الجزائري والعنف.. موروث سوسيوثقافي أم خيار استراتيجي؟

إن تفكيك البنى الاجتماعية الأهليّة في المجتمع الجزائري من قِبل الاحتلال الفرنسي هو أحد العوامل التي تفسّر أسباب انتشار العنف السياسي حالياً.

  • شهدت الجزائر عنف المستعمر الفرنسي والإرهاب الأصولي.
    شهدت الجزائر عنف المستعمر الفرنسي والإرهاب الأصولي.

عادة ما تُوصم الشخصية الجزائرية بالعنف والحديّة، ويُعاد تقديم نفس المبرّرات التي يتم تداولها منذ عشرات السنين، والتي تُرجع ذلك لجملة ما عايشه الجزائريون من حروب واستعمار ونزاعات لم يسلم جيل منها إلى وقت قريب، وكأنّ المجتمع لا يتغيّر ويعيد إنتاج الموروث السلوكي والثقافي من دون تعديل ولا مراجعة. كما وكأن اتّسام الشخصية الجزائرية بالعنف بات قدراً وحتمية. 

لذلك ومن خلال هذه العجالة سأحاول طرح الإشكالية من زاوية أخرى، من خلال طرح التساؤلات التالية: ماذا لو كان العنف والعدوانية الممارسان من قِبل أجيال من الجزائريين ورقة رابحة يسعون من خلالها تحقيق أهداف إستراتيجية؟، وماذا لو تحوّلت تلك الممارسات إلى آلية ترقية اجتماعية منشودة؟، وما وضعية مؤسسات الدولة في كل هذا المخاض والتفاعل السلبي؟.

لست هنا بصدد إنكار حضور العنف  في المجتمع الجزائري كموروث سوسيوثقافي وليد سياقات مأزومة، وإنما نحتاج إلى استنطاق واقع الأفراد الحالي من خلال تفسيرهم للأشياء وإدراكهم للواقع المعاش، لأنهما يفسّران اللّجوء للعنف عند شرائح متنوعة وفئات اجتماعية متفاوتة المستوى السوسيواقتصادي والمكانة الاجتماعية.     

  • العنف في الجزائر نتيجة تراكمات تاريخية واجتماعية وثقافية.
    العنف في الجزائر نتيجة تراكمات تاريخية واجتماعية وثقافية.

هل فعلاً المجتمع الجزائري عنيف؟ 
   من الصعب جدّاً إثبات عدم صحة الكثير من الأفكار المسبقة والانطباعات السائدة حول ثقافة مجتمع ما، وفي نفس الوقت من الصعب الوقوف على حقيقة المجتمع في غياب دراسات جادة وإحصائيات دقيقة حول مختلف الظواهر التي تميّز المجتمع. لذلك سنحاول استقراء ظاهرة العنف في الجزائر من خلال بعض الإحصائيات المقدمة من قِبل المؤسسات الأمنية، ولنأخذ على سبيل المثال الإحصائيات المقدَّمة من قِبل مصالح الأمن والمتعلّقة بالنشاط الإجرامي طوال سنة 2021، حيث أحصت مديرية الأمن مجموع 296148 جريمة في سنة 2021، أي ما يمثّل معدّل 811 جريمة يومياً مقابل 693 جريمة في سنة 2019[1]، وبزيادة بنسبة 14.71 في المائة مقارنة مع سنة 2020[2]. كما شهدت سنة 2021 ارتفاع نسبة جرائم المساس بالأشخاص بنسبة 10.98 بالمائة، حيث بلغ مجموعها 87163 أي ما يعادل 239 اعتداء على الأشخاص يومياً.
هذه الأرقام كافية للإجابة عن السؤال المطروح، وانعكاساتها السريعة والقوية على سلوك المواطن الجزائري باتت واضحة، حيث خلقت جوّاً من التوجّس والخوف، وأضفت كماً هائلاً من اللامعيارية والتي نعني بها "الشعور بقلق وفزع شديدين ناتجين من تجربة فقدان معايير اجتماعية فعّالة، وهذا يحدث في الغالب في أثناء فترات التغيّر الاجتماعي السريع"[3]، مما دفع بالكثير من أفراد المجتمع إلى التعايش مع احتمال قائم بشكل دائم وقوي، وهو تعرّضهم للاعتداء الجسدي الذي قد يحدث في أيّة لحظة. لأنه لا يقتصر على التواجد والاحتكاك بفضاءات معيّنة أو سياقات محدّدة، خاصة وأنّ المجتمع الجزائري يعتمد في ثقافته على فكرة اللجوء إلى الشجار والعراك كأحد آليات معالجة الاختلافات والتناقضات. 

لذلك تعوّدت الأسر الجزائرية على برمجة أبنائها وخاصة الذكور منهم من خلال عملية التنشئة الأولوية، في إطار تلقينهم معنى الرجولة كعدم البكاء مهما كان حجم الألم الذي يتعرّض له، حتى وإن ضُرب ولم يستطع التغلّب، فالعِبرة ليست بالنتيجة وإنما بتبنّي العراك الجسدي كجزء من الخيارات الشخصية الطبيعية. في حين قد نجد مجتمعات أخرى ترفض إدراج العراك الجسدي كأحد خيارات معالجة النزاع، حتى وإن تصاعدت وتيرته، مع العلم أنه لا يوجد مجتمع يخلو من هذا النوع من العنف. ولكن هناك فرقاً كبيراً جداً بين المجتمعات التي تصنّفه ضمن السلوك الطبيعي لإثبات الرجولة وبين التي تعتبره تصرّفاً خارجاً عن المألوف، فلا يُلقّن من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. 

لكن عموماً في الجزائر، يُدخل هذا الوضع العائلات في حالة من الحيرة، فهي لا تريد لأبنائها أن يخاطروا بأيّ شكل من أشكال التصادم، إلا أنها تتعامل مع الوضع بعقلانية، فتبحث عن حمايتهم من مواقف إذلال مهينة، مما يدفعها لتسجيل أبنائها منذ الصغر في الرياضات القتالية، لكي يتعلّموا مهارات الدفاع عن أنفسهم وعن أهاليهم ومن يحبّونهم، فتجد إطارات سامية ليست لديهم علاقة بالثقافة الرياضية ولم يتعرضوا إطلاقاً في حياتهم لتنشئة رياضية، يهيّئون أبناءهم لشجارات محتملة، حتى لا يتعرّضوا لمثل ما تعرضوا له في صغرهم، حيث عاشوا مواقف محرجة جعلت الكثير منهم يشعرون بحالة الاغتراب، ويمارسون جلداً دائماً لهذا المجتمع الذي لم يستطع حماية ضعفهم وضمان سلامتهم، عندما اعتبر المعتدي أكثر رجولة وشطارة من الضحية.

وبهذا يتأكّد وجود قيم في التنشئة الاجتماعية تعيد إنتاج العنف كآلية تفاعل معتمدة برغم خطورتها وآثارها السلبية على استقرار وتوازن المجتمع.  

  • ينفّس بعض الجزائريين غضبهم بصورة أعمال شغب في الملاعب والشوارع.
    ينفّس بعض الجزائريين غضبهم بصورة أعمال شغب في الملاعب والشوارع.

الموروث الثقافي والمعيشي العنيف

   قبل الاسترسال في شرح ظاهرة اللجوء إلى العنف كخيار استراتيجي، جدير بنا التعريج على ظاهرة انتشار العنف في المجتمع الجزائري كموروث ثقافي، كان لفترات طويلة انعكاساً لاضطراب العلاقة ما بين المواطن والمؤسسات، لذلك" نستبعد عنها أي طابع عفوي وتلقائي مؤكّدين الطابع البنيوي للظاهرة. إنها عناصر متعدّدة ومتنوعة تطفو زمن الأزمات لتطرح علاقة الدولة بالمواطن، معبّرة عن رفضٍ عميقٍ لنموذج العلاقات القائمة بين الأفراد والمؤسسات من جهة، وبين السياسة والاجتماع من جهة أخرى. فيكفي إحصاء حجم التخريب الذي أصاب هياكل الدولة وأجهزتها إبّان أحداث (1980-1982-1986-1988-1991- 2001-2011) لنتأكّد من حجم العداء المختزن طوال سنوات عديدة. فقد شمل العنف المدمر المؤسسات العمومية (خاصة ممتلكات الدولة وسياراتها ومساكن رموز السلطة ومقرات الحزب والمدارس والمحاكم والمؤسسات الأمنية...). وبالتالي لا يمكننا إنكار علاقة هذا العنف بسياسة الدولة، فذلك متأكّد تاريخيًّا وسياسيًّا، وإنما هي ظاهرة  تضرب جذورها في عمق التاريخ الجزائري، باعتبارها جزءاً أساسياً من حركية المجتمع الاجتماعية والثقافية. إنه نموذج من التطوّر التاريخي والثقافي السياسي، وعداء متأصّل في البنية الذهنيّة، الأمر الذي خلق تقاليد من العنف تحكم بصفة دائمة علاقة الدولة بالمواطن"[4].                                       

لكن كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العداء والعنف؟ 

هنا لا بدّ من أن لا نجزِّئ الأحداث عن صيرورتها التاريخية، فتراكم تجارب المجتمعات هو الذي يصقل هوياتها ويكسبها طبيعة معينة أو يغيّر من طبائعها. وبالرجوع إلى التجربة الجزائرية، نلاحظ "أنّ التفكيك الدرامي الذي حصل للبنى والهياكل الاجتماعية الأهليّة في المجتمع الجزائري من قِبل الاحتلال الفرنسي، (هو) أحد العوامل التي تفسّر أسباب انتشار العنف السياسي في الفترة الراهنة، وكان بالإمكان أن تلعب البنى الاجتماعية التقليدية دوراً في الحفاظ على التوازن الاجتماعي وامتصاص مخلّفات الأزمات، نفسياً واجتماعياً، وخصوصاً في الفترة الأخيرة التي وصلت إلى حدّ التدمير الذاتي،...، وهكذا يتم الآن تفريغ شحنات انفجار الهويّة الاجتماعيّة في الهويّة الثقافيّة الدينيّة"[5].

وقد كان للمرحلة الاستعمارية دور كبير في تحديد طبيعة العلاقة ما بين الإدارة والمواطن، فقد "حقّقت المرحلة الاستعمارية قطيعة كاملة بين المواطن / الإدارة، والمواطن / الدولة، لأنّ العلاقة لم تشهد لحظة هدنة أو تجانس، بل كانت متوترة كامل التوتر، ولعلّ ذلك ما خلق تقاليد تمرّد دائمة وحالة انشطار مستمرة بين السلطة المركزية والتخوم، فتوزّعت الجزائر إلى فضائين، واحد رسمي ومهيمن، والآخر معارض وهامشي، وداخل هذه التخوم تشكّلت حركة التحرّر الوطني الجزائري، وتنامت إرهاصات "المجتمع المدني" في الجزائر، وتدعّمت خصائص المجتمع الجديد، تدافع عنه قوى سياسية واجتماعية ناهضة، ممثلة لمشروع الكفاح المسلّح، وبناء الدولة الوطنية[6]."

وقد انتقل هذا التوتر من العلاقات السياسية وتنازع السلطة إلى التفاعلات اليومية، فترك على مرّ مئات السنين من الصراع أثراً بالغاً في شخصية الجزائري، تجسّد في نوع من الغلظة والجفاء في التفاعل الاجتماعي، عمّق من أزمة انتشار العنف في الجزائر، فيكفي الوقوف أمام آخر محطة استعمارية عايشها الجزائريون حتى نفهم عُمق الجرح والألم الذي تكبّدته على الأقل ستة أجيال جرّاء بشاعة الاستعمار الفرنسي وقسوته، وحجم القمع والتّقتيل والاحتقار والظلم الذي تعرّضت له، لتتوارث الأجيال تلك المشاعر القاسية وتضطر باستمرار لتبنّي سلوكيات عنيفة لمقاومة المستعمِر مثل القتل والتخريب والاعتداءات المتكرّرة ضده لتنتهي بمعركة تحرير قاسية، دامت أزيد من سبعة سنوات، مات خلالها فقط أكثر من مليون ونصف مليون شهيد. 

لذلك، كيف يمكن لمجتمع مرّ عليه العديد من المستعمرين طوال قرون من الزمن، أن لا تترك فيه تلك الأحداث المؤلمة والقاسية نوعاً من الغلظة والجفاء؟، فيكفي للتدليل على قسوة المراحل الاستعمارية أنّ رئيس الجمهورية الراحل هواري بومدين قد حكم الجزائر من سنة 1965 إلى غاية وفاته في عام 1979 باسم مستعار، ولم يعرف الشعب الجزائري اسمه الحقيقي إلا بعد وفاته، لأنّ الثوار الجزائريين قد تعوّدوا على مرحلة السرية وإخفاء الهوية. وبهذا فجزء من العنف الشائع في المجتمع الجزائري موروث عن أجيال سابقة، ويكفي أن نذكّر الجزائريين بأنهم قد توارثوا طريقة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بشكل عنيف جداً لتأكيد ذلك. ففي ليلة الاحتفال يجتهد الكثيرون وخاصة الشباب، في إقامة مواجهات وصراعات بالمفرقعات والشماريخ، لينتهي الأمر بإحصاء مئات الجرحى إلى جانب الحرائق وما تخلفه من خسائر مادية.                         

