الغزّاوي الأخير

تساءل صطيف. تساءل وتساءل حتى أعيته علامات الذهول. بكى. كان قلبه العضو الوحيد الذي أراحته حرارة الدمع. قالها في نفسه. هنيئاً لمن رحلوا معاً. جميعاً. بلا فقد.. بلا ألم.. بلا اشتياق.

أخبروه بأن الذنب ذنب جده. ادّعوا أنّه فرط في الأرض بثمن بخس. باعها بكل ما فيها من شجر الزيتون وبساتين النخيل. ربما يشفع له فقره الذي لم يدعه يرفع رأسه يوماً، في وجه زوجته وأبنائه. يقول في نفسه "صطيف" العشريني، الذي لا تعينه معرفته وثقافته بعد على استشفاف الحقيقة. لا أحد كان يعرف ما الذي تخبئه الأيام. لا أحد يإمكانه أن يلوم الخائف. يتمادى في التفكير، بصعوبة. فالخوف يشوّش كل شيء؛ الفكر، الوعي. حتى أنه يشلّ الإرادة. يقول "لعله اضطر إلى البيع".

لكن جده لم يكن السبب في هذا. مرت من هنا احتلالات عديدة. هنا عبر التاريخ وسجل انتصارات وهزائم وملاحم ارتبطت بذاك العهد البائس. هنا قدّمت الأرض لكيان ملعون نبذه العالم، فأتى يضرم في الأجداد محرقة لا تنتهي، تشفّياً. محرقة كلما خبا لهيبها، ألقوا فيها المزيد من أصحاب الأرض، علّ الأرض تنسى صاحبها. وكلما تذكّرت أسماءهم، أحرقوا المزيد من الأجداد. وكلما مات نسل، خرجت من الأرض شجرة زيتون عامرة. كأنما هو عذاب لامتناهٍ حكمت به آلهة الكيان الملعون على شعب، لأنه خلق فلسطينياً.

يتبادر لصطيف أنه عذاب أبدي، يذكّره بأسطورة سيزيف. لكنه أزلي وأبدي بالنسبة لصطيف. فهو أبصر النور في هذا النفق المظلم. ومشى أولى خطواته بحثاً عن الحجارة يجمعها في كوفيته التي يصنع منها رزمةً لا تفارقه. لقد خاطت له أمه جيوباً في كل ملابسه. حتى في تلك التي ليس فيها جيب. حتى أحذيته، طالما كانت أكبر من مقاسه بكثير. لكن الحجارة والحصى كانت تزعج قدميه. كان يعود أحياناً مدمى القدمين. أحياناً كان يعود ثقيلاً. يحمل ضعف وزنه. لكن الضحكة لم تفارق ملامحه الشقية. للحظة يحس صطيف بعذاب سيزيف الإغريقي. يبتسم. أي تشابه هذا.. بالأسماء والأثقال! لكن صطيف لا يستحق ما استحقه سيزيف المخادع. يتوه في دوامة التفكير بالعدالة. مفهوم لم يتحقق يوماً هنا، منذ خيّم شبح بني صهيون فوق هذه الرقعة الجغرافية.

تتداخل الجغرافيا والسياسة والتاريخ في شبكة أفكاره المعقدة. ليس في وضعية جيدة للتحليل والتفكيك. أسماء متفرقة ومفردات تبعث فيه خليطاً من مشاعر الغضب والاضطهاد. يروح هرتزل ويجيء أمام ناظري صطيف الذي لم يعرف أقرانه في العالم بعد، كيف يحفظون درس التاريخ. بن غوريون. سايكس بيكو. بلفور. الوعد والوعيد. فرساي المشؤومة. النازية. المحرقة. الانتقام. الإبادة.

يفكّر صطيف في هذه الحلقة. الدوامة التي لم يخرج منها أصحاب الأرض بعد. يفكّر في الخلاص. في سرديات زوال هؤلاء القوم. يتساءل كيف يرضى إنسان العيش فوق أجساد المضطهدين. كيف يعيش بلا هوية؟ بلا دين؟ مستوطناً لا مواطناً!

يحاول صطيف مواصلة التفكير. لا يرغب في النوم. أو يجب أن لا ينام. المكان مظلم. المدينة في الخارج مستوطنة أشباح. أشباح الموت الأسود الذي لم يفارق هذه الحواري والأزقة منذ بداية الحرب. تجول الأرواح في كل مكان. أرواحهم النقية. ما زال يسمع أصوات الشهداء الصغار. يسمع صراخ الشهيدات، اللواتي حاولن الفرار كثيراً من براثن الموت، بين ركام حاراتهن. كان ذلك قبل أن يدركن جمال اللحظة. لحظة الارتقاء.

يحاول صطيف أن يتصوّرها. أن يستحضر اللحظة. لعلها قدره المحتوم. يحاول التقاط أنفاس من هواء المدينة الممزوج بالبارود والمسك. يشعر بالقبول. بالاستسلام لتلك الإرادة. التدبير الإلهي الذي شاء أن يرى صطيف ما لم يره أقرانه في العالم، إلا هنا. 

يحاول أن يحرّك أطرافه. لكن اللوحة التي كان يعلقها فوق سريره، ويتأملها ليل نهار لجمالها، اخترقت ضلعه الأيمن. "حبّ قاتولي"، يقول. يعجز عن الحراك. يحاول إخراج إحدى يديه من المسافة التي تفصل أرجل الطاولة القصيرة التي كانت تجمع الأسرة على الغداء. كانوا يجلسون على الأرض حولها، بانتظار الرغيف من يدي "أم صطيف". يحاول. لا يفلح. القصف في الخارج لا يتوقف. حين كان صغيراً، كان صطيف يظن بأنه بعد الدمار، ثمة هدوء. وبعد كل حرب، هناك هدنة. تقول له أمه دائماً ذلك. "إن مع العسر يسرا". لكنه لا يعرف أين هي الآن. تحت أي عمود أو مبنى. يعود سيزيف إلى مخيلته. كان عذابه شبيهاً. مأساة متواصلة. موت يتلاعب بمشاعر الضحية، قبل أن يخطف روحه. ربما لن يخطفها. لعل المسعفين يصلون بعد قليل. يحاول صطيف أن يحرك جفنيه قليلاً للتخلّص من التراب الذي دخل عينيه. يبصق التراب من فمه. يبكي.

الشهداء الصغار، لماذا خلقهم الله؟ الأم التي كانت تعد أشهى الأطعمة، وقطعت النيران يديها بينما هي تنظر إليهما، قبل أن تستشهد. هل حزن الله لأجلها؟ تلك التي راحت تبحث بين الأشلاء عن يدي صغيرها، وجدائل صغيرتها. هل ثمة من يهدّئ روعها؟ ذاك الذي فقدهم معاً. كل صغاره وأحبته وزوجته. لماذا بقي حياً؟

تساءل صطيف. تساءل وتساءل حتى أعيته علامات الذهول. بكى. كان قلبه العضو الوحيد الذي أراحته حرارة الدمع. قالها في نفسه. هنيئاً لمن رحلوا معاً. جميعاً. بلا فقد.. بلا ألم.. بلا اشتياق.

وميض مرتعش، تسلل إلى عيني صطيف. بعد برهة، كان صطيف يحاول الوقوف على قدميه الداميتين، والمسعفون يضمدون جراحه النازفة. وقف مبتسماً بينهم. أسرته التي كانت بخير. 

صطيف تحت الركام، ظن نفسه الغزاوي الأخير الذي سيبقى في حارته، في حال أسعفوه. فلقد عايش الموت وعاشه طوال ليال. شعر بأنه الأخير، لكن إرادةً صلبةً في الصمود، جعلته يشعر بأنه سيؤلف أسرة كبيرة إذا خرج غداً. غداً سيبني مدينته من جديد. وسينجب أولاداً كثيرين، تصنع لهم أمهم جيوباً كثيرة. سيحتفظ بجزمته لهم. وسيعلّمهم أن لا يعلّقوا لوحات ثقيلة فوق أسرتهم. في الليالي، سيقرأ لهم دروس التاريخ. وسيكون تاريخ الانتصارات والمجد والعودة.

من يعيش ظلمة الموت وسكراته، لا يصدّق أن هناك أحياء في الخارج. لا يصدّق أسطورة الخلاص. لقد صدّق صطيف.. أنه الغزاوي الأخير. لكنه لم يكن.

لكنه لن يكون. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.