الطيران: حلم مجنح وحرية تكبح في رواية "العاوون"

الطيران حلم راود الإنسان منذ وجد على سطح البسيطة وأمنية عميقة الغور في أعماق وعيه لطالما داعبت خياله منذ أقدم العصور.

  • الطيران: حلم مجنح وحرية تكبح في رواية
    الروائي السوري إسلام أبو شكير  مؤلف رواية "العاوون"

يقول ميرسيا إلياد: "رمزية الطيران في جميع مستويات الثقافة، وعلى الرغم من الفروق الكبيرة في السياقات الثقافية والدينية، إنما تعبّر بصورة دائمة عن تجاوز الشرط البشري، وعن التعالي والحرية". وفي هذا التجاوز صاغ إسلام أبو شكير شخصية بطله في روايته "العاوون" الصادرة عن دار ممدوح عدوان  للنشر والتوزيع لعام 2022، بصورة البطل المجنح المفارق للطبيعة البشرية باستهلاله لعتبات نصية بدأها بالعنوان "العاوون" بمفارقة أخرى تثير التساؤل باعتبار العواء طبيعة غير بشرية. ليأتي الغلاف الذي توزعت عليه علامات أشبه برياش أو أسهم بيضاء متجهة إلى الأسفل وحمراء قليلة متجهة إلى الأعلى، وكأنه يقول بأن التوجه إلى الأعلى إلى الحرية إلى السماء مخاطره مدماة مما يثير مزيدًا من أسئلة متصاعدة ومحيّرة عن مقاصد العمل.

الطيران حلم راود الإنسان منذ وجد على سطح البسيطة وأمنية عميقة الغور في أعماق وعيه لطالما داعبت خياله منذ أقدم العصور، وكان امتلاك الأجنحة والتحرر من قيد الجاذبية الأرضية ولا يزال حلمًا يراود الكائن البشري في اللاوعي الجمعي. وقد كانت الآلهة الطائرة انعكاساً لهذا الحلم جسّدتها الأسطورة في أكثر من نموذج، منها أسطورة ايكاروس الذي طار مع أبيه ديدالوس بأجنحة صنعت من الخشب والشمع وريش الطيور. ولكن الإبن أخذته نشوة التحليق واكتشاف أغوار السماء بالمضي عاليًا واقترابه من الشمس التي ذوّبت الشمع الذي يجمع أجنحته ليلاقي مصرعه بعد ذلك، وما رفرفة الأجنحة عند طائر الفينيق في أسطورته المعروفة إلا تحفيزاً لطاقة الكون الكامنة ألا وهي النار، حيث احتراقه تمهيدًا لبعثه من جديد.

وإن كان ايكاروس أسطورة، فعباس ابن فرناس حقيقة مثبتة عرف إبان حكم الأمويين في الأندلس بمدينة قرطبة إذ صنع لنفسه جناحين مقلدًا الطيور وطار بالفعل لمدة من الزمن بالقرب من قصر الرصافة في المدينة، وقيل عن سقوطه بأنه يتعلق ببعض الشروط التقنية في الجناحين اللذين قام بصناعتهما، إذ أهمل أهمية الذيل في الهبوط، وكذلك قام العالم اللغوي أبو العباس الجوهري بمحاولة أخرى للطيران والذي سقط ميتاً في نيسابور في خراسان من أعلى سطح منزله.

وعلى ظلال هذا الحلم ينسج إسلام أبو شكير روايته "العاوون" في حكاية الطفل الذي طار بذات اللحظة الذي تلقفته يد القابلة من رحم أمه بفانتازيا غرائبية، مثيرًا دهشة واستنكار من حوله للعواء الذي يصدره والذي استحال بكاء في آخر الأمر لناحية كون الحدث مخالفاً للطبيعة البشرية من الطيران إلى العواء، مما اضطر أهله بعدها إلى التفكير بعملية جراحية لاستئصال جناحيه ولكنهم انتهوا إلى إخفائهما فترة طويلة تحت قمصان ثقيلة مكتفين بقص ريشهما بين فترة وأخرى، وفق ما نصح به "أبو محارب" الشخصية التي طرحها الكاتب نموذجًا آخر لكائن مجنح في زمن ما استطاع أن يدل الأهل على أسلوب التعامل مع كائنهم الغريب.

الشاب الذي استطاع لوحده أن يرفرف ويطير وقد أسعدته وراقت له فكرة الطيران ولكنه خشي من متاهة الاتجاهات لديه، مما يعرضه لمشاكل الاصطدام، لنجده أمام أبي محارب وكأن الشبيه يستنجد بالشبيه لنطل بهذه المواجهة على مأساة هذا الأخير بأنه كان له جناح هو الآخر ذات يوم، ولكن تم قصه بفظاعة وعذاب يفوقا الوصف. وبقيت آثاره زوائد لحمية في الظهر أشبه بألسنة مقطوعة تقطر دمًا، كناية عن صراخ لم يطلق في آنه وزمنه في إشارة لزمن يعود إلى عام 1948. ولا يخفى على لبيب التوظيف ذو الرمزية العالية في هذا السياق، لجيل أجهضت حريته وأحلامه والإشارة كذلك لتلك الجهات التي كان لها دور في قص أجنحة المقاومة.