كما لم يسلم بعدها المجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الاستقلال من الأحداث السياسية العاصفة، والتي تسبّبت في مقتل الآلاف من الجزائريين، فتأثير العشرية الحمراء(الصراع بين المتطرفين وأجهزة السلطة) حاضر بقوة، جعلت جيلاً بكامله ينطبع على مشاهد الجرائم والقتل بأبشع الطرق، خلّفت مئات الآلاف من الأرامل واليتامى ومشوّهي التنشئة والمظلومين والمهمّشين والمخدوشين في شرفهم والمعتدى عليهم بأشكال وحشية. ولا عجب أن تنتج تلك الحقبة الزمنية فئات واسعة ممّن يتمتّعون بقابلية وجاهزيّة للتّعدي والإجرام، أو على الأقل لتبني السلوك العنيف والشخصية الهجومية الناقمة والمنتقمة.

بيئة مساعدة على إنتاج العنف

وبذلك، اجتمعت الأخطاء والتناقضات لتخلق بيئة مساعدة على إنتاج العنف المجتمعي، يتغذّى فيها السلوك العنيف من ضُعف التسيير وسوء تنظيم المجتمع. كما وسّعت بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من دائرة عملية بثّ الرسائل العدوانية والخطاب الاستفزازي العنيف، فأصبح العنف حاضراً في كل الفضاءات والمجالات من دون استثناء، بما في ذلك المؤسسة المسجدية والحزب والعملية السياسية والحياة المدرسية والجامعات..الخ. ويكاد يتحوّل ذلك العنف إلى لغة اتصال وتفاعل في المجتمع، بداية من العنف اللفظي ووصولاً إلى العنف المادي والجسدي، حيث غالباً ما يكون العنف اللفظي في الجزائر مقدمة لإنتاج العنف الجسدي والمادي، وبهذا عندما تعجز الكلمات عن التعبير تتدخّل لغة الجسد لترجمة الأفكار في شجارات.

تراجع التضامن الاجتماعي 

ومما زاد من تعقيد الظاهرة، تراجع دور البنى التقليدية وانتشار الفردانية على حساب التضامن الاجتماعي التقليدي، فقد بات النسيج الاجتماعي غير متجانس بفعل تمدّن الأرياف والقرى، الشيء الذي انعكس سلباً على اعتماد تسيير المجتمع بالنمط التقليدي المتوارث، بالإضافة لاعتماد النظام السياسي لنمط اقتصادي أقرب إلى الرأسمالية والاستغناء عن الاقتصاد الموجه والمركزي، بعد عقود من تطبيق النظام الاشتراكي...الخ. 

كلّ هذه العوامل وغيرها أثّرت في دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية، لأنه بعد أن تمّ التقليل من هيمنتها الوظيفية، لم يتم بالمقابل إنتاج مؤسسات ترافق التحوّل الحاصل في المجتمع بفعالية، فمثلاً تمّ إقرار عدّة قوانين تحدّ من دور الأولياء داخل الأسرة والمعلم داخل المدرسة والإمام في المسجد والأعيان في بلداتهم تماشياً مع التطورات الحاصلة في المجتمعات الغربية، من دون أن يتحوّل المجتمع الجزائري من مجتمع تقليدي إلى مجتمع عصري قائم على علاقات تعاقدية. وقد خلق هذا الأمر نوعاً من الصدام والصراع والتداخل بين كل ما هو عرقي وديني وقانوني. وبهذا تراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية تدريجياً وأصبحت أدوارها محصورة قانونياً، ولم تعد تنتج -كما يجب- القيم التي تنظّم المجتمع. بل أصبح الإعلام هو المنتج الحقيقي لها، وزادت هيمنته كلما ازداد تراجع دور تلك المؤسسات، والأكيد أنه قد انعكس ذلك بقوة على آليات ضبط المجتمع، فتراجعت السلطة التقليدية، حيث لم تعد بُناها قادرة على التأثير في حياة الناس، فتركت فراغاً رهيباً جعل المجتمع يشعر بحالة من عدم الاستقرار والتخبّط، وانعكس ذلك على مراجعة أدوار الأفراد في المجتمع. وكمثال على ذلك، تغّير دور المرأة التي اضطرّت في ظل تعقّد الحياة الاجتماعية إلى الخروج للعمل، بعد أن اكتسح نجاحها كل الأطوار التعليمية وأصبحت تشكّل غالبية الفئات المتمدرسة والمتعلمة المتفوقة. وفي المقابل وجدت نفسها مرغمة على الخروج للعمل بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، مما أدى إلى تغيّر نمط الأسرة والأدوار الموزعة داخلها، فباتت المرأة الجزائرية تتخبط في وضع متذبذب، أجبرها على التنازل عن جزء من أنوثتها في مقابل الأدوار الجديدة التي أُسندت إليها. وانعكس ذلك بالضرورة على تراجع دورها التربوي داخل الأسرة الذي حاولت في كثير من الأحيان التعويض عنه بتوفير الحاجيات المادية للأبناء، لكن لم يكن كافياً لخلق التوازن بل ساهم في مزيد من التدهور لآليات الضبط الاجتماعي. 

