الأسير ناصر أبو سرور ينتصر على جدار السجن

ناصر أبو سرور: فلسطيني حاصل على ماجستير دراسات إقليمية. اعتُقل عام 1993 إلى حينه. وصدر بحقّه حُكمٌ بالسجن المؤبّد. صدر له ديوان شعر بعنوان السجن وأشياء أخرى (2021)، وصدرت له رواية بعنوان حكاية جدار (2022)، ورشَّحتها دار الآداب لجائزة البوكرللرواية العربية.

  • "حكاية جدار" للأسير ناصر أبو سرور

قرأت رواية حكاية جدار للروائي الأسير ناصر أبو سرور قراءةً متمعّنة وببطءٍ كي أكتشف تفاصيل عالمهُ بدقّةٍ، أو حكاية عالمه المسجون بالجدران، واكتشاف لغته التي يحاول من خلالها تحطيم جدار السجن، فاكتشفت قدرته على القفز خارج السجن، بلغتهِ الشعرية الفائضة بالنبض الماتع، والأنفاس المشتعلة بالتوتر الذي يجعل الرواية أشبه بالملحمة. وهي ملحمة بكل ما تحملهُ الكلمة من معنى، من المقدمة إلى النهاية، هي محاولة للهروب أو القفز من خلال الحوار الطويل مع الجدار، كأنّ الجدار يتكلّم، هي بمحاولة لأنسنة الجدار كي يستطيع صناعة المؤنس في أوج العزلة القاتلة، هي العزلة التي لم تستطع النيل من عزيمة ناصر، مثلما لم يستطع السجّان النيل من عزيمة السجين وصموده في سجنه، ليس لأنّه كتب حكايته في السجن، بل لأنّهُ جعل العالم يكتب حكايتهُ وهو في السجن، حكاية جدار ناصر أبو سرور صرخة للحرية، ويكاد لا تخلو الرواية من توثيق للمراحل، بحيث يمر فقد الأم، وانتفاضة الأقصى، أوسلو، ومراحل أخرى تترك أثراً في الروائي الأسير، فيعبّر عنها وهو في سجنهِ، كما وضع السؤال عنواناً للفصل: "هل بشّرتم مرّةً أسيراً بموت أمّه؟"، ففيه وصف لحياة السجين المؤبّد، كيف يتعامل مع وقتهِ والظروف السياسية والشخصية التي تجري في الخارج؟ وأسئلة الوجود العميقة، وخصوصاً أنّ أديبنا الأسير كان في السجن المنفرد، فبدأ حواره الطويل مع الجدار، محاولاً جعل الجدار ينطق، فيا لها من محاولات فلسفية يذكرها مراراً في روايتهِ، صفحة 197، يقول:

إقرأ أيضاً: مراجعة الأسير باسم خندقجي لرواية "حكاية جدار"

 " فتح الجنديّ الباب، تأكّد من دخولي وأغلقهُ ورائي. رحمةً بالجدران يا صبيّةً، كانت تلك كلماتي الأولى وغير المسموعة، لكنّ همس الجدران كان مسموعاً جيّداً فهي لم تشهد من قبل حضوراً مشابهاً في سطوته وفي أنوثته".

 جدران أديبنا الأسير البطل تهمس في أذنيه، في ساعة الخروج والدخول، وتشهد حضورهُ فيها، فمن سجنٍ إلى سجنٍ، ومع تغيير شكل الجدران يبقى الجدار جداراً في مخيّلة الروائي، لكنّهُ هنا، في حكاية جدار له حكايتهُ التي لا تخلو من الحواريّة العاطفية، وربّما، نحن نسأل: متى يسقط الجدار الفاصل بين السجين والسجن؟ فعناق الحرية رحلة الأبطال الأسطوريين نحو مجد النصر، هو العناق ذاته الذي يبحث عنهُ ناصر الروائي الذي لا يكفُّ عن المقاومة في سجنه، فالمقاومة هنا بأسلوبٍ روائيٍّ وشعريٍّ جديد، مرتفع الرمزية، لكنّهُ ليس غامضاً إلى درجة الإبهام، لكن فيه من التكرار والتجديد ما يجعلها قصيدة ذات إيقاعٍ غاضب، ولاسيما حين يكرر: "آمنتُ... أو حين أحب... أو تشرين "، تتكرر المصطلحات لكنّها تحمل معها معاني كبيرة في سياق الاشتعال الشعري النابض، وهذا يعبّر عن جرح ناصر أبو سرور، وجمرة غضبه المستمر ضدّ سجانه، لكنّهُ يتأقلم مع الجرح في السجن كي يصقل صمودهُ بكلّ قوّته، وهي إحدى وسائل المقاومة للانتصار على السجن والسجّان، في صفحة رقم 156 يقول:

