الفن الفلسطيني: أي معنى في زمن المجازر؟
قد يبدو الفن بلا جدوى. أحياناً يشعر الفنان أنّ ما يقدّمه ليس أكثر من محاولة لتسكين الضمير، أو أنه ترف لا يليق أمام حجم المأساة. هنا يظهر مأزق آخر: حتى عدم الفعل هو فعل. الصمت ليس حياداً، بل خيار قد يكون خاطئاً أيضاً.
-
أحمد أبو عمشة من "معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى" يلقي درساً موسيقياً في مدينة غزة، 5 آب/أغسطس 2025 (رويترز)
كيف يمكن لفنان أن يغنّي أو يمثّل أو يرسم، فيما أبناء شعبه يبادون أمام عينيه؟ كيف يمكن له أن يبدع في ظل واقع يفرض عليه رقابة، ويصادر مسارحه وموارده، ويتركه في عزلة خانقة؟ هذه ليست أسئلة نظرية، بل هي يوميات يعيشها الفنانون الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة منذ عقود، وقد تضاعفت بعد 7 أكتوبر، حين باتت الحرب على غزة عنواناً دائماً للزمن الراهن.
مأزق الحرية تحت الاحتلال
منذ اللحظة الأولى التي يقرّر فيها الفلسطيني أن يكون فناناً، يعرف أنّ الطريق محفوفة بالقيود. الموارد شبه معدومة، المسارح قليلة، والرقابة سيفٌ مسلط. النصوص تُفتّش، العروض تُهدَّد بالمنع، والمعارض تُخضع للمساءلة. يصبح الفن هنا ساحة اختبار للإرادة أكثر من كونه مساحة حرة. الفنان لا يختار فقط نصاً أو لحناً، بل يختار شكل المواجهة: هل يقبل أن يُخضع عمله للتخفيف والمواربة، أم يصرّ على الحرية ويدفع الثمن؟
هذه المعضلة تتركه أمام 3 خيارات: الرحيل بحثاً عن فضاء آخر، البقاء مع التنازل عن الفن كلّياً، أو الاستمرار بفنٍّ منقوص، مراقَب، لا يشبه ما حلم به.
لقد جعلت حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة في غزة هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً. فالفنان الفلسطيني اليوم لا يقف فقط أمام مقص الرقيب، بل أمام سؤال أخلاقي مزلزل: أي معنى للفن في زمن المجازر؟ هل من المقبول أن نغني بينما صور الأطفال تحت الركام تملأ الشاشات؟ هل من الممكن أن نمثّل مسرحية، حتى لو كانت سياسية، فيما كل كلمة تقاس بميزان الخوف والذنب؟
كثيرون منا وجدوا أنفسهم عاجزين. البعض توقّف تماماً، والبعض الآخر حاول أن يواصل لكنه اصطدم بأن ما يُنتجه لا يرقى إلى مستوى اللحظة.
حينما يفقد الفن معناه ويتحوّل لديكور
كممثّلة وصحافية، عشت هذا المأزق مباشرة. دُعيت مؤخراً للمشاركة في عمل مسرحي. في البداية شعرت بالحماسة، فالمسرح بالنسبة لي ليس مجرّد مهنة، بل مساحة وجود. لكن شيئاً فشيئاً أدركت أنّ النص يتهرّب من الواقع، يكتفي بالتلميح الخائف بدل المواجهة. عندها انسحبت. لم أستطع أن أشارك في عمل لا يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها في زمن يحتاج إلى الوضوح لا المواربة.
انسحابي لم يكن رفضاً للفن، بقدر ما كان محاولة لحماية معناه. شعرت أنّ الفن الذي يخاف قول الحقيقة يفقد روحه ويصبح مجرّد ديكور.
مأزق الرحيل
قد يبدو الرحيل خياراً، لكنه بالنسبة للفنان الفلسطيني في الداخل خيار منقوص أيضاً. فالهويّة الزرقاء وجواز السفر الإسرائيلي يضعاننا في خانة "الممنوعات" في معظم الفضاء العربي. نحن أبناء هذا العالم العربي ثقافياً ولغوياً، لكننا ممنوعون من الوصول إليه. وحتى لو وجدنا منفذاً إلى بلد بعيد، فهو غالباً فضاء لا يشبهنا، يفرض علينا لغة ليست لغتنا، ويضعنا في عزلة جديدة. هكذا يصبح خيار الرحيل، الذي يفترض أن يكون هروباً نحو الحرية، مقيّداً ومشروطاً هو الآخر.
الفنّ زمن الحروب: مقاومة أم عجز؟
أتساءل وأتوق إلى إجابةٍ: هل الفن في زمن الحروب فعل مقاومة، أم أنه يبدو عبثياً أمام الدماء؟ بلا شك، الفن قادر على توثيق اللحظة ويعطي صوتاً للمعاناة. أن يحفظ ذاكرة الناس ويكسر احتكار الرواية. أغنية واحدة قد تصبح نشيداً للكرامة، ولوحة واحدة قد تخلّد وجه طفل قبل أن يُمحى من الوجود.
لكن في المقابل، قد يبدو الفن بلا جدوى. أحياناً يشعر الفنان أنّ ما يقدّمه ليس أكثر من محاولة لتسكين الضمير، أو أنه ترف لا يليق أمام حجم المأساة. هنا يظهر مأزق آخر: حتى عدم الفعل هو فعل. الصمت ليس حياداً، بل خيار قد يكون خاطئاً أيضاً.
أكتب هذه الكلمات معترفة أنني لا أملك جواباً. لا أعرف ما هو الصواب: أن أستمر في الإبداع وأخاطر بأن يبدو عملي غير كافٍ أمام الفاجعة، أم أتوقّف وأصمت فأخون رسالتي كفنانة؟ المعضلة أنّ كلّ خيار يبدو ناقصاً.
ربما تكمن الحقيقة في أنّ على الفنان أن يدرك مكانه منذ البداية: أن يعرف أنه يعمل في فضاء مقيّد، وأنه سيظل عاجزاً أمام جدار الاحتلال، محاصراً بجواز سفر لا يفتح له أبواب العرب، ومهدّداً بالرقابة أو المنفى الداخلي. الفن في حالتنا ليس رفاهية، بل سؤال وجودي، يتأرجح بين الحرية والمستحيل.
الفنان الفلسطيني اليوم يقف بين نقيضين: واجب قول الحقيقة، وخوف أن يفقد فنّه جدواه أو يُصادَر. بين الصمت كخيار، والإبداع كخطر، كيف يمكن للفن أن يحيا تحت الاحتلال وفي زمن الإبادة؟
لا أملك إجابة، وربما لا أحد يملكها. لكنني أعرف أنّ الانسحاب موقف، كما أنّ الاستمرار موقف، وأنّ الحيرة نفسها قد تكون أصدق تعبير عن واقع الفنان الفلسطيني اليوم.