ولعل هذا ما يفسّر جزئياً الأرقام الخطيرة التي قدمتها مصالح الأمن حول الاعتداءات على النساء، بحيث فاقت قضايا العنف ضد المرأة 70 ألف قضية[7]، أغلبها تتعلّق بالمحيط الأسري، بالرغم من أنّ المرأة الجزائرية لا تلجأ إلى القضاء في الغالب للشكوى من أفراد العائلة. وبالتالي علينا أن نتصور العدد الحقيقي للاعتداءات في المحيط الأسري وخارجه، بسبب كل هذه التناقضات التي يتخبط فيها المجتمع.

تراجع الأدوار الوظيفية الاقتصادية للبنى التقليدية 

عندما نتحدّث عن تراجع دور البنى التقليدية يتّجه التفكير إلى السلطة الأخلاقية والاحترام الذي كان سائداً في ظل سلطة البنى التقليدية سواء تعلّق الأمر بالأسرة أو الأعيان أو الأئمة وشيوخ الزوايا والقبائل..الخ، ولكن نادراً ما نلتفت إلى الدور الاقتصادي التقليدي الذي كان يوفر حلولاً اقتصادية لأفراد العائلة بشرط الانضباط بالضبط العائلي. فكانت الاستجابة في الكثير من الحالات تحت ضغط الحاجة الاقتصادية عندما كانت للأسرة مصادر دخل من نشاط مهني وحرفي واقتصادي وتجاري يوفّر الحلول الاقتصادية لكل أفراد الأسرة. فاستعملت الأسرة تلك الحلول كأوراق ضغط اقتصادية ومادية، فلم يكن الاحترام والانضباط داخل الأسرة بسبب علاقات الاحترام والتقدير فقط، بل كانت هناك آليات ضبط براغماتية ومادية محضة له. لذلك عندما تراجع الدور الاقتصادي للأسرة الممتدة لاحظنا تراجع مكانتها وقدرتها على تأطير أفرادها، فتسبّب ذلك في زيادة احتمالات اللجوء إلى اللعنف. فكلما تراجع الضبط والتأطير وجد السلوك العنيف هامشاً أوسع، ونفس الشيء بالنسبة للبنى التقليدية الأخرى. فقد كانت لها أدوار اقتصادية أو على الأقل لها قدرة التأثير في الوضع الاقتصادي للأفراد. وأحسن مثال على ذلك هو تنظيم الزواج الجماعي و"التويزة" (نظام التكافل الاجتماعي) وغيرها من المهام الاقتصادية بامتياز. 

لذلك فتراجع دور البنى التقليدية لا يترك فراغاً معنوياً روحياً انضباطياً فقط، بل يترك فراغاً اقتصادياً يزيد من احتمال اللجوء إلى العنف. وفي الجهة المقابلة، فإن الارتباط القوي بالأسرة قد يدفع إلى استعمال العنف دفاعاً عنها. وهذا ما تطالعنا به الصحف باستمرار حول شجارات دامية بين أسر في مناطق متعدّدة من الوطن، وخاصة المناطق الداخلية والنائية البعيدة عن المركز.

