المتمردة الغامضة.. إيزابيل إيبرهاردت من جنيف إلى الصحراء الجزائرية

كاتبة وصحافية تركت أوروبا وانتقلت للعيش في الجزائر. ولادتها غامضة ومسارها مليء بالألغاز. من هي ايزابيل إيبرهاردت؟

  • المتمردة الغامضة.. إيزابيل إيبرهاردت من جنيف إلى الصحراء الجزائرية (رسم: ماريا نصر الله)
    اعتنقت إيزابيل الإسلام في حضرة الطريقة القادرية الصوفية المُقاوِمَة (رسم: ماريا نصر الله)

ايزابيل ايبرهاردت كاتبة وصحفية قرَّرت أن تترك وطنها في أوروبا وتنتقل للعيش في الجزائر التي عشقتها، لا لتعيش حياة رغدة كباقي الأوروبيين الذين استوطنوا بلادنا في القرن 19م، بل لتتقمَّص فعلياً حياة البدو الرحّل الوعرة في مختلف مناطق الصحراء الجزائرية الشاسعة. تمارس نفس طقوسهم الدينية وتلبس لباسهم وتتحدَّث لغتهم.

بدت حياة ايبرهاردت وكتاباتها غريبة بالنسبة للكثيرين. اتَّهمها بعض الجزائريين بالتجسس لصالح الاستعمار، فيما لم تسلم من تضييق السلطات الاستعمارية عليها بتهمة معاداة مشروعها الاستيطاني في البلاد، فمن تكون ايزابيل ايبرهاردت وما هي أهم محطات حياتها كمغامرة وكاتبة؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عنه.

***

من جنيف كانت البداية...الولادة الغامضة

  • إيزابيل إيبرهاردت
    إيزابيل إيبرهاردت

وُلدت ايزابيل في 17 شباط/ فبراير عام 1877 في مدينة جنيف السويسرية. أمها روسية من أصول ألمانية تُدعى إيزابيل ويلهلمين ايبرهاردت ومتزوجة من قائدٍ شغل مناصب مرموقة في روسيا القيصرية، قِيل إنَّها من أبٍ روسيٍّ وُلد في أرمينيا يُدعى آلكسندر تروفيموفسكي.

انتقلت عائلة إيزابيل أخيراً للإقامة في جنيف قبل ولادتها. لم يعترف تروفيموفسكي بأبوَّته للوليدة، فحملت اسم والدتها قبل الزواج، كحال الأطفال غير الشرعيين، لكنَّ اختلافات من كتب عن سيرتها الذاتية حول نسبتها لتروفيموفسكي من عدمه أضفى مزيداً من الغموض على ولادتها.

وبينما تُرجِّح سيمون رزُّوق أنَّ القائد الروسي هو فعلاً الأب الحقيقي حتى وإن لم يعترف بها (1) وكذلك فعلت إدمون شارل رو (2)، فإنَّ فرانسواز ديبون تميل للاعتقاد أنَّ إيزابيل كانت ابنة الشاعر الفرنسي  آرثر رامبو  (1854-1891)، مُستندةً في ذلك إلى الشبه بينهما.

لكن ما زاد الغموض حقاً في ولادة إيزابيل هو ما كتبته هي نفسها حول الأمر، ففي رسالة كتبتها لصديقها التونسي علي عبد الوهاب سنة 1898، تقول: "لقد علمت بالدليل القاطع بأنَّني ثمرة اغتصاب تعرَّضت له أمي على يد طبيبها"(3)، ثم تعود لتكتب، بعد هذه الرسالة بــ 5 سنوات، في مقال نشرته في جريدةٍ محلية صادرة في مدينة بوردو الفرنسية، " أنا ابنة روسي مسلم، وأمٍّ روسيةٍ مسيحية، وُلدت مسلمة ولم أغيِّر ديني، توفي أبي بُعَيْد ولادتي في جنيف حيث كان يُقيم" (4).

ما يُختلف عليه أنَّ إيزابيل ترعرعت في كنف "الأب" الروسي بشكلٍ مختلفٍ وحازم عن "الأشقاء الآخرين"، حيث لم يكن يُسمح لها بالخروج إلا نادراً، ولأسباب غامضة تلقَّت إيزابيل على يد تروفيموفسكي تربيةً ذكورية، جعلتها تبدو كصبيٍّ في تصرفاتها ولباسها، لكنَّه حفَّزها على قراءة الفلسفة والتاريخ، وشاركها وَلَعَه بتعلم اللغات، فتعلَّمت الروسية والألمانية والفرنسية والإيطالية والتركية واجتهدت لإجادة العربية.

كانت القراءة، ثم الكتابة، هي ملاذها الوحيد، فالتهمت الأدبين الروسي والفرنسي، ثم دخلت في مراسلات مع أشخاص لا تكاد تعرفهم، من بينهم من كان مُقيماً في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وربما من خلال مثل تلك المراسلات، أو من خلال قراءتها لبعض ما كان يُكتب عن "بلاد الشرق البعيدة"، تعرَّفت على الإسلام وعلى الجزائر، وقد كتبت في سن الـــ 18، من غير أن تطأ قدميها بلادنا، رحلة مُتخيَّلةً نشرتها باسم مستعار مُذكَّر هو نيكولاس بودولنيكسي.

وعلى أيِّ حال، لم يكتنف الغموض ولادة إيزابيل وتربيتها فحسب، بل إنَّ مسارها كلَّه كان مليئاً بالألغاز المثيرة للجدل كما سنرى.  

من أوروبا إلى الجزائر...رحلة البحث عن الذات  

  • إيزابيل إيبرهاردت بزيّ تقليدي جزائري
    إيزابيل إيبرهاردت بزيّ تقليدي جزائري

بعد سنتين من رحلتها المُتخيَّلة إلى "بلاد الشرق"، تحقَّقت أمنية الشابة إيزابيل ايبرهاردت في سنة 1897،عندما رافقت والدتها لزيارة الجزائر في ذروة ترسُّخ وتوسُّع المشروع الاستيطاني الفرنسي.

وكانت المحطة النهائية هي مدينة عنَّابة الساحلية في أقصى شرق البلاد، وسرعان ما غادرا الحي الأوروبي ليقيما في حