاب)، يعني بالضرورة اندثاراً للهجات ولغات سحيقة، وضياعاً لمورث ضخم من الأدب والحكايات والطب الشعبي.

أما الزين طلحة، فيقول إن استمرار الحرب يعني استمرار نزيف الإرث السوداني، ما يستدعي تقوية وقف التيار الرافض للحرب، بما يضمن وصول فرق آثارية متخصصة لتدارك ما يمكن تداركه.

وطالب بصياغة مناهج لحماية مؤسسات الذاكرة الوطنية، ووضع ذلك كأولوية ملحة، معرباً عن تمنياته بسلامة منشآت الثقافة والتراث، وأن تكون حرب الخرطوم، بمثابة ناقوس الخطر لتجنب نقل سيناريو العاصمة إلى بقية الولايات السودانية.