توسع العمران وظهور المدن التي تسمح بإخفاء الهوية 

أدى التوزيع السكاني وانتشار المدن والأحياء الجديدة إلى تغيير في نمط علاقات الجوار فأصبحت تتّسم بالفردانية وتفادي التدخّل في حياة الآخرين من الجيران، مما زاد من مساحة تواجد التفاعل العنيف طالما أنه تسبّب في إضعاف التفاعل الإيجابي بين الجيران وقلّل من فرص الانسجام والتفاهم. بالإضافة إلى ظهور المواطن الأجير غير المرتبط بالحي ومستقبله، فلا يشعر بالانتماء ويستقيل براغماتياً منه، بل قد يتمنى حدوث الاضطرابات إذا شعر بأنه ابتز بالإيجار ودفع مبالغ تزيد عن ما هو مفترض مثلاً، فيصبح متبنياً لسلوك عدواني انتقامي. هذا الشعور يشجّعه على الانكفاء على الذات والانزواء، وفي ذلك توفير للجهد والتكليف لأنّ الحفاظ على العلاقات وترقيتها مكلف ومتعب والانسحاب فرصة للتملص من إلتزامات المواطنة. وبعدما يتعوّد على التمتع بالفردانية والحياة من أجل إشباع الغرائز يصبح من الصعب إعادة غرس ثقافة العيش المشترك وبذل الجهد من أجل الآخرين ولو بنسب متفاوتة، وبالتالي كل ظاهرة تؤثر في الأخرى. فالأحياء الجديدة المتزايدة بشكل سريع لا تحمل هوية وليست متجانسة ولا تحمل حتى تسميات بل مجرد أرقام بحسب عدد المساكن التي يحتويها الحي في الغالب، وتفتقر للمنشآت التي تساعد على احتكاك السكان فيما بينهم مثل المسجد والملاعب الجوارية ومراكز الثقافة والتكوين المهني والحدائق وأحياناً حتى المدارس والمتوسطات وخاصة الثانويات، فيجد قاطنيها أنها مجرد أحياء للنوم لا تسمح ببناء علاقات ومد جسور التواصل بين السكان، فيسهّل ذلك على بناء شبكات الإجرام التي تسارع منذ الوهلة الأولى إلى بناء منظومة تسيطر على أمن السكان وتبتزهم به. 

تأثير الأحياء الجديدة

فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي تبذلها السلطات لحلّ أزمة السكن ببناء أحياء جديدة، فإنّ سوء تنظيمها وبرمجتها على توفير شروط التعايش المتوازن في إطار علاقات تعاقدية مدنية بامتياز، قد أنشأ أحياء بمثابة قنابل مؤقتة قابلة للانفجار في أية لحظة، قد تحتاج بعد فترة وجيزة لإعادة برمجة الترحيل منها كشكل من أشكال المعالجة، فتعيد إنتاج نفس المشكلة السابقة، ولكن بصورة أكثر حدّة لأن الأحياء القديمة حيث كان يتعارف الناس كانت تتمتّع بحد أدنى من قيم التعايش والتضامن برغم الضغوطات التي كانت تعاني منها. وبالتّالي تصبح لدينا بيئة معطّلة لممارسة المواطنة، لأن ممارستها في مثل هذه الظروف قد تشكّل تهديداً ومغامرة قد تكونان جدّ مكلّفة، لأنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الضمانات الأمنية ولو بالبنى التقليدية. وهذا يفسّر الارتفاع الكبير في معدلات جرائم السطو والاعتداء على الممتلكات بحيث أحصت الحصيلة السنوية للشرطة 87169 قضية تتعلق بجرائم المساس بالأشخاص التي ارتفعت بـ10.98 بالمائة في سنة 2021، و98332 قضية تتعلق بالمساس بالممتلكات[8].

