القضية الفلسطينية تَطوف حَوْل العالَم

يَكْتَسي موضوع الكتاب "غَزّة تَطوف حَوْل العالَم" أهمية استثنائية، ذلك بأنّ عملية "طوفان الأقصى" شكّلت تحوّلاً نوعياً في مسار الصراع على أرض فلسطين.

  • غَزّة تَطوف حَوْل العالَم
    غَزّة تَطوف حَوْل العالَم

على الرّغم من أنّ الوقت ما زال مُبْكراً للدراسة والتحليل لكلّ الأبعاد والتداعيات العميقة لعملية "طوفان الأقصى" التاريخية والحرب الإسرائيليّة التدميرية التي أعْقَبتها، فإن هذا الكتاب، الذي صدر أخيراً، تميّز بمحاولة أوليّة جريئة لتَبْيان أهم تلك الأبعاد والتداعيات، والتي ربما ستَرْسم مصير دول المنطقة وشعوبها لعقودٍ مقبلة.

يَكْتَسي موضوع الكتاب ("غَزّة تَطوف حَوْل العالَم" أهمية استثنائية، ذلك بأنّ عملية "طوفان الأقصى" شكّلت تحوّلاً نوعياً في مسار الصراع على أرض فلسطين، ونظراً إلى ما حملته من معانٍ ودلالات مُتَميّزة في النضال الفلسطيني، وما تَرَكَتْه من تأثيرات عميقة داخل الكيان الإسرائيلي، ومن تداعيات بارزة عالمياً وإقليمياً وعربياً.

أعادت تلك العملية القضية الفلسطينية إلى العالَم، بحيث أحْضَرَتها فيه بزخم سياسي وشعبي غير مسبوق، بعد أن كاد تغييبها يمتدّ طويلاً قبل العملية، من خلال تواطؤ مشترك بين الغرب السياسي والنظام العربي الرسمي.

وهنا يُفرِّق المؤلّف بين مواقف نماذج ثلاثة من المثقّفين بشأن "طوفان الأقصى"، وما قامت به حركة حماس، وتحديداً في السابع من أكتوبر الماضي. فبينما يتّخِذ النموذجان الأوّلان موقفاً غير مؤيّد لعملية الطوفان، بسبب ما تسبّبت به - في نظرهما - من مجازر وتدمير شامل في غزّة، يؤيّد النموذج الثالث "طوفان الأقصى" من مُنْطَلق التزامه القضايا الوطنية الكبرى، بحيث يَرى أن من حقّ حركات المقاومة أن تُناضل من أجل تلبية مطالب شعبها في إنجاز تحرّره الوطني.

ومن موقع الرؤية النظرية الملتزمة، توزّع متن الكتاب على ثلاثة نصوص نظريّة - سياسية، عرضها المؤلّف بالتّتابع، بحسب تواريخ تأليفه لها. وعلى الرغم من أنها تتباين فيما بينها على نحوٍ ما، إذ إنّ لكل منها سياقه التحليلي الخاص وبناؤه الاستخلاصي وأُفُق استشرافه، لكنّها في الوقت نفسه تترابط بشأن موضوع "طوفان الأقصى" في نظرتها الإجمالية إليه، وما تحمله سياقاتها التحليلية من أبعاد نظريّة وسياسيّة، تُحيل، ضمْناً أو صراحة، على دعم القضية الفلسطينية، كما هي الحال في نظرها الاستشرافي إلى شكل موصوف لحلّ الصراع الفلسطيني ضدّ الكيان الإسرائيلي.

ويرى المؤلّف أنّ النّظر في العدوان على غزّة، الذي اتّخذ "سَبَباً" له عملية طوفان الأقصى، من الباب الإنساني، يُبَيّن بلا شك الطبيعة الحقّة لكلّ من "إسرائيل" وشركائها الغربيين في هذا العدوان، أي الأصليّة والأصيلة في السيطرة على الآخر غير الغربي، وفي اصطناع عدو دائم، من أجل إخضاعه ونهبه وإقصائه مادياً إذا اقتضت المصلحة...

لكن، كي تكتمل الصورة الشاملة للطبيعة الأصليّة تلك، يُفْتَرض بالنّظر نفسه أن يَحْفُرَ على جَذْرها السوسيو - معرفي كي يقف على شروط انْبنائها التاريخي، وعلى عناصر تَكْوينها التي حملت في تشكّلها أكثر من وجه، في الفكر وفي السياسة، وما ينطويان عليه من تناقضات بُنْيَوية لا فِكاك من أَسْرها إلّا مع طبيعة أخرى.

وهكذا، حمل النصّ الأوّل عنوان: الغرب أمات الله، غزّة أحْيَتْه. وتناول عرضاً سوسيو - معرفياً مُقْتضباً عن التحوّلات التي جرت في أوروبا في عصر النهضة، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثمّ في القرنين اللاحقين، عصر الأنوار وعصر الحداثة. وممّا أظهره العرض هنا، الدّفق المعرفي الفكري والفلسفي والعلمي، الذي تلازم مع تحوّلات مُجْتمعية بُنْيوية انتقلت بأوروبا من الإقطاعية إلى الرأسمالية؛ وهو ما دفع أوروبا إلى أن تخرج في جَوَلانٍ دائم، إلى العالم غير الأوروبي، من أجل إخضاعه والسيطرة عليه لنَهْب موارده وخيراته. لذا ترسّخت لديها ديناميّة استعماريّة عُنْفيّة، سرعان ما قَوْلبت مقولات التنوير والحداثة في معادلة مؤدلجة هي: العقلانية العُنْفيّة والعُنْف العقلاني؛ الأمر الذي جعلها تتابع بهذه المعادلة جولانها الاستعماري العُنْفي في البلدان العربية طوال ما ينوف عن قرن ونصف قرن، حيث تجسّد، في محطّة منه، في عصف زلزالي تاريخي هو إنشاء الكيان الصهيوني عام 1948، الذي تولّى الغرب السياسي بقيادة أميركا مذّاك رعايته ولما يزل.

لكن مقابل هذا العصف، نشأ مسار صراعي مديد، دخلت فيه المقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان بكلّ ثبات نضالي وصلابة وطنية، ثمّ ما فتئت هذه الصلابة، بعد أكثر من نصف قرن، أن فاجأت العالم بعملية "طوفان الأقصى" التي قادتها حركة حماس في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، صانعة منها عصفاً زلزالياً مضاداً ضرب في جَذْر تاريخ ذاك الذي صنعته الديناميّة الاستعماريّة الغربيّة في العالم العربي.

هذا العصف الزلزالي المقاوم كشف حقائق كانت مَخْفيّة لدى الكيان الإسرائيلي، كما فضح حقيقة الوجه الذي يتخفّى به الغرب السياسي. وأَثْبَت في المقابل حقيقة قاطعة، وهي أنّ القضية الفلسطينية سوف تبقى حيّة على الدوام.

جاء النصّ الثاني بعنوان: التاريخ بين الصراع المرحلي ومآله النهائي. واستند إلى نظرة استشرافية تَلَمّس في ضوئها إرْهاصات التغيير بعد انتهاء العدوان الصهيو - غربي على غزّة، لدى أربعة تيّارات فكرية هي: التيّار الليبرالي - التيّار الإسلامي المُقاوِم - التيّار القومي العربي - التيّار اليساري، والماركسي منه تحديداً.

وممّا تَلَمّسه (المؤلّف) من إرْهاصات، أنّ المشروعية النظرية لدى الفكر الليبرالي الغربي، كما صدقيّته المعرفية، اهْتَزّتا ليس فقط في الخارج غير الغربي، بل ربما أيضاً في الداخل الغربي بالذات.

كما أنّ نظرة الفكر الإسلامي المقاوم قد تتخلّى عن قوامها الأيديولوجي لتذهب إلى نظرة تاريخيّة ديناميّة أو جدليّة تُحَدّد طبيعة العلاقة بين المرحلي في التاريخ والمسار التاريخي العام، أو بين الصراع المرحلي والمآل النهائي للصراع، ابتغاء عَقْلَنة شكل الحلّ الذي يلائم طبيعة تلك الجدليّة.

كذلك، قد يجد الفكر القومي العربي نفسه مدفوعاً إلى إعادة النظر في منظومته الفكرية في الوحدة والقومية والعروبة، من منطلق الاتّساق مع متغيّرات الواقع العربي، أقلّه في العقود الثلاثة الأخيرة، كما مع متغيّرات الواقع العالمي المعاصر في آن.

وفي الباب نفسه، قد لا يُصيب اليسار الليبرالي أيّ إرهاص تغييري جدّي، إذ إنّ موقفه من العدوان (على غزّة) وما بعده، سوف يبقى في أغلب الظن سادراً في تبرير إنشائي يحوّله إلى يسار متغرّب في نسخة باهتة وفي حجم تابع صغير.

أمّا النص الثالث (والأهم)، فاتّخذ عنواناً هو: غزّة آية نضال في التاريخ. ووقف على مشهد تاريخي يتعلّق بمسار الصراع الذي انتهجته المقاومة الفلسطينية من خارج أرض فلسطين، وشكله المسلّح، وما رافقه من أشكال أخرى. ثم توقّف عند صورة حاضرة للمسار الصراعي وأشكاله المتعددة في داخل فلسطين، فاستخلص من خلال المشهد والصورة ما يُثْبِت أنّ الأرض الفلسطينية المحتلّة لن تتحرّر من الاحتلال الصهيوني الاستيطاني إلّا على نحو غالب هو الشكل الصراعي المسلّح. وتأتي أشكال النضال الأخرى الشعبية السلمية ليكون دورها مُساعداً أو مُكَمّلاً لمشروع التحرّر الوطني.

كذلك، وقف النصّ بشيء من التوسّع على عملية "طوفان الأقصى"، إذ عدّها اندرجت في مسار نضالي تراكمي في الداخل الفلسطيني، بحيث شكّلت تحوّلاً نوعياً في هذا المسار، فتركت تأثيرات عميقة في الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي جعله يُخْرِج الوحش العدواني من جوفه ويعود إلى خزين تلموده الخرافي لأدْلَجة وحشيّته، أي لتبريرها في ارتكاب المجزرة والإبادة. ووجد هذا الوحش الدعم غير المشروط من الغرب السياسي الذي أُصيب بنوع نادر من الهيجان التأييدي، بعد أن شاهد عمق الصورة المرسومة في "طوفان الأقصى"...

لكنّ العدوان الوحشي كشف عنصريّة "إسرائيل" ونفاق الغرب السياسي، فانطلقت ضدّهما الاحتجاجات الشعبية في أنحاء العالم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الغرب تمادى في نفاقه، إذ وقفت أميركا عدّة مرّات ضدّ وقف إطلاق النار في غزّة، من خلال حقّ النقض (الفيتو) الذي تستحوذ عليه.

إنّ الدّعم غير المشروط من الغرب السياسي، بقيادة أميركا، لحرب الكيان الإسرائيلي على غزّة، يُفصح من دون لبْس أن أميركا تحديداً، حين تدعم "إسرائيل" وتوافق على إطالة أمد الصراع، إنّما تستهدف توظيف هذا الصراع في إعادة تَثْبيت سيطرة الأحاديّة على العالم، بعد أن أصابها التصدّع، أقلّه منذ العقد الأخير.

لكنّ مسار الصراع، في حقائقه العملية في غزّة وفي الجبهات المساندة، يُنْبئ بخلخلة تلك السيطرة، وقد يُقدِّم إلى القوى الكبرى غير الغربية، وفي طليعتها روسيا والصين، فرصة تاريخية كي تدعم نزوعها إلى كسر الهيمنة الأميركية الأحاديّة، في سبيل إقامة نظام عالمي جديد يقوم على تعدّد الأقطاب والتوازن في إدارة شؤون العالم. وبذلك، قد تترك غزّة بصمة فلسطينية في كتاب التغيير في النظام العالمي المعاصر.

في جانب آخر، أثقل "طوفان الأقصى" على النظام العربي الرسمي، الذي لم يتجرّأ على إدانة العدوان الإسرائيلي، ولا على إدانة الدعم الغربي للكيان، ولا حتى على الاعتراض عليه، بذريعة أنّه ضدّ الحركات الإسلامية المُقاوِمة، وخصوصاً حركة حماس ذات المنبت الإخواني. لكنّه في الحقيقة يُخْفي تواطؤه مع الكيان تحت شعارات إنسانية "برّاقة" تَصْلُح في داخله ولدى صُحُفِه المُوَجّهة.

وفي هذا الباب، عرض النصّ موقف كل من روسيا والصين بشأن الحرب على غزّة، بحيث وجده أكثر تقدّماً من موقف النظام العربي الرسمي. أما إيران، فأيّدت "الطوفان"، بل أشادت به، ودانت العدوان الإسرائيلي، واعترضت على دعم الغرب له. وفي المقابل، أثْنَت إيران على حركات المُقاومة في غزّة ودعمت الجبهات المُساندة في معاركها ضدّ "إسرائيل"، ثمّ أكّدت بالتالي حقّ الفلسطينيين المشروع في تحرير أرضهم من الاحتلال.

وأخيراً، توقّف النصّ عند أشكال حلّ الصراع في فلسطين، بحيث عرض ثلاثة أشكال (حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة، حلّ الدولة على كامل التراب الفلسطيني، حلّ الدولتين)، وناقش كلّ شكلٍ على حدة. فوجد أنّ الحلّ المرحلي أو حلّ الدولتين، على الرغم من الصعوبات التي تَعْتَرضُه، يبقى وحده ما يلائم وعي الصراع المرحلي عقلانياً، وما يؤطّر مساره من "حقائق" عالمية وإقليمية وعربية!

لكن، في الوقت نفسه، لاحظ المؤلّف أنّ النظام العربي الذي يدعو إلى "حلّ الدولتين"، بينما بعضه المُطَبّع مع "إسرائيل" ومن يتحضّر للتطبيع معها، يُحْجِم عن توظيف أوراق قوّته ذات التأثير الفعّال فيها وفي الغرب السياسي ذلك بأن هذه الأوراق قد تؤدّي في حال توظيفها إلى تراجع الكيان الإسرائيلي عن رفضه حلّ الدولتين، وإلى وضع حد للنفاق الغربي في دعوته إليه.

وفي الختام، اسْتَنْتَج المؤلّف أن عملية طوفان الأقصى أظهرت للملأ أنّ فصائل المقاومة بقيادة حركة حماس قدّمت نضاليّة غير مسبوقة في الشجاعة والبطولة في مواجهة العدوان الإسرائيلي. لكن هذه النضاليّة وجدت ما يُرسّخ بطولتها أكثر حين اسْتَندت إلى صمود أسطوري للشعب الفلسطيني في غزّة.

ومع هذا الصمود، تكون غزّة حملت القضية الفلسطينية وطافت بها حول العالم. لكن إذا استطاع الغرب السياسي و"إسرائيل" محو خطّ الطّواف، يكون النظام الرسمي العربي هو الذي اشترى الممحاة بأغلى الأثمان.