الحصار الرقمي والحروب الجديدة: كيف تتحوّل التكنولوجيا إلى سلاح؟
لقد غيّرت التكنولوجيا وجه العالم، لكنها غيّرت أيضاً شكل الحروب. الحصار الرقمي هو أحد أخطر تجلّيات هذه المرحلة الجديدة، حيث تصبح السيطرة على البيانات والتحكّم بالمعلومة أكثر فتكاً من أيّ قنبلة.
في زمن لم تعد فيه الجيوش وحدها من تشنّ الحروب، برزت التكنولوجيا بوصفها لاعباً جديداً في ساحات الصراع. لم نعد بحاجة إلى سماع دويّ المدافع لنشعر بالخطر. ففي عصر الثورة الرقمية، لم تعد السيطرة على الأرض أو السماء هي الهدف الوحيد؛ بل أصبح التحكّم في المعلومات، وفي تدفّق البيانات، وفي قدرة الأفراد على الوصول إلى الحقيقة، شكلاً جديداً من أشكال الحروب وهو الحصار الرقمي.
علماً أنّ الحصار الرقمي ليس مجرّد انقطاع للإنترنت أو حجب لمواقع التواصل الاجتماعي. إنه عملية منظّمة تستخدم التكنولوجيا الحديثة لعزل الشعوب، خنقها إعلامياً، وتقييد حرياتها، ومحو صوتها من الفضاء الإلكتروني.
قد تأخذ هذه العملية شكلاً من أشكال الرقابة الشاملة، أو الحرمان من البنية التحتية الرقمية، حتى الهجمات السيبرانية التي تستهدف مصادر المعلومات وأنظمة الاتصالات.
وعلى عكس الحصار التقليدي الذي يطوّق المدن والحدود، فإنّ الحصار الرقمي يتسلّل إلى كلّ بيت، إلى كلّ هاتف ذكي، إلى كلّ حاسوب، ويمنع الأفراد من أداء أبسط حقوقهم في التواصل، التعلّم، وحتى التعبير عن الألم.
قد تبدو الهواتف الذكية والإنترنت أدوات للحرية والانفتاح، لكنّها أيضاً قد تتحوّل إلى أدوات للهيمنة. فالدول، والشركات الكبرى، وأجهزة الاستخبارات، أصبحت تمتلك قدرات خارقة في المراقبة، والتعقّب، والتأثير على الرأي العامّ. إنها حروب لا ترى، تدور في الظل، تعتمد على التحكّم بالمعلومة بدلاً من السلاح، وعلى بثّ الإشاعة بدلاً من الرصاصة.
خلال الأزمات والحروب، يلاحظ أنّ الحصار الرقمي يستخدم كجزء من استراتيجية شاملة، تهدف إلى تفتيت المجتمع من الداخل. يمنع الناس من الوصول إلى الأخبار، وتشوّه الوقائع، وتحجب المنصات التي تنقل الحقيقة، وتغرق الفضاء الرقمي بالمعلومات المضللة. وفي كل هذا، لا يشعر الفرد فقط بالعزلة، بل بفقدان القدرة على المقاومة.
وخير مثال على ذلك ما شهدناه في السنوات الأخيرة أمثلة حيّة على استخدام الحصار الرقمي كسلاح. ففي بعض الدول التي اندلعت فيها انتفاضات شعبية، تمّ قطع الإنترنت بالكامل لساعات أو أيام، ما أدّى إلى عزل المواطنين عن العالم الخارجي. في مناطق النزاع، حجبت مواقع التواصل لتقييد الحراك الشعبي، وتمّت محاصرة الصحافيين والنشطاء من خلال تتبّع تحرّكاتهم رقمياً.
في الحرب الروسية - الأوكرانية، وفي حروب الشرق الأوسط، ظهر الحصار الرقمي بشكل أكثر وضوحاً، حيث أصبح الصراع على السردية الإعلامية أحد أبرز ميادين الحرب. كلّ طرف يسعى لفرض روايته، مستخدماً وسائل التكنولوجيا في التضليل والتعتيم، وفي بعض الحالات يستخدم الذكاء الاصطناعي نفسه لتوليد محتوى زائف يزيد من حالة التشتّت والارتباك لدى الشعوب.
بعيداً عن لغة الأرقام والتحليل السياسي، ثمة إنسان خلف كلّ جهاز مقطوع عن الشبكة. هناك أمّ لا تستطيع الاطمئنان على ابنها، وطالب لا يمكنه إكمال دراسته، ومواطن عاجز عن التعبير عن معاناته. الحصار الرقمي يقتل بالتدريج؛ لا يسفك الدماء، لكنه يسلب الناس حقّهم في الكلمة، في المعرفة، وفي الانتماء إلى هذا العالم المتصل.
بل إنّ فقدان القدرة على الاتصال أصبح في بعض المجتمعات بمثابة فقدان للهوية. فحين يمنع الفرد من الوصول إلى منصاته، ومن التعبير عن رأيه، أو من رواية قصته، يصبح وكأنه غير موجود. وهذا ما يجعل الحصار الرقمي أخطر مما نتصوّر؛ لأنه يمارس بلا ضجيج، لكنه يترك جراحاً عميقة في الوعي الجمعي.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى وعي رقمي، وإلى قوانين دولية تجرّم استخدام الحصار الرقمي كسلاح ضد الشعوب. على المؤسسّات الإعلامية، والجامعات، ومنظمات حقوق الإنسان، أن تسهم في كشف هذا النوع من الحروب وتوثيق جرائمه.
كما يجب أن نعيد التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا. لا يكفي أن نستخدمها، بل علينا أن نفهمها، نحمي أنفسنا منها، ونتعاون لبناء فضاء رقمي حرّ وآمن للجميع. الحرية الرقمية ليست رفاهية، بل حقّ إنساني أساسي، يجب الدفاع عنه كما ندافع عن حرية الكلمة، وحرمة الجسد، وكرامة الوطن.
لقد غيّرت التكنولوجيا وجه العالم، لكنها غيّرت أيضاً شكل الحروب. الحصار الرقمي هو أحد أخطر تجلّيات هذه المرحلة الجديدة، حيث تصبح السيطرة على البيانات والتحكّم بالمعلومة أكثر فتكاً من أيّ قنبلة.
وبينما تتسابق الدول لتطوير تقنياتها العسكرية، يجب أن تتسابق الشعوب لحماية وعيها، وأن تبقى عيوننا مفتوحة، لا فقط على الشاشات، بل على الحقيقة التي تحاصر في داخلها.