«الحلومر» مشروب يُحلي موائد السودانيين رغم مرارة أسعاره

ما سرّ المشروب العجيب الذي لا تكتمل موائد السودانيين في رمضان إِلا به؟

يمكن القول إن «الحلومر» من ضمن الأشياء القليلة التي لا يختلف السودانيون عليها، ما يضعه - مجازاً - على مقربة من عدّة أشياء تُعرّف بهم، كنشيدهم الوطني، وراية بلادهم بألوانها الرباعية.

من قبل حلول شهر رمضان المبارك، وفي أثنائه، وعقبه، تحتشد صالة المغادرة في "مطار الخرطوم الدولي"، بصناديق الكرتون المعبّأة بمشروب «الحلومر» المحلّي الذي يجوب الأرض لتحلية موائد السودانيين في الغربة.

فما سرّ هذا المشروب العجيب الذي لا تكتمل موائد السودانيين في رمضان إِلا به؟ وكيف يحتفظ بهذا الوجود غير مبالٍ بأزمات الاقتصاد والسياسة؟ وفي كل يومٍ يكتسب أرضيّات جديدة حدّ غزوه لقوائم المشروبات في أشهر فنادق العاصمة.

سرّ التسمية

يحتفظ مشروب الحلومر في ذاته، بعددٍ من العجائب، وأول عجائبه متمثّلة في إسمه الخليط بين الحلو والمرّ في ذات الوقت.

وأتت تسمية الحلومر من كونه مشروباً له طعم حلو مع وجود لذعة محبّبة، وهي خلطة كما تظهر في طعمه اكتسى به إسمه كذلك.

ويمتلك المشروب المحلّي كذلك إسماً ثانياً لا يقلّ ذيوعاً وهو «الآبري» وهي لفظة نوبية تعني الكشط، لكون رقائق الآبري بعد مرحلة الطهيّ المعروفة شعبياً بـــ ـ«العواسة» يتمّ كشطها من المواقد.

ولتعظيم سيرة الحلومر أو الآبري، نجده دخل في أمثولات السودانيين الشعبية، فيقال للشخص المتعجّل (خلّي عندك صبراً يبل الآبري)، أي صبراً لحين اكتمال نقيع الآبري الذي يحتاج وقتاً قبل تصفيته وشربه.

كيف يصنع؟

يلفت أستاذ السودانيات بهاء الدين محسن، إلى أنَّ الحلومر صناعة شديدة التعقيد، حيث تحكي المرويات أنّ عمره يقدَّر بآلاف السنين، وظهر ابتداءً في الممالك النوبية القديمة.

وعن طريقة صنعه التي تحوي مراحل عديدة وشائكة، يقول محسن في حديث مع "الميادين الثقافية"، إن بعض الأساطير تشير إلى أن وصفة الحلومر صادرة عن آلهة النوبيين، ومن يؤيّدون هذا الرأي يستندون إلى عدم وجود شخص أو طاهٍ معروف يمكن أن يكون مرجعاً للفكرة التي تنسب عموماً إلى نوبة السودان الذين حكموا منطقة شمال السودان، لقرون، اجتاحوا خلالها مصر الفرعونية.

السؤال المهم عن كيف يصنع الحلومر، سؤال طرحناه على سعاد موسى، إحدى صانعاته البارعات في الخرطوم لأغراض البيع.

تقول موسى لــ "الميادين الثقافية"، إن أولى عمليات صناعة الحلومر تتمثّل في وضع الذرة في جوّالات من «الخيش»، في مناطق باردة نسبياً، وريّها بانتظام لحين نمو الذرة وهي مرحلة تعرف شعبياً بــــ «الزرّيعة».

من ثم تجفّف الذرة، ويجري طحنها، ومن بعد يُضاف إليها دقيق الذرة الجاهز، ويجري خلطها بكميات كبيرة من البهارات المسحونة نحو «الزنجبيل، القرفة، الحلبة، والكمون».

اقرأ أيضاً: لماذا لم تتخلَّ الشعوب عن فوائد القرفة منذ 2000 عام؟

وتقول موسى إن بعض الصانعات، وهي إحداهن، تضيف بهاراً إضافياً متمثّلاً في خليط من (الكركدي والعرديب)، إذ يضيف الأول لوناً مائزاً، فيما يضاعف الثاني من اللذعة المحبّبة لدى السودانيين.

وبعد هذه المرحلة يتمّ تخمير الخليط لمدّة يومٍ كاملٍ، ومن ثم تجيء مرحلة «العواسة» وهي مرحلة يجري خلاله طهي الخليط في شكل رقائق جاهزة للتعبئة، والتحضير من خلال نقعها في الماء لساعاتٍ ومن ثم تصفية المنقوع وشربه بعد إضافة الثلج والسكر.

طقوس

تصاحب صناعة الحلومر طقوس سودانية، أهمّها طقس العمل النسوي الجماعي المعروف شعبياً بـ«النفير».

ويقول بهاء الدين محسن، إن الحلومر هو أحد علامات رمضان المائزة في السودان، حيث تفوح رائحته عند مرحلة العواسة، في إيذان باقتراب الشهر المعظّم لدى المسلمين.

ويشير إلى ظاهرة الاستدعاء بين النساء لنظيراتهن بمرحلة طهي الحلومر في مواقد كبيرة تعمل بالحطب، ومقابل الجهد المجاني اللائي تبذلنه، يستلزم على صاحبة الدار أن تقوم بضيافة كل تلك النسوة بتحضير الوجبات والمشروبات الباردة والساخنة.

وفي نهاية اليوم تقدّم صاحبة الدار، هدايا للنسوة المشاركات عبارة عن كميات من الحلو، تعرف الواحدة منهن بـ«الطَرَقّة»، ويلزمها لاحقاً ردّ هذا الجميل بمشاركة بقيّة النسوة في عواسة الحلومر خاصتهن.

ويتابع محسن: "هذه الروح، وتدويرها لفترات طويلة، تجعل من الحلومر مشروباً جماعياً، ويستبين ذلك في كونه أكثر الهدايا الشائعة بين السودانيين، سواء داخل أو خارج السودان قبل وأثناء رمضان".

مرحلة التسويق

تنحسر صناعة الحلومر بشكلٍ لافت في المدن الكبرى، فيما لا تزال تحافظ على خصوصيّتها الأرياف بين السيّدات المسنّات على وجه الخصوص.

أمر يعزوه أستاذ السودانيات، إلى أن الحلومر يصنع بحبٍ كبيرٍ على يد الجدّات اللاتي يرفضن تسليعه، وبخبرةٍ متوارثة محلّها الريف حيث يقمن بعيداً من صخب المدن.

ويتحسّر محسن على تراجع الاهتمام من قِبَل الشابات السودانيات على صناعة المأكولات والمشروبات المحلية عموماً، والحلومر على وجه الخصوص، أحياناً بدعوى الخروج إلى العمل، وأحياناً أخرى بنزعة متعالية تنظر للمائدة الشعبية بأنها نقيض للحداثة.

وبغضّ الطرف عن السبب، يؤكّد محسن بأن الحلومر يشهد تحوّلاتٍ كبيرةٍ من مرحلة الصناعة عبر النفير، إلى مرحلة «البزنس»، حيث يتمّ التعامل معه كسلعة، إلى حدّ إقدام مصانع كبيرة على بيعه كمشروب جاهز كحال المشروبات الغازية.

أمور ستؤدّي نهاية المطاف إلى تراجع جودة صناعة الحلومر، وارتفاع أسعاره على حدٍ سواء، لأغراض تحقيق مزيد من الأرباح.

ووصل سعر «30 طرقة حلومر» وهي كمية تكفي أسرة صغيرة، إلى حوالى 15 ألف جنيه، تعادل حوالى 26.5 دولارات بحسب تعاملات البنوك التجارية منتصف نيسان/أبريل الجاري.

القيمة الغذائية

من جهتها، تقول أخصائيّة التغذية نادين عمر، إن الحلومر يساعد على الهضم لاحتوائه على الخمائر المتكوّنة إثر تعرّضه للتخمير في عدّة مراحل، ولعلّ ذلك ما يفسّر ظهوره وارتباطه الوثيق بشهر رمضان.

وتضيف عمر في حديثها مع "الميادين الثقافية"، بأنّ الحلومر يحتوي على السكريات والأملاح كذلك. بَيْدَ أنها عادت وحذّرت أصحاب الأمراض المرتبطة بالقولون، من الإفراط في تناوله، كونه يحتوي على كميات كبيرة من البهارات.

ويظلّ الحلومر مشروباً يستحق تذوّقه باللسان، بأكثر من محاولة استنكاه طعمه بالمخيال والصور القلمية. مشروب ضارب في جذور التاريخ يحاكي عظمة تاريخ الأجداد، ويجتمع اليوم حوله أحفادهم الذي لا يجتمعون عادة حول شي أو أمر.

مشروب يشبهنا في تقلّباتنا المتواصلة بين الحلو والمر، حيث ما نزال نبتلع ذلك كله دفعة واحدة على أمل هضم مرارة تصرّفات ولاة أمورنا غير المبلوعة، وتحلية أيامنا المتقلّبة بين المدنيين والعسكر.