الإقلاع

هذه هي الحياة، نسعى في مناكبها، نستقبل ونودع، نبكي ونضحك.

نحسب أنفسنا أقوياء لكننا ضعفاء، وهنا يكمن السرّ في إبداع الخالق، الذي جعل من بعد ضعفنا قوة، قوة تحملنا بعيداً عن أوطاننا.

نحن لسنا أقوياء إلا بضعفنا، قلبنا ضعيف يغلبه الشوق والحنين. دمعتنا ساكبة، عند كل وداع نتحامل على أنفسنا لنبقى على هيئة الشامخين، لكننا ضعفاء. قد نواجه الموت بفلسفة الحياة، ونقوى أمام المصاعب والمشقات ونجتازها، لكننا نهوي أمام إقلاع طائرة تحمل على متنها توأم روح لنا، وتباغتنا المشاعر فتذكرنا بدمعة كل وداع سبق، لم يكن يوماً كما غنّته فيروز، لم نعرفه ابتسامة أبداً، هو كما كان دائماً أنفاس نحبسها في داخلنا مع إقلاع الطائرة، لتحملنا إلى مشرب آخر وعالم آخر.

اليوم هي وبالأمس هو، وهكذا، نرسم بسمة ونمسح دمعة. هي آخر العنقود تحلو معها الجلسات. إشراقة وبهاء وصفوة روح لا بديل لحضورها، وهو طلعة البدر في ضياءه، يبلسم الجراح بكلماته، ضحكاته تردّ الروح، مرح فرح غيور، صبور عالي الشأن والمقام، وهو أيضاً ودّعته على أمل اللقاء.

سئمت والله كل هذا الفراق، وما عاد القلب يحتمل كل هذا العناء. نلتقي، نفترق، وعود على بدء في كل آن. لا يسعنا بعد أن نلملم مشاعرنا سوى المضيّ قُدُماً. إلى الأمام إلى الأمام، هكذا هي عقارب الزمن. لم تكن حيناً من الدهر لترجع إلى الوراء.

ذكرياتنا هي التي بقيت في الوراء، وأمامنا ما يكفي من الحواجز لنجتازها، فتكفّ عنا وطأة الذكريات. أمامنا الأمل يبقينا نرتقب اللقاء مجدداً.

هذا أنا، كلّما اشتدت عليّ الأيام، لجمت نفسي وتسلّحت بالصمت حتى يفيض الحبر بالكلمات. نفسي وأعرفها، توّاقة لكل الأحباب، فتصبح كذلك معها قاسية كل الكلمات. كلمات مدوية، كرصاص خلّبي حارق متفجر يتشظى في كل الأرجاء.

سبقتني أحرفي وما عاد في مقدرتي لجم جموح هذه الكلمات. وداع الأحبة صعب لا يحتمله قلب إنسان، فيا ربي أدعوك، وأنت خير من دعوت، ألّا تطيل علينا هذا الفراق، وأن تجمعنا بهم متى شئت وكيفما شئت بخير، وفي تمام الصحة والعافية.

هذه هي الحياة، نسعى في مناكبها، نستقبل ونودع، نبكي ونضحك، فيها من يتكلم ومن يسمع ومن يظن أنّه لا يكترث، فحقيقةً، كلنا نتأثر ومن منا لا يدمع؟

بينما أنت تقرأ هذه الأسطر تعيش معها، كأنّك أنت من سردها، لأنك أيضاً بالأمس حزمت وحملت أمتعة من تحب إلى بوابة المغادرة، وعدت مع دموعك وحيداً تحادث نفسك. ما أجملها من فرحة، متى يتكرر اللقاء!