الأرشيف السوري: درس منهجي في البربرية

بفقدان هذا الأرشيف أو اختفائه الغامض فقدت البلاد أرشيفاً يمتد لنحو 5 قرون، رغم محاولات بعض المؤرخين تعزيز محفوظات المركز بوثائق إضافية لطالما سعى الانقلابيون إلى إهمالها، وكأن التاريخ السوري يبدأ وينتهي مع تاريخ حزب البعث. 

  • كان مصير
    كان مصير "مركز الوثائق التاريخية" في دمشق أولى الخسائر الثقيلة

فجأة، اختفى الأرشيف السوري! الفوضى التي اجتاحت البلاد لحظة انهيار النظام، أطاحت خزائن الأرشيف بكافة أصنافها. ملايين الوثائق مشلوحة في الممرات، وفي الساحات، والردهات المعتمة. بدا المشهد مثل متاهة أو صحراء لا نهائية. 

البلاد التي اخترعت الأبجدية قبل 5 آلاف عام، أضحت بلا تاريخ، بعد أن عصفت بها رياح النهب العشوائي، والحرائق المقصودة، ومحاولات إخفاء ما ينبغي محوه وتحويله إلى رماد. 

كان مصير "مركز الوثائق التاريخية" في دمشق، أولى الخسائر الثقيلة، فقبل سنتين من اليوم، أدى حريق مفتعل في حي ساروجة إلى إتلاف جزء من مبنى المركز الذي تأسس عام 1959 بقصد جمع الوثائق التاريخية وفهرستها وحفظها وترميمها. 

هكذا ضمّ المركز نحو 5 ملايين وثيقة نادرة تعود إلى حقبة العهد العثماني، وفترة الانتداب الفرنسي، وحكومات الاستقلال (سجلّات المحاكم الشرعية، ووثائق أصول العائلات الدمشقية، والفرمانات السلطانية، والصحف، والجريدة الرسمية "السالنامة"، والمخطوطات النادرة، والصور الفوتوغرافية). 

أعقب الحريق، اختفاء معظم الوثائق، قيل إنها نُقلت إلى مكانٍ آخر، يرجّح أنه مؤسسة "وثيقة وطن" التي عملت على توثيق وقائع سنوات الحرب من وجهة نظر السلطة بإشراف مجموعة من الباحثين والمؤرخين الطارئين الذين أداروا ظهورهم للمرحلة، وتبنوا أفكاراً مضادة في إدانة ممارسات النظام السابق. ولعل الأسباب المباشرة لافتعال هذا الحريق هي تزوير الوضع الديموغرافي لسكان الحي، والاستيلاء على أصول الأوامر السلطانية والسجلّات العقارية القديمة لمصلحة مافيات عقارية جديدة. 

لا تتوقّف أهمية كنوز المركز عند حدود السجلات العثمانية، إذ تمتد إلى وثائق الدولة الحديثة بدءاً من عهد الملك فيصل، ثم حقبة الانتداب الفرنسي، فيما تندر الوثائق والفهارس المهمة المتعلّقة بانقلاب حزب البعث عام 1963 عدا مجموعات وثائقية لبعض الشخصيات السورية، والصحف الرسمية. 

بفقدان هذا الأرشيف أو اختفائه الغامض فقدت البلاد أرشيفاً يمتد لنحو 5 قرون، رغم محاولات بعض المؤرخين تعزيز محفوظات المركز بوثائق إضافية لطالما سعى الانقلابيون إلى إهمالها، وكأن التاريخ السوري يبدأ وينتهي مع تاريخ حزب البعث. 

هكذا أُطيح بتاريخ رجال الاستقلال، ومُنع توثيق عهد الرئيس شكري القوتلي بصرياً، فأرشيف التلفزيون يفتقد أي إشارة إلى هذه المرحلة لمصلحة مسلسلات هزلية من طراز "باب الحارة"، كما جرى إتلاف وبيع آلاف الأشرطة الوثائقية التلفزيونية لمحطات عربية بصفقات سريّة! 

على المقلب الآخر، يصعب توثيق ما كانت تحتويه "المكتبة الظاهرية" من نفائس الكتب والمخطوطات، قبل نقل محتوياتها إلى "المكتبة الوطنية". 

لكن الكارثة الكبرى في ضياع الأرشيف سنجدها في سرقة ونهب الآثار السورية، فقد جرى تهريب آلاف القطع الأثرية إلى مختلف أنحاء العالم. ذلك أن مافيات الآثار وجدت في الحرب الدائرة في البلاد طوال عقد ونصف العقد فرصة استثنائية لنبش مئات المواقع الأثرية بحفريات عشوائية، والإعلان عن بيع هذه الكنوز علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا بمدينة تدمر الأثرية تتحوّل إلى صحراء جرداء تخلو من حضارتها القديمة تماماً. كما جرى تزوير بعض مقتنيات المتاحف عن طريق استبدال النسخ الاصلية بنسخ مزيّفة، ورقم وطني مزوّر. كأن قدر سوريا التي كانت متحفاً متنقّلاً من الحضارات أن تنتهي إلى ركام حجارة وحطام معابد وأديرة وكنائس وقلاع، وصفحات ممحوة في أرشيف المواقع الأثرية المدرجة في لائحة التراث العالمي. 

هكذا امتد قوس الخراب من مدرّج بصرى الروماني في الجنوب إلى آثار تدمر في البادية، إلى نهب مدينة إيبلا الأثرية في الشمال، وصولاً إلى 1000 تلّ أثري في الجزيرة السورية العليا، بالإضافة إلى سرقة محتويات 24 متحفاً حديثاً على طول الجغرافيا السورية. 

لم ينته الكابوس السوري هنا. علينا أن نتخيّل مشهد نهب الفسيفساء الرومانية من مدينة أفاميا الأثرية، بأكثر الأدوات عنفاً، ها هي جرّافة يقودها لصوص تشق البلاط الروماني بشفرة حادة وتنقله إلى مكانٍ مجهول. حادثة تُضاف إلى حوادث لا تحصى من الإبادة والاضرار غير القابلة للعلاج، ونزع الأرواح من التماثيل التي كانت تحرس المدن والمواقع والقلاع من همجية البرابرة. 

في تقرير لرئيسة "صندوق الحفاظ على المواقع التراثية العالمي"، بوني بيرنهام، تشبّه فيه طرق مدينة حلب القديمة بالمتاهة التي "تجسّد تاريخاً مصغّراً للبشرية". ما حدث لاحقاً أن المتاهة نفسها انتهت إلى جحيم دنيوي أدى إلى دمار المدينة بالحديد والنار، كما تلاشى صوت المتنبي وهو يردّد قائلاً: "حلب قصدنا وأنت السبيل"!

 

اخترنا لك