 تصنّع العنف والعدوانية لتفادي الأخطار المحدقة 

بعد كل ما استعرضناه من ظروف ومؤشرات مساعدة على إنتاج العنف في المجتمع الجزائري أصبح من الطبيعي وجود شعور لدى المواطن بشكل دائم أنه في حالة تهديد طالما أن الأخطار تحدّق به في كل الفضاءات التي يحتك بها، فيضطر إلى التكيّف مع هذا الشعور بإظهار خطاب وسلوك عدوانيين مع الآخرين كإجراء وقائي استباقي لأي تهديد. لذلك انتشرت في الجزائر أنماط تفاعل عدوانية من خلال لغة التخاطب ولغة اللباس والإيحاءات الجسدية، في الغالب وظيفتها الأساسية دفاعية وليست هجومية، كما قد تُفهم في الوهلة الأولى. فهو يريد إرسال رسائل مفادها أنه قادر على مواجهة أي تهديد أو اعتداء ويبرز ذلك بشكل واضح في لغة تخاطب الجزائري العنيفة حتى لدى الفئات المثقفة التي تقلل من حجم التفاعل مع أفراد المجتمع كإجراء تحفظي لتفادي الصدام بعد الاحتكاك. وما يؤكّد ذلك أنّ الجزائري يخفّف من هذه التصرفات والرسائل كلّما شعر بابتعاد الخطر، ويحدث ذلك في الفضاءات التي يقلّ فيها حضور الأفراد الذين لا يعرفهم. فالفرق واضح بين تصرفه في المدن وفي البيئات الصغيرة المغلقة حيث يتعارف الناس مثل القرية وفضاء العمل والأحياء السكنية المغلقة. وهذا الشعور يجعل المواطن دائماً في حالة استنزاف نفسي يؤدي تراكمه على مرّ الأيام والشهور إلى إنتاج المواطن المستقيل من الشأن العام والمنسحب من الحياة العامة تدريجياً. وأمام الشعور بالعجز عن التكيّف مع البيئة المنتجة للسلوك العنيف تزيد احتمالات العجز عن تحقيق الإنجازات في مجتمع لا يشعر فيه هذا المواطن بالانتماء، فيحتاج إلى التنفيس عن الاحتقان بالانخراط في تبنّي بعض السلوكيات العنيفة. فبعد أن كانت مجرد قناع يرتديه لتفادي الأخطار، ينتقل هذا المواطن إلى مرحلة التطبيع مع العنف والسلوكيات العدوانية، ومنها الكلام الفاحش كمؤشّر قوي على اليأس من قدرة المجتمع على مقاومة العنف واحتوائه. وكلّما تراجعت مناعة المجتمع، احتل العنف مساحات جديدة في المجتمع وشرعن حضوره. لذلك أصبح العنف مقبولاً وسط توافر كل ظروف التعوّد عليه، فحتّى الكبار يسوّقون الرسائل السلبية إلى الشباب، والصغار هم من يتكيفون مع ما يشتكي منه الكبار من دون مقاومته. لكنهم لا ينتبهون إلى قوة تأثير تشخيصهم السلبي للأوضاع في الأبناء والشباب عموماً، فيبادر البعض منهم إلى التعبير عن تذمرهم بشتى أنواع التمرد والعدوانية، ليبقى العدوان مؤشراً على استشراء الخوف والقلق والتوتر. وقد تتخذ العدوانية طابع تغليب المصلحة الشخصية بشكل مطلق وقد تتخذ طابع السلوك السلبي واستباحة الآخرين. وهكذا، يمكن قراءة ظاهرة العنف في الجزائر في جزء منها كتعبير عن عدوانية ناتجة عن الفشل في تحقيق إنجازات تتعلّق بتحقيق الذات وتغيير الواقع وتراكم العجز، ليتحوّل إلى سلوك عدواني. ويرتبط ذلك من زاوية أخرى برفع سقف التطلّعات أمام عدم التشبّع بالتنشئة على قيمة العمل والقدرة على الإنجاز وتجاوز التحديات، فيؤدي إلى زرع تناقضات تتسبب في تفجير أنواع وأشكال من العنف والعدوانية.

ففي الدول المتطورة لا يتم القضاء على العدوانية، بل يتم تأطيرها كشهوة تسثثمر بتفريغها من خلال الصراع من أجل النجاح والتفوق والتنافس في شتى المجالات كالتنافسية في الفضاء المهني والدراسي والرياضي وحتى الحروب الخارجية، كي يتقدّم المجتمع بالعدوانية التي تحطم مجتمعات أخرى لم تستطع ترويضها ولا استثمارها.

عندما يتحول العنف إلى وسيلة استرتيجية لتحقيق الترقية 

بعد مرحلة التعوّد والتطبيع مع السلوك العنيف، تأتي مرحلة توظيف السلوكيات العنيفة لتحقيق الترقية في إطار تسلسل طبيعي بناء على طبيعة تنظيم المجتمع. فقد استُحدثت طرق متعدّدة لتحقيق شكل من أشكال الترقية الاجتماعية، حيث هناك مهن وطرق كسب أصبحت تتطلّب التمظهر بمواصفات المجرم في الملبس وحلاقة الشعر وإيحاءات الجسم. وكل المؤشرات تؤكّد ذلك، فإذا أخذنا على سبيل المثال ظاهرة حراسة حظائر السيارات غير القانونية المنتشرة في كل الأزقة والأحياء، نجد الحراس يتوافقون على ضرورة أن يتشبهوا في مظهرهم الخارجي بأشكال المجرمين كي يستطيعوا ابتزاز السائقين بسهولة ويدفعونهم للاستجابة للأثمان المطلوبة في مقابل حراسة سياراتهم في الشوارع من دون أدنى رخصة، بل أحيانا أمام أبواب عماراتهم. 

لذلك، فإنّ هؤلاء الحراس يدركون جيداً أن هذا المواطن المرعوب لا يدفع ثمن التوقّف في مقابل خدمة بل في مقابل الأمن وعدم الاعتداء. وكذلك الأمر بالنسبة لحراس الشواطئ وغيرها من الأدوار التي تم استخدامها لابتزاز المواطنين على مرأى ومسمع من الجهات الوصيّة، من دون أن تحرّك هذه الأخيرة ساكناً، لأنها تعلم بأنّ ثمن سكوت هؤلاء الحراس والتزامهم بالسلم الاجتماعي هو تركهم يطبّقون استراتيجياتهم الفردية القائمة على التهديد لتحقيق منافع شخصية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الباعة الجوّالين والباعة الفوضويين على أرصفة الشوارع وقاطني الأحياء الفوضويّة، وأصحاب المساكن القصديرية الذين استفادوا من مساكن جاهزة. كما يكفي للزائر للمدن الكبرى التجوّل في الأحياء وأمام أبواب مدارس أبنائنا، كي يرى ظاهرة التجوّل بكل أنواع الكلاب المفترسة، ليلاحظ حجم التّهديد الذي يتعرّض له المواطن باستمرار. وقد أصبح بعض الشباب يلجأ إلى استخدام العنف في أحيائهم لكسب التقدير والاحترام بالخوف، فهم يعلمون أن الجيران وقاطني أحيائهم لن يحترموهم طالما أن ليست لديهم مهارات وموارد تدفع إلى احترامهم، فيعوّضون كسب ذلك التقدير شكلياً وظاهرياً بنشر الخوف والتهديد بالاعتداء لمن لا يبدي لهم الاحترام في مقابل الحماية وتفادي شرّهم. 

وللأسف الشديد، أصبح بعض المجرمين والمنحرفين مقصد البعض لحل مشاكلهم الأمنية عند تهديد خارجي أو استهداف من فئات إجرامية أو أحياناً حتى لاسترجاع الحقوق بطرق غير قانونية، لأنهم يعلمون أنّ طريق العدالة طويل وشاق وغير مضمون النتائج بينما منظومة الانحراف والجريمة، التي تزداد تهيكلاً يوماً بعد يوم، قد تشكّل بديلا ًمناسباً في بعض الحالات. 

وإذا كان هذا هو حال المدن الكبرى، فما عسانا أن نقول عن المدن الداخلية والمناطق النائيّة؟، فإذا أردنا أن نفهم حقيقة لماذا انتشر العنف والإجرام في مجتمعنا، يجب أن نربط ذلك بعدم نجاعة المؤسسات الضابطة لحراك المجتمع وكيف تمّ تحطيمها كما بيّنا، وأصبح المجتمع يعاني من فراغ مؤسّساتي كبير لا يمكن أن تعوّضه المجهودات الفردية مهما كان حجمها. فالعنف موجود في كل المجتمعات، لكن أن يصبح عنفاً مؤسّساتياً وآلية لتسيير المجتمع، فهذا خطر يهدّد بتفكّك هذا الأخير. فإذا أصبح الموظف لدى مؤسسات الدولة مقتنعاً بأنه لن تتم الاستجابة إلى مطالبه أو حتى الالتفات إليها، إلا إذا استعمل العنف وتهديد النظام العام، فكيف لا نتفهّم رجل الشارع البسيط حين يلجأ إلى تعطيل المصلحة العامة وتهديد النظام العام بغلق الطرق والمرافق الإدارية والتخريب وهو الذي لا يملك غير ذلك؟ 

بل أصبح الآن التلاميذ الصغار يلجؤون إلى مثل هذه الوسائل لرفع انشغالاتهم إلى السلطات الوصيّة، والتي منها عادة تحديد عتبة الدروس في الامتحانات الرسميّة، هذا ما آل إليه الوضع في الجزائر للأسف الشديد، مجتمع ينتج ويعيد إنتاج العنف من دون أن يشعر لأنه منشغل بالبحث عن الأمن والترقية.

الهوامش 
1-  https://www.echoroukonline.com
2-  https://www.aps.dz
3 - أنتوني غيدنز- فليب صاتن: مفاهيم أساسية في علم الاجتماع،المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات،ط1، بيروت،2018،ص281[3] 
- د/سموك علي:إشكالية العنف في المجتمع الجزائري،من أجل مقاربة سوسيولوجية،مختبر التربية،الانحراف و الجريمة في المجتمع،جامعة عنابة،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر،2006،ص ص247-248[4] 
[5]  - د. بوطالب محمد نجيب، سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية،ط2، بيروت، ، 2009. ص 102
 [6]  - عنصر العياشي: سوسيولوجيا الأزمة الراهنة في الجزائر،في :الرياشي سليمان (و آخرون) : الأزمة الجزائرية،الخلفيات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية،ط2،مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان،1999،ص243
[7] - https://www.echoroukonline.com
[8] - https://www.aps.dz