" في السجن، يمكن للألم أن يُقيّد فيك كلّك وأن يغرسك عميقاً في تكتونيّات حبسك، يمكنه فصلك عن ذاتك وعن أناواتك وكأنّ لا ذات لك، أو طعنك في قديم جرحك إن تقادمت فيك جراحاتك".

حتى الجراح القديمة والجديدة يعيشها الروائي الأسير ناصر أبو سرور بكل تفاصيلها، هي جراح تبدو شخصية وتبدو وطنيّة في آنٍ معاً، فلم يجد أحداً يبوح لهُ ما يشعر به، في السجن سوى الجدار، الجدار الواقف أمامه ويفصل بينه وبين ذاته، في عالم سجنه الكبير، لا ذات له كما ذكر، فالمؤبّد المحكوم فيه، هو السجن الطويل والمفتوح على مواسم الألم، في الوجع/ وفي الوقت/ وفي الكتابة/ وفي الحب أيضاً، فهو يتبادل رسائل الحب مع حبيبته وهو في السجن، ربّما، كما يبدو أنّها كانت تزوره كلّ مرة، فالسجين هو انسانٌ يكره ويحب، على رغم بشاعة السجن وصعوبته، فتبادل الرسائل مع "ننّا"، كما ذكر اسمها كانت رحلة شاقة تدور رحاها بين العاطفي والوطني، والعدوّ واحد، هو عدوّ كلّ شيءٍ. في الصفحة 313 يقول:

" أزحتُ الستارة التي حجبت صورة الأصوات التي سمعتها، ننّا وسط غابةٍ من البزّات العسكرية والبنادق، ننّا فوقهم جميعاً لقد علا صوتها على أصواتهم". 

المشهد يبدو أنّها كانت في زيارتهِ، وهو يزيح الستارة كي يراها، فيجد غابة من العسكر والبنادق وفوج جنود العدو الصهيوني عند الباب أو الساتر الذي يفصل بينه وبينها، وصوتها الوحيد الذي يعلو فوق كل الأصوات، نحن نتخيّلها هنا كأنّها المقاومة الأنثى التي يعلو صوتها فوق الأصوات، إنّها هي الحكاية، حكاية الروائي الأسير ناصر أبو سرور التي لا تشبه أي حكاية أخرى. إنها حكاية الجدار، رواية منبثقة من بين الجدران إلى العالم الأصم، إلى العالم الذي يرى كلّ شيءٍ ويسمع كل الأصوات سوى صوت السجين الفلسطيني، لكن، في النهاية لا صوت يعلو فوق صوت رواية المقاومة وحكاية الجدار، حتى الحرية القريبة وكسر قضبان السجون جميعها.

ناصر أبو سرور: فلسطيني، وُلِد عام 1969. حاصل على ماجستير دراسات إقليمية. اعتُقل عام 1993 إلى حينه. وصدر بحقّه حُكمٌ بالسجن المؤبّد. صدر له ديوان شعر بعنوان "السجن وأشياء أخرى" (2021)، وصدرت له رواية بعنوان "حكاية جدار" (2022)، ورشَّحتها دار الآداب لجائزة البوكر للرواية العربية.

يُذكر أنّ الأسير الروائي ناصر أبو سرور سيفرج عنهُ خلال صفقة التبادل الحالية إن شاء الله.

اخترنا لك