توزع السرد بين الراوي العليم وبين البوح الذاتي للبطل وقد اتبع الكاتب أسلوب تقطيع الزمان السردي في مراحل عدة من حياة الفتى الطائر فمرة نراه في طفولته ومرة وعمره ثلاثون ومرة في عمر السادسة عشر، في مشهدية لا تكتمل إلا في ذهن القارئ، عندما ينهي قراءة النص ليعيد تشكيله في ذهنه، من خلال لقاءات مفصلية بين الشاب المجنح  وأبو محارب في مراحل مختلفة. كان للرمز والفانتازيا مجال كبير في نسج غرائبية معاني النص واستكناه واقع قار في لاوعي إنسان المنطقة وتفكيك أسباب سلوكه وانكساراته.

  • الطيران: حلم مجنح وحرية تكبح في رواية
    غلاف رواية "العاوون"

يقول جان جاك روسو: يولد الإنسان حرًا, ولكنه في كل مكان يجر سلاسل الاستعباد" في تشابه بما يحدث اليوم من كم الأفواه والمنع عن الصراخ كي لا يكون لأحد أن يعبّر عن هول الكارثة.

يحاكي النص فكرة الفيلم الإيطالي  ( the man without gravity) "رجل بلا جاذبية" للمخرج ماركو بونفانتي من حيث الولادة الغرائبية لطفل لا يخضع للجاذبية الأرضية؛ طفل يطفو بالهواء وتستمر هذه الحالة كصفة لصيقة ومميّزة له. ولكن توظيف الفكرة والاشتغال على المعنى مختلف كليًا، كما سبق لأيمن مارديني أن وظّف فكرة طفل بأجنحة بحيز من روايته "خيوط الانطفاء". ولكن النص الذي بين أيدينا تناول فكرة الأجنحة وزوالها كتيمة تشمل العمل بكامله، الأجنحة كحلم وحرية وانعتاق وكوابح هذا الحلم  واشتغاله على الرمز بشكل جعل أسلوب السرد متعة بالغة قابلة للإسقاط على أكثر من مستوى.

 العواء هو الصرخة المخنوقة التي لم تطلق في وقتها ترجع سمًا إلى جسد صاحبها على شكل عواء؛ العواء هو صراخ أخرس إذ يقول أبو محارب: "كانت الصرخة قد ضلّت طريقها داخل جسدي إلى الأبد، كان الوقت قد تأخر فانغلقت عليها روحي ولم يعد بوسعها الخروج، ما خرج كان أنينًا رخوًا واهنًا لم يكاد يسمعه أحد، ما ميّز عوائي عن عوائك أنه كان ينضح دمًا". ولكن بقي ضوء بالعينين يزداد بريقه مع كل   ومضة أمل بالشاب المولود بجناحين الذي أتى إليه في آخر زيارة ليخبره أن جناحيه لم يقصهما أحد، ولكنهما اختفيا وذابا في إشارة من الكاتب إلى عملية تدجين الكائن في عالم القمامة المنتشر فيما حوله والحياة الفارغة من المعنى التي عاشها "سافر؛ وعمل؛ وتزوج؛ وطلق؛ وجمع مالًا؛ وأفلس؛ وتزوج ثانية؛ وأنجب"؛ وماذا بعد؟؟ نظرة خاطفة إلى طفولته ويغادر بعدها. "أين الأجنحة من كل هذا، الأجنحة التي تدخل العجوز أبو محارب ثلاث مرات لإنقاذها في حياته".

وهنا يثير أبو شكير مسألة في غاية من الأهمية مفككًا الضعف والهشاشة الداخليين للكائن البشري، كيف تزول الأجنحة من دون قص أو استئصال. إنه الخوف؛  الخوف الذي لا يرحم؛ الخوف الذي يلجم اللسان عن القول والفعل؛ الخوف الذي تأصل في النفوس وأحدث شللًا لدى الإنسان وأفقده شفعه بالطموح والحرية. لذا لا نعجب عندما نرى أفرادًا يتنازلون طوعًا عن الحرية من أجل أمان خادع، ولأننا نتربى على الخوف من كل شيء نداري على الحلم بالكذب والنكران حتى ننساه حقيقة. وهذا يقود إلى موت الأمل الباقي وقد عبّر عنها بانهيار العجوز وانطفاء لمعة عينيه وتحوله إلى رماد، الرماد الذي استحال كتلة من حديد واخز ليعود العواء هو الصوت المتبقي إيماءة  لصراخ لم ينطلق في وقته ودلالة على فعل موءود وأمل مفقود.

ولا غرابة إن كانت عتبته النصية في العنوان هي "العاوون" لأنهم كثيرون أولئك الذين حبسوا صرخاتهم ولم يطلقوها، فأنين الصوت المقموع الذي لم يسمح له بالخروج من البدن انعكس ضجيجًا داخليًا وصوتًا ممسوخًا، إن خرج يكون أشبه بالعواء، العواء الذي كان أول صوت صدر عن الطفل بداية طيرانه، وكأنها سلالة تتناسل من بعضها تحمل صوت الصرخة المخنوقة لتنفث سمًا مقيمًا في الجسد لا تزول آثاره كوصمة سوداء تتناقلها الأجيال على مر الزمن.