"الفطر" في ذاكرة أدباء ومبدعين: يوم كان العيد سعيداً

سمّى العرب العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح متجدّد.. ما الذي يتذكره أدباء عرب عن طفولتهم المرتبطة بيوم العيد؟

"الذكريات صدى السنين الحاكي" يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته "يا جارة الوادي". وصوت الذكريات يغدو أكثر رقةً وعذوبةً حين يجري على ألسنة كتّاب وأدباء احترفوا تخليد اللحظات العادية بأسلوبهم المميّز، فكيف إذا كانت اللحظة استثنائية ومرتبطة بواحد من أهمّ الأعياد الدينيَّة وأكثرها سعادةً وبهجة ورسوخاً في ذاكرة الأطفال: عيد الفطر السعيد؟ 

وإذ سمّى العرب العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح متجدّد. فإنَّ بهجة العيد اليوم تكاد تكون مقتصرةً على الأطفال، ولا يعرفها الكبار إلا كظلال باهتة لذكرى قديمة كانوا فيها أطفالاً بدورهم، خصوصاً في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها الوطن العربي بكافة أقطاره، حتى يكاد لا يتبقى من "العيد السعيد" سوى "الفطر" بعد 30 يوماً من الصيام والعبادة، وإن كان الفرح باليوم المبارك مطلوباً وواجباً في شتى الأحوال.

نستعرض هنا شهادات لعدد من الكتّاب العرب تحدَّثوا لـ "الميادين الثقافية" عمَّا تحفظه قلوبهم وعقولهم من ذكريات طفوليَّة مرتبطة بيوم العيد.

محمد الكامل بن زيد: صور متوارية بين شقوق منزل العائلة القديم

  • محمد الكامل بن زيد
    محمد الكامل بن زيد

الروائي والقاصّ والكاتب المسرحي الجزائري محمد الكامل بن زيد يخبرنا أنَّ سؤالنا جيَّش مشاعره فانتفضت تفتش في انشراح، مداعبةً خيال الطفل الحالم الذي لا زال يسكنه، ومعيدة إيَّاه إلى زمن موغل في النسيان.

يعود صاحب "قصر الحيران" برفقتنا أكثر من 40 عاماً إلى الوراء، فيغوص داخل دواليب صندوق ذكريات طفولته ليدقّق ملياً في الصور المتوارية بين شقوق منزل العائلة القديم، صور الوالدَين العطوفين والأشقاء وبقية العائلة محتفلة بعيد الفطر "السعيد". يراه لقباً مستحقاً لهذا العيد، كيف لا ومجرَّد استعادة الذكرى تزيدنا أملاً في الحياة وإبحاراً في عوالم لا نهاية لها؟

نجاح إبراهيم: هل تعرفون "الحجّ محمد"؟

  • نجاح ابراهيم
    نجاح ابراهيم

الروائيَّة والقاصَّة السوريَّة نجاح ابراهيم تتذكر بدورها سعادة الأطفال البريئة في ليلة عيد الفطر التي لا نوم فيها، حيث يمنعهم الفرح الكبير من إغماض أعينهم. يضعون ملابسهم قربهم بعد أن يقيسوها مراراً، يحتضنون النقود التي أعطيت لهم، وعند سماع تكبيرات العيد يلبسون الثياب، يقبّلون أيدي الأب والأم ويتفقّدون الأصدقاء قبل الانطلاق سوياً إلى السَّاحة التي نُصِبَت فيها المراجيح.

تتذكر صاحبة "عطش الإسفيدار" هتاف: "ياحجّ محمد يويو، أعطيني حصانك يويو، لأشدّ وأركب يويو".. لا تعرف نجاح إلى اليوم من هو "الحجّ محمد"، لكنها تعرف كمّ الحماس والفرح الذي كانت تبثه هذه الأنشودة يومها في قلوب الأطفال، الذين يعودون بعدئذ إلى زيارة الأقارب مع أهلهم، ويفرحون حين يأخذون "العيديّة" مفكّرين ماذا سيشترون بها.

ياسين بن عبيد: فراغ يصعب ملؤه!

  • ياسين بن عبيد
    ياسين بن عبيد

أما الشاعر والناقد والمترجم الجزائري ياسين بن عبيد فيستذكر عيد طفولته الذي كان عيدان، يأتي الأوَّل سريعاً وسريعاً يمرّ، فصخب الأجواء العامَّة كانت لاهية بالقدر الذي يكفي إلى تحويلهم إلى أمَّة من الفراش لا شيء يربطها بدنيا البشر، فإذا انقضى العيد ترك فراغاً يصعب ملؤه، وترك حنيناً لا تقاومه طفولته المحبوسة بين جدران الحرمان العاطفي. وأمَّا الثاني فيستعيده الآن بما فيه من إحساس بمرارة الوحدة الناتجة من وحشة الوالد الذي لم يعش معه طفولته، فقد أخذ البعد عنه أهمّ ما في شخص الإبن من أسباب التوازن، وأسلمه إلى عطش عاطفي لم ينطفئ أبداً.

"كان العيد بهيّاً، لكنّي لم أعشه كثيراً كما يحبّ الأطفال أن يعيشوه"، يقول لنا صاحب "حدائق المعنى" في الختام.

لطيفة الحاج قديح: فستان المخمل

  • لطيفة الحاج قديح
    لطيفة الحاج قديح

الروائيَّة اللبنانيَّة لطيفة الحاج قديح يستيقظ فيها الحنين إلى الماضي كلما هلَّ هلال عيد الفطر، فتندلق عليها الذكريات غزيرةً كبواكير المطر بعد صلاة الاستسقاء. "وما أجملها من ذكريات إن قورنت بالسنين العجاف التي نعيشها اليوم تحت عباءة الفاسدين". تقول لنا صاحبة "صخرة الروشة" قبل أن تشرع بالتذكّر:

كانت الكاتبة في التاسعة من عمرها نحيلة العود، خفيفة الوزن، ومع ذلك فقد كانت تصرّ على الصيام محبّة بالخالق العظيم الذي يقول "الصيام لي وأنا أجزي به"، ولطالما زاغ بصرها وانهدّ حيلها في أعصر أيام الصيف اللهاب من شدّة الجوع والعطش.

وقد أراد والدها مكافأتها مرةً، فاشترى لها قماشاً من المخمل الكرزي اللون الحريري الجميل، وانكبّت والدتها على خياطته بيديها الماهرتين. وكانت فرحتها لا توصف وهي تراها تدخل بالإبرة والخيط حبّات اللؤلؤ والخرز اللمّاع لتزيّن بها الفستان.

وطالما سألتها: "متى ينتهي العمل به؟"، فتجيبها الأم: إن أردتِ أن تلبسيه يوم العيد، عليكِ القيام عني بأعمال البيت كي أتفرَّغ له!

وهكذا كانت تستيقظ يومياً وقت السحور، وبخفة الفراشة ومثابرة النحلة، تنقضّ على أعمال البيت بعد صلاة الفجر مباشرة، ثم ترابط قرب والدتها ملبّية جميع أوامرها كي يتسنى لها تعليق ثوبها الجديد في خزانتها عشية يوم العيد.

وما إن تصدح مكبّرات الصوت بـ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. حتى تكون قد أنهت ما طلبته منها والدتها، التي لا تلبث أن تناولها الفستان التحفة وتساعدها على ارتدائه، معلّقة على كتفيها محفظة صغيرة مزيَّنة بنفس زينة الثوب، فتنكبّ على يدها تقبّلها معايدة والفرحة تغمرها ولا تجد مطرحاً كافياً لها من شدة سعتِها.. وبعد أن تكمل زينتها، وتستشير مرآتها أكثر من مرة، تسارع إلى معايدة من حولها وسرعان ما تنهال عليها المعايدات السخية من الليرات الورقية والعملة المعدنية، فيمتلىء "جزدانها" ويصير بإمكانها مرافقة أترابها إلى "حرش العيد" كي يمضوا هناك أجمل وأمتع الأوقات.

ولا يلبث "أبو محمد الجزّار" أن يأتي لينجز عمله الذي اتفق مع الوالد على القيام به منذ اليوم السابق، فيهرع إلى الخروف المربوط في زاوية الحديقة، ليسوقه إلى مكان معدّ مسبقاً، ويقوم  بنحره على سنة الله ورسوله، ثم يعلّقه على غصن قوي من أغصان شجرة التوت العملاقة التي تتوسط حديقة المنزل، ويروح يعمل فيه سلخاً وتقطيعاً. وما هي إلا ساعة حتى تكون الوالدة والأخوات الكبيرات قد أعددنَ في الحديقة طاولة الإفطار التي لا تلبث أن تستدعي إليها البطون الجائعة من أفراد العائلة الكبيرة التي تتحلّق حولها فرحة بهذا اليوم المبارك.

جعفر يعقوب: مشهد لا يتكرَّر، ومن فنتازيّته ننسج كتاباتنا

  • جعفر يعقوب
    جعفر يعقوب

أما الكاتب البحراني جعفر يعقوب فتعود به ذاكرة العيد إلى سبعينيات القرن الماضي في البحرين حيث: الحياة الاقتصاديَّة في بداية طفرتها بعد اكتشاف النفط. قرية صغيرة تبتعد عن المنامة 5 كيلومترات تقريباً. العيد يشكل رحلة تبدأ قبل يومه، يأخذه الأب مع إخوته في سيارة نقل مشترك، حينها كانت السيارات قليلة جدّاً في القرية. في هذه الجولة يشترون الحلوى والأكلات الشعبيَّة من المنامة.

استهلال العيد محطة ثانية، فأهالي القرية يقفون على مشارفها لرصد الهلال، وهذا المشهد لا يتكرَّر على مدى العام، فالجميع يبحثون عن حلم واحد.

صلاة العيد في منطقة مكشوفة، اقتداءً بسنَّة النبي، لوحة اجتماعيّة أخرى توشج روابط المحبة في القرية، ثمَّ يلتقي الأهالي في المجالس التي شرَّعت أبوابها لتبادل التهاني والتبريكات، وتكون للعيد أطعمته الخاصَّة، مثل الخبيص والفتيت والمتاي وغيرها، والتي تُعدّ خصيصاً في البيوت لهذه المناسبة.

وصور الطفولة في يوم العيد مسرح يسكن مخيَّلة صاحب "حارس زهرة الأوركيدا"، ومن فنتازيّتها ينسج الكثير من كتاباته السرديَّة والشعريَّة. كان مع أصدقائه مثل فراشات، يتنقلون بين مجالس القرية؛ ليحصلوا على العيديّة من الكبار، وهذا مصدر فرحتهم، ثمَّ يذهبون للباعة لشراء الحلويات والألعاب.

تنتعش صور هذه الذكريات كلما توغَّل بها الزمن، لكن برغم المتغيّرات السريعة ما زالت بعض هذه العادات والتقاليد موجودة، وإن فقد البحرانيّون الكثير مما يلوّن الحياة بهذا الطيف الواهج الذي يعيشون على ذكرياته الجميلة.

قاسم توفيق: محاولة للتخيّل، ورائحة تشبه الفرح!

  • قاسم توفيق
    قاسم توفيق

الروائي والقاصّ الأردني قاسم توفيق يرى أنَّ القيمة الأعظم للعيد في طفولتنا، كانت تكمن في تأجيج خيالاتنا الخاوية الجافة آنذاك، وجعلنا نتذوَّق ونشتمّ رائحةً تشبه الفرح. فحزن طفولتنا الأزلي من الفقر والجوع، ومن أحوال أمَّهاتنا اللواتي يصارعن من أجل أن يوفرن ما يسدّ جوعنا ويستر عوراتنا، ووجعنا الذي لا ينقطع من الهزائم التي تتوالى على بلادنا، كان يغمر حياتنا بالسواد والحزن، وفي العيد، كانت تنحى كل هذه المصائب، أو كنا ننحّيها قليلاً، بعيداً منّا لنحلم.

"لا زلت إلى اليوم، أرى العيد محاولة للتخيّل والحلم بأن يأتي علينا زمان، يكون أجمل"، يختم صاحب "نزف الطائر الصغير".