الطبقات الوسطى العربية: انهيارات متتالية؟

قبل انهيارها، هل شكلت الطبقات الوسطى العربية سنداً للأنظمة؟ وكيف تمهد أزمة هذه الطبقات لتعميق النزاعات ودفع الملايين إلى الهجرة واللجوء؟

كانت مشاريع ما بعد مرحلة الاستقلال عن الاستعمار في أغلبية دول العربية، طموحة من حيث الرغبة في ''الخروج من التخلف'' وتحقيق التنمية. حدث ذلك ضمن مسارات متعددة، بدأت برأسمالية الدولة ثم الاشتراكية المناهضة للاستعمار، والتي جسدتها تونس البورقيبية، ومصر الناصرية، وجزائر هواري بومدين، في حين أدت الطفرة النفطية في دول الخليج إلى إعادة تشكيل البنى الاجتماعية القبلية وإدراجها ضمن علاقات سلطة قائمة على اقتصاد الريع.

بعد التجارب التي طغت عليها أيديولوجيا التنمية والتحديث التسلطي، خاضت دول عربية منذ سبعينيات القرن الماضي التجربة الليبرالية، التي سيبدأ معها تأكُّل العقد الاجتماعي الذي تشكلت بموجبه الطبقة الوسطى والنخب الحديثة المعبرة عن تطلعاتها، والتي كانت، في الغالب، نتاجاً لنشر التعليم وتعبيره عن رغبة في اللحاق بركب الحداثة.

كانت تلك النخب، المنتمية في أغلبيتها إلى البرجوازية الصغيرة (طبقات الموظفين وبعض قطاعات المهن الحرة كالمحاماة والطب)، تشكل الأداة الطيعة من أجل تكريس النزعة التسلطية.

ويشير عالم الاجتماع التونسي الراحل، عبد الباقي الهرماسي، إلى أن أغلبية المنتَخَبين في برلمانات البلدان المغاربية (تونس، المغرب، الجزائر)، هي من طبقة الموظفين، الأمر الذي جعل تداخل السياسة في الوظيفة أداة طيعة لترويض المؤسسات البرلمانية وتكريس الرقابة عليها، ثم توظيفها لضمان مزيد من الهيمنة وتثبيت الشرعية. هكذا دخلت الطبقات المتوسطة في لعبة مضاعفة في علاقتها بالنظم السياسية. فمن ناحية تعيش تلك الطبقات الرغبة في تحسين شروط وجودها داخل النظامين الاقتصادي والسياسي عبر علاقات زبائنية، ومن ناحية أخرى تنخرط في نزاع سياسي احتجاجاً على فقدان مكاسبها، وهو نزاع يتخذ أشكالاً ممأسسة، تارة عبر النقابات والأحزاب اليسارية والإسلامية السياسية، وأحياناً أخرى عبر تعبيرات هشة لا تتعدى عتبة المشاعر، كالاحتجاجات الشبابية التي تطالب بالإندماج في عالمي العمل والاستهلاك.

ولا تتورع هذه الطبقات عن الانخراط في ممارسات الفساد، كالحصول على الرشى (طبقة موظفي الدولة) وخلق علاقات زبائنية من أجل تحسين أوضاعها. كما تبدي استعداداً دائماً لمساندة النظم السياسية القائمة بقطع النظر عن مدى ديمقراطيتها، بغية توفير مكاسب مرتبطة بالرفاه الاجتماعي، علماً بأن الأخير بات مطلباً ملحاً مع انخراط دول المنطقة في اقتصاد السوق الذي خلق حاجات جديدة لدى الطبقات الوسطى تتمحور حول قيم "المجتمع الاستهلاكي" وتعزيز الرغبة في التمايز الاجتماعي من خلال الاستهلاك المفرط، على حساب قيم الجهد والعمل والجد، التي تأسست عليها الدولة الوطنية وروجتها. 

الدولة الاجتماعية قوة أمل  

عرف الغرب مساراً تاريخياً أوصل إلى الثورة الصناعية خلال القرن الــ 19، التي أفرزت بدورها طبقة جديدة خرجت بأوروبا من مجتمع الإقطاع (القائم على تراتبية اجتماعية يتم توارثها ويعاد إنتاجها)، إلى مجتمع حديث يستمد تاريخانيته من الصراع الاجتماعي بشأن العمل كعلاقة اجتماعية.

وكان طرفا هذا الصراع الطبقة البرجوازية والحركة العمالية التي تناضل من أجل تحسين ظروف العمل والخروج من الاستغلال الذي يمارسه الرأسماليون من ملاّك المصانع ووسائل الإنتاج (وفقاً للتعبيرات الماركسية). وبالتالي، كانت الحداثة الأوروبية، بهذا المعنى، انتقالاً من "مجتمع تقليدي" إلى "مجتمع حديث" يتسم بتقسيم اجتماعي معقد للعمل ثم التمايز بين الطبقات.

هذا المسار التاريخي، الذي قام بالانتقال من التقليدي إلى الحديث، لم تعرفه مجتمعات المنطقة العربية وفق الآليات نفسها، على رغم حرص نخب ما بعد الاستقلال على استيراده كنموذج، كما يحلل برتراند بادي في كتابه "الدولة المستوردة''، بل خضع تشكل الطبقات في المنطقة العربية لمسار مغاير ارتبط باللحظة الاستعمارية منذ نهايات القرن الــ 19.

وتوضح إيزابيل لوغنيتس هذه المسألة بدقة في كتابها "أزمة الطبقات الوسطى في المشرق العربي"، طارحة إشكالية الطبقات الوسطى من مدخل سوسيولوجيا المهن. وترى أن نشر "العلوم الأوروبية في المشرق العربي أدى إلى قطيعة جذرية مع المعارف والممارسات المتوارثة من التقليد العربي الإسلامي القديم".

هذا الأمر سيؤدي، وفق إيزابيل لوغنيتس، إلى ظهور مهن تستمد شرعيتها من العلوم الحديثة، الأمر الذي سيعزز الاختراعات التقنية التي تعزز بدورها الصلة بالثقافة الغربية وتسفر عن خلق تقسيمات اجتماعية جديدة للعمل، من نتائجها إعادة ترتيب الروابط الاجتماعية على مستوى سياسي. بحيث تتبلور نخب ليبرالية تصارع لتدشين طريقها المستقل، على المستويين السياسي والمجالي.

على المستوى المجالي، أصبحت الطبقات المتوسطة صنيعة دولة الاستقلال جزءاً من المجالين العمراني والمديني، اللذين يرتبطان، من الناحية السياسية، ببروز فاعلين جدد كالنقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية، والتي ترتبط بعلاقات معقدة بالنظم الحاكمة تتراوح بين المهادنة والخضوع والمعارضة الراديكالية. 

وتتشكل تلك النقابات والجمعيات والأحزاب من أفراد ينتمون في الغالب إلى الطبقات الوسطى؛ أفراد يطمحون إلى الضغط على الأنظمة الحاكمة في اتجاه مسائل تتعلق بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إلا أن وضعية هؤلاء الأفراد، "وضعية الجلوس في كرسيين"، تجعل نخب هذه الطبقة موضع رهان سياسي شبه دائم، بحيث تُستخدم لترسيخ النزعة التسلطية لدى الأنظمة الحاكمة، إذ يدخل الطرفان، الأنظمة ونخب الطبقات الوسطى، في علاقات زبائنية تقوم على ممارسات الفساد والرشوة الاجتماعية.

في هذا الصدد، وكمثال على طبيعة هذه العلاقة، ترى عالمة السياسة الفرنسية، المتخصصة بالشأن التونسي، بياتريس هيبو، أن نظام زين العابدين بن علي كان يقيم نوعاً مما تصفه بــ "عقد الأمان" الضمني بين نظامه والطبقات المتوسطة من خلال شراء صمتها عبر القروض الميسرة الاستهلاكية التي توفر نوعاً من وهم الرفاه، سواء عبر اقتناء السيارات الشعبية أو السكن الشعبي وآلات الرفاه المنزلي. حتى إن نظام ابن علي ذهب إلى تغيير منظومة البكالوريا من أجل تسهيل دخول التلاميذ للجامعة (في إطار جمهرة التعليم).

كل هذا كان في مقابل شراء صمت الطبقات المتوسطة والتحكم فيها عبر خلق نموذج استهلاكي انخرطت فيه أغلبية دول المنطقة، ولم يهدف إلى خلق الثروة ودعم تراكم رأس المال وتحقيق التنمية، بل بناء "حالة استهلاكية" ستطغى في العالم الحضري وتكون مدخلاً لإحباطات كثيرة عاشتها المنطقة بدءاً من "انتفاضات الخبز" في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وصولاً  إلى ما يعرف بــ "ثورات الربيع العربي" التي كانت بمنزلة إعلان عن إحباط جماعي معمم للطبقات المتوسطة من "ريع اللبرلة" الذي لم تستفد منه بصورة كافية.

هذا الأمر كان متوقعاً، ذلك بأن انخراط الاقتصادات الوطنية في اقتصاد السوق لم يكن في مصلحة الطبقات المتوسطة. وأظهرت "الثورات" العربية أنه كان لمصلحة أقليات مالية مقربة إلى النظم، استفادت من "اقتصادات الريع" التي تتحكم فيها منظومات قانونية وُضعت بالتحالف مع أنظمة تسلطية.

كما أن الرغبة في إخضاع الطبقات المتوسطة والتحكم فيها كانت في الغالب لمصلحة "كارتيلات البنوك" التي استفادت من تخلي الدولة عن أنظمة الرعاية الاجتماعية، وخصوصاً المتعلقة منها بالسكن والنقل والصحة، بحيث باتت الطبقات المتوسطة في وضعية "استدانة فائقة" لقطاع مصرفي لا يساهم في خلق الثروة، بل في تعزيز الثقافة الاستهلاكية في كل مناحيها.

حتى إن تجارب محاولات التصنيع وتحويل التكنولوجيا التي عرفتها البلدان العربية في إبان الاستقلال أخذت في الانهيار والتأكّل نتيجة الاتفاقيات مع "منظمة التجارة العالمية" والاتحاد الأوروبي، علاوة على بروز اقتصادات جديدة ذات قدرة تنافسية عالية عصفت بالاقتصادات الوطنية وأضعفتها، ونقصد هنا السلع الصينية والتركية.

كل ما سبق ذكره، كان من تبعاته بروز ما يمكن تسميته "فقراء الطبقة الوسطى"، وهي فئات حضرية مدينية تتشكل من موظفين وتجار صغار عاشوا انحداراً اجتماعياً، يضاف إليهم جزء كبير من خريجي الجامعات الذين يعيشون على هامش العمل الرسمي، ووجدوا أنفسهم مجبرين إما على البطالة وإما الانخراط في "المهن الصغيرة" المرتبطة باقتصاد الخدمات أو مهن غير رسمية. وهذا الأمر سيأخذ مداه الأقصى مع بداية الألفية الجديدة وسيمهد لــ "ثورات الربيع العربي"، التي ستكون بمنزلة اللحظة التي ستعلن أزمة الطبقات الوسطى وانفكاك العقد الاجتماعي، الذي ربطها طويلاً بالنظم التسلطية. وشمل هذا الانهيار بلدان المنطقة بمستويات متفاوتة، لكنه مسّ بصورة مباشرة البلدان غير النفطية، التي تعول اقتصاداتها على الجباية والاقتراض الخارجي.

أزمة الطبقات الوسطى: إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع  

لا تبدو أزمة الطبقات الوسطى العربية مجرد أزمة عابرة، بل هي العنوان الأكبر لتحولات كبرى تمر فيها المنطقة منذ ثمانينيات القرن الفائت، وهي تحولات مركبة ومعقدة تشمل مستويات متعددة، بدءاً بالعلاقة التي تقيمها الدولة بالمجتمع، وصولاً إلى الجانب القيمي الذي يترافق مع تشكل نوع من "الأنوميا الاجتماعية" التي لم تعد عبره المؤسسات التقليدية، التي بنت عليها النظم السياسية مشروعيتها، قادرة على الاستجابة لتطلعات الأفراد وآمالهم على غرار المدرسة والعائلة والمؤسسة الدينية.

هذه المؤسسات كانت تشكل في السابق نطاقاً لتحقق الاعتراف الاجتماعي، في حين أنه، أمام تصاعد "مسارات الفردنة" التي تتعزز تحت وطأة شبكات التواصل الاجتماعي وقيم المجتمع الاستهلاكي، أخذت في التراجع، وبالتالي ما كان يعهد بالأمس للمؤسسات بات يعهد اليوم للأفراد الذين عليهم أن يتدبروا أمورهم بعيداً عن رعاية الدولة.

وسيأخذ هذا التحول الهيكلي، الذي جاء نتيجة مسار يناهز 4 عقود من إعادة التعديل، آثاراً متعددة في حياة الطبقات الوسطى التي ستكون أزمتها عاملاً من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، سياسياً واجتماعياً، وعاملاً من عوامل تعزيز السلطوية والفساد وفشل تجارب الانتقال الديمقراطي وتنامي النزاعات المسلحة والحروب الأهلية. 

الطبقات الوسطى وصعود اللايقين

تواجه الطبقات الوسطى العربية انهيارات غير مسبوقة من ناحية منظوماتها القيمية، التي بُنيت ضمن أيديولوجيا دول الاستقلال التي قامت مرجعياتها وسرديتها على وعد تحقيق التنمية والخروج من "التخلف". وهو وعد تفاؤلي ارتبط أساساً بمقولة التقدم. كما صيغت ضمن سردية الحداثة الغربية.

واندمجت أغلبية الطبقات الوسطى في تلك الأيديولوجيا التي جسدها المشروع الوطني القائم على مقولات الجهد والعمل والانضباط والتشييد والبناء. وهذا ما جعل أفراد تلك الطبقات يبنون طموحاتهم المرتبطة بالدولة ومؤسساتها الضامنة.

لكن التحول الهيكلي منذ منتصف القرن الماضي سيعصف بآمالها وسيعيد إدراج فكرة العمل ذاتها في أفق جديد يتعلق برهانات اقتصاد السوق، والذي لم تعد الدولة هي الفاعل الرئيس فيه، بحيث ستتراجع الأخيرة عن فكرة الضمانات التي تتعلق بالوظائف الدائمة، وتفتح المجال للعمل المرن والعقود الموقتة، كما ستعمل في اتجاهات جديدة تجعل فكرة دعم الاستثمار مدخلاً لدعم عقود العمل الهشة، وبالتالي تقليص دور النقابات وكل التنظيمات المهنية التي تمثل مصالح الطبقات الوسطى.

وترافق ذلك مع زيادات كبيرة في عدد خريجي الجامعات الذين تعجز سوق العمل المحلية عن استيعابهم، الأمر الذي أنتج خطاباً اقتصادياً مغلّفاً بلغة سياسية، ويحمّل المشكلة للنظم التعليمية والجامعية، مدعياً أنها لم تستطع التأقلم مع متطلبات سوق العمل الجديدة، الأمر الذي دفع عدداً من البلدان في المنطقة إلى الشروع في برامج "إصلاحية" في مجال التعليم ممولة من البنك الدولي ومنظمات دولية أخرى، بغية "ترسيخ ثقافة المبادرة" وترويج فكرة، مفادها أن لا خلاص لأزمة تلك الطبقات إلا بالمبادرة الخاصة، والانخراط الفاعل في اقتصاد السوق.

لكن هذه الأنظمة والمجموعات نفسها، كانت تعجز (بل لا ترغب) في تغيير النظم القانونية والبيروقراطية التي تعوّق المبادرة الخاصة، وتقف حائلاً أمام القيام بمشاريع خاصة، بل إن النظم القانونية والجهاز البيروقراطي كانا يعملان، بصورة متوازية، في اتجاه لا يخدم إلا المجموعات المهيمنة المحتكرة للقطاعات الأكثر ربحية، وهي قطاعات تقوم على إغراق السوق بالسلع المستوردة.

وتحافظ تلك المجموعات على مواقعها عبر احتكارها القطاعين المصرفي والمالي والتأثير فيهما والتحكم في شروط التمويل، لكنها تعمل أيضاً بصورة قوية على عقد علاقات زبائنية بالنطاق السياسي عبر تمويل الأحزاب والتحكم في البرلمانات والتأثير في التشريعات القانونية.

أدى هذا الأمر، وهو نتاج الخيارات النيوليبرالية، إلى خلق حالة من اللايقين بشأن المستقبل لدى فئات شبابية عريضة تنتمي إلى الطبقات الوسطى، وتحويلها إلى "فئات بلا مشاريع"، فضلاً عن فقدان الحركات الاحتجاجية تأثيرها في السياسات العامة بسبب "التذرر" والفردانية المفرطة، والتي صارت تميز عالم العمل، بالإضافة إلى ضعف النقابات العمالية التي تحولت، بحكم غلبة التنظيم البيروقراطي، إلى مجموعات مصالح تنازع من أجل البقاء، وفاقدة للقدرة على طرح مشاريع بديلة، والتي إن وُجدت، فلن تكون قادرة على تنفيذها بحكم تأكّل خطابها وتذرر قواعدها الاجتماعية.

إن انهيار فكرة المستقبل في العالم العربي عزز الأيديولوجيات الماضوية. وليس انخراط كثير من الشبان، معظمهم خريجو جامعات، في تنظيم "داعش"، إلا دليلاً على تهاوي "المنظومات التقليدية"، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو دينية. 

أزمة الطبقات الوسطى وأزمة المدن.. نحو إعادة بناء "عقد اجتماعي" 

 لا يمكن التفكير في أزمة الطبقات الوسطى العربية خارج أزمات المدن في العالم العربي، التي تعيش تمدداً عمرانياً غير متحكم فيه (القاهرة، تونس، بيروت، عمان... إلخ) من جانب الدولة. وهو تمدد يسير وفق نسقين متناقضين:

- الأبنية الحديثة ذات الواجهات البلورية التي تعبر عن بروز "نخب جديدة"، أغلبيتها نخب معولمة تشتغل في مجالات المعلوماتية والتصدير. وتبرز هذه المدن بمنزلة "غيتوات" للأثرياء الجدد والمستفيدين من ثمار النيوليبرالية. وتتبنى تلك النخب الجديدة أنماطاً ثقافية وطرائق عيش ليبرالية منفتحة،لكنها مع ذلك تبقى محافظة على خياراتها السياسية ولا تطرح مسألة الديمقراطية إلا وفقاً لملاءمتها لمصالحها، وهو ما بينته تجارب "الانتقال الديمقراطي"، التي تلت انتفاضات عام 2011. 

- في مقابل هذه المدن الليبرالية ومشاريع المدن الإدارية، تتمدد أحياء فقراء الطبقة الوسطى على هوامش المدن الكبرى. وهي أحياء مصمَّمة وفق طريقة خارجة عن الضوابط المعمارية، بحيث يضطر بعض ساكنيها إلى الاستيلاء على أراضي الدولة وحتى الأراضي الخاصة لتشييد مساكن كيفما اتفق. وفي الوقت ذاته، يتجه فقراء الطبقة الوسطى إلى السكن في تلك الأحياء، نظراً إلى التكاليف المنخفضة نسبياً، سواء في عملية استئجار الشقق أو شرائها.

أدت أزمة الطبقة الوسطى العربية إلى أزمة سكن محورية وأساسية، كثيراً ما يتم التغاضي عنها في الخطابات الإعلامية والسياسية، نظراً إلى خطورتها. فالسكن يتمثل في العالم العربي بصفته علامة نجاح وعلامة ترقٍّ اجتماعي، بينما فقدان المسكن يعادل ''الفشل" وفقدان الكرامة ويُعَدّ مصدراً دائماً للخوف من عدم الاستقرار. وهذا الأمر تحديداً جعل المدن العربية فضاءات للصراعات بصيغ متعددة، بحيث تنازع الطبقات الفقيرة والمعدمة وفقراء الطبقات الوسطى من أجل الاحتلال، بطرائق صامتة أحياناً، للفضاءات المدينية من أجل افتكاك حيز يمكنها من الاستمرار في العيش على غرار احتلال الأرصفة لعرض السلع المهربة أو بعض الفضاءات وتحويلها إلى مرائب غير قانونية للسيارات وغيرها من الممارسات "اللاقانونية"، التي تتوخاها الفئات المتضررة من الخيارات النيوليبرالية. وهي ممارسات تتعاطى معها الدولة وفق سياسة "عين رأت و عين لم ترَ"، من أجل خلق مساحات للتفاوض بينها وبين تلك الفئات التي ينظر إليها بصفتها "طبقات خطيرة" يجب العمل على مراقبتها بصورة دائمة ومستمرة عبر سياسة "أمننة الفضاء العام".

فالنيوليبرالية في العالم العربي، بقدر ما عززت اللامساواة بين الفئات الاجتماعية، فإنها دفعت إلى تطوير سياسات أمنية تقوم على "المراقبة والعقاب". أزمة الطبقات الوسطى اليوم تتم إدارتها بأدوات أمنية. وهي، في كل حال، تبدو أزمة مركبة وفي غاية التعقيد، وهي المحدد الأساسي لمستقبل مجتمعات المنطقة، سياسياً وقيمياً وثقافياً، وتدفع نحو تفكك مجتمعات مفككة أصلاً بحكم البنى القبلية والطائفية، التي لا تزال تهيكل التمثلات والتصورات الفردية. وبالتالي، فإن أزمة الطبقات الوسطى تمهد لإعادة تشكيل الدولة في العالم العربي، وتُعَدّ مدخلاً لتعميق النزاعات في المنطقة، ودفع الملايين إلى الهجرة غير الشرعية واللجوء، الأمر الذي يدعو إلى إعادة بناء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع، يقوم على مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية.  

المراجع 

- إيزابيل لوغنيتس، أزمة الطبقات المتوسطة في المشرق العربي، ترجمة بعث، الشركة العربية للكتاب، بيروت 2012 

- عبد الباقي الهرماسي، الدولة والمجتمع في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

- Bertrand Badie, L'Etat importé : l'occidentalisation de l'ordre politique, Fayard, Paris 1992. 

- Béatrice Hibou, La force de l’obéissance. Économie politique de la répression en Tunisie, Paris, La Découverte, 2006, 365 pages & Hibou(Béatrice), Anatomie politique de la domination, Paris, La Découverte, 2011,