الكتب الممنوعة: من يحرق كتاباً فكأنما يقتل إنساناً
يقول جون ميلتون: القضاء على كتاب جيد – يعادل قتل إنسان تقريباً، بل هو أسوا أيضاً بشكل ما، لأن من يقتل رجلاً يقتل كائناً مفكراً.
-
كتاب "الكتب الممنوعة" لماريو انفليزي
أعلن مارتن لوثر : "أنّ الطباعة آخر وأعظم نعم الله , لأنه أراد أن يُعرّف بها جوهر الدين الحق في كل مكان، وحتى في أقاصي العالم، وأن يتم نشره في جميع اللغات". وفي عام 1513 أعلن لويس الثاني عشر بأن " الطباعة هي فنّ إلهي أكثر مما هو بشري، ويمكن للدين الكاثوليكي أن يحقق من خلالها انتشاراً كبيراً ويزداد قوة، ويمكن للعدالة أن تتحقق، وتُدار بشكل أفضل "لكن بعد عشرين عاماً، بدأ خليفته فرانسوا الأول بتعديل ذلك الرأي، وأصدر تحت تأثير انزعاجه من بعض المطبوعات المناوئة له، قراراً غير قابل للتنفيذ بالحظر المطلق على الطباعة في أرجاء المملكة.
في عام 1472 بعد دخول الطباعة إلى إيطاليا، كوّن أسقف سيبو نتو (نيكولوز بيروتي) لجنة من العلماء، تقوم مسبقاً بالتصريح بطباعة الأعمال الكلاسيكية، وعلى المستوى السياسي والديني كانت المراتب الكنسية العليا في المدن الألمانية هي من اضطلعت بأول شكل من أشكال الرقابة.
شهد القرن السابع عشر زيادة ملحوظة في معدل إنتاج المطبوعات بشكل بارز. وسبّب هذا الوفر في الطباعة ظهور أزمة مفادها كيف يتم ترتيب كل هذه الكتب؟ وكيف يمكن إيجاد سبيل للتعاطي معها؟ وكيف يتأتّى اختيارها؟ وبأي معايير سيجري تنظيمها؟ أمام هذه التحديات، أصبحت الحاجة إلى وجود نظام تصنيفي تمثّل في " المكتبة الجامعة" وهي لائحة ضخمة بعناوين الكتب اللاتينية، واليونانية والعبرية الخاصة برجال العلم، والصادر عام 1545 ميلادية، أحد أهم الآثار الدالة على حرية البحث العلمي في عصر النهضة. بعد فترة انتشرت المؤلفات المجهولة، والخالية من أي بيانات عن النشر، والأغلفة الداخلية الزائفة. أدرك الرقباء الحاجة إلى وجود أدوات تصنيفية تتيح لهم العمل بثقة. ضمن هذا الجو الصاخب صدرت قوائم الكتب الممنوعة، التي سرعان ما أصبحت السلاح الرئيسي في يد الرقابة الكاثوليكية. أعدّت قوائم في مختلف الدول الأوروبية، والتي تضم عناوين يجب حظرها، ففي باريس ظهرت القوائم الباريسية الست من عام 1544 إلى عام 1556، مُنع من خلالها 528 كتاباً، وبين عامي 1546 - 1558، أصدر أساتذة اللاهوت في جامعة لوفيانو - استجابة لأوامر كارل الخامس، وفيليب الثاني ثلاث قوائم تحتوي على مئات الأعمال الممنوعة، التي تشمل إلى جوار المؤلفات الإصلاحية، وطبعات التوراة والعهد الجديد، قائمة من الكتيبات الصغيرة الحجم باللغة الفلمنكية، كانت قد أعدت لنشر الفكر الإصلاحي بين الطبقات الشعبية.
في إيطاليا، خرجت أول قائمة للنور، في عام 1549، في البندقية، وفقاً لاتفاق مناوئ للهرطقة بين كل من محكمة التفتيش والموفد البابوي ومجلس الحكماء، ضمت ما يقارب 150 عملاً محظوراً.
وفي عام 1559 صدرت قائمة بولس، وهي القائمة الوحيدة التي أعدتها محكمة التفتيش الرومانية الأشد صرامة في التاريخ، بما حوته من إدانات، قام بنشرها البابا – بولس الرابع، توزعت القائمة على ثلاث مجموعات، ضمت الأولى المؤلفين غير الكاثوليك، وطال الحظر أعمالهم كافة، ومجموعة ثانية شملت 126 عنواناً خصّت 117 كاتباً ثم 332 عنواناً مجهول المؤلف، وفي لائحة أخرى أُدينت كل أعمال نيكولا مكيافيللي كاملة وأرازموس.
أدت هذه الصرامة القاسية إلى ردود فعل فورية، حيث طالب باعة الكتب في روما بنوع من التعويض لقاء الخسارة، لكن هذا الأمر لم يحدث، لأن المهادنة الزمنية ستقود البابا إلى جعل مصير الكتب هو الحرق، في خطوة منه لتهدئة نفوس الباعة ودفعه الثمن المزمع للكتب.
سادت نظرة إلى الكتاب باعتباره خطراً ضاراً أو مرضاً معدياً، يجب الحد من انتشاره بل ومنعه بشتى الوسائل، وخلال أعوام شكلت كنيسة روما جهازاً رقابياً يسعى إلى استئصال الهرطقة، لكنه سرعان ما حاد عن الطريق، فبعد عام 1559 أثارت الكتب التي كانت تشكل لأعوام طويلة مرجعاً في تعاليم المسيحية، الشكوك واَل مآلها إلى الخطر، فدخل السحر والأدب والعلم في خضم تلك الموجة.
سقط الإنتاج العلمي في مخالب الرقابة، وكان لا بد من الانتظار حتى نهاية القرن السادس عشر لمواجهة هجوم حاسم على التفكير الفلسفي والعلمي، فصدرت الإدانة الرسمية لنظريات كوبرنيكس، بعد نشر "ثورة الإجرام السماوية" لنيكولاس كوبرنيك، ظهر مرسومان لفرض الرقابة على التفكير العلمي عام 1546، وفي عام 1610 أذاع صدور "رسول من النجوم" وهو محصلة الملاحظات الفلكية التي قام فيها الجليل جاليليو بواسطة تلسكوب من اختراعه. وبه أثار حفيظة علماء اللاهوت، واعتُبرت محاكمة غاليليو في عام 1633 إنذاراً خطيراً تردد صداه في أرجاء أوروبا، ودعا ذلك ديكارت في فرنسا إلى أن يتنازل عن نشر كتاب " انسجام العالم " والذي لم يصدر حتى بعد وفاته .
كانت قائمة كليمنت الثامن الصادرة عام 1596، تحوي ما يقارب 2100 عنوان، والتي أصدرها كليمنت الحادي عشر عام 1711 تضم 11000 عنوان، وهي في أيدي المفتشين المحليين الذين تحولوا فيما بعد إلى قضاة يقومون بالفصل في منح تراخيص الطباعة لفئات واسعة من النصوص. وكان يتحتم على كل ناشر بأن يقدم رسمياً للمفتش إقراراً سنوياً بالكتب التي يملكها في حانوته ويسلم كل الكتب التي شملتها القوائم ويبلغ عن كل طلب يتعلق بالمؤلفات المحظورة.
في عام 1644 كتب جون ميلتون إلى البرلمان الإنكليزي حول حرية الطباعة من دون رقابة، وهو أول فكر حقيقي للدفاع عن حرية النشر: "القضاء على كتاب جيد – يعادل قتل إنسان تقريباً، بل هو أسوا أيضاً بشكل ما، لأن من يقتل رجلاً يقتل كائناً مفكراً صوّره الله، لكن مَن يقضي على كتاب جيد، يقتل الفكر ذاته، ويقضي، أكاد أجزم، على جوهر تلك الصورة الإلهية ". وطالب ميلتون بحماسة وشجاعة بالحرية التي كان الأوربيون يجهلونها ولا سيما الإيطاليون الواقعون تحت سلطة الرهبان الذين يُعتمد عليهم في إصدار "تصريح الطباعة". خسر ميلتون هذه المعركة، لكن بعد نصف قرن أي في عام 1695، أصبحت إنكلترا أول دولة أوروبية، تلغي الرقابة الاحتياطية .
لم يحظَ "خطاب جون ميلتون" ولفترة طويلة بأي صدى في دول أوروبا ( صدر بالفرنسية بعد بأن ترجمه ميرابو في عام 1788 عشية الثورة، بينما نُشر في إيطاليا في دار لا ترسا، تحت إشراف كروتشي في أوج الفاشية في عام 1933).
توافرت حرية النشر رسمياً مع صدور: "علان حقوق الإنسان والمواطن" في باريس في آب/ أغسطس من عام 1789 وفيه يعتبر "تبادل الفكر الحر والآراء، أحد حقوق الإنسان الأكثر تقديراً، ويحق لكل مواطن أن يتحدث ويكتب وينشر بحرية كاملة في باستثناء ما يعَدّ تجاوزاً، وفقاً للحالات التي نصّت عليها القوانين "وصار المبدأ الذي أُرسِي عام 1789 نقطة مرجعية لكل النظم الليبرالية الحديثة .
يتناول الكتاب موضوعات جمّة، منها موضوع الرقابة على الكتب، ويتناول أصل الرقابة، والعلاقة بين الكنيسة والدولة، وتحت موضوع "ثقافات تحت الحظر" يتناول قراءات محظورة وقوائم الكتب الممنوعة والرقابة والقراءة الشعبية والعلم، وتحت موضوع "حدود الرقابة"، يتناول ما بعد قائمة كليمنت والتفتيش والقمع، وجذور التسامح. وفي موضوع "الحكم المطلق والرقابة"، يتناول نحو سيادة الدولة وتصاريح في الخفاء وبيانات زائفة. وعصر التنوير والرقابة وحرية الطباعة. وفهرس يحكي التسلسل الزمني.
هناك مقولة شهيرة وجميلة لفرانز كافكا وهي: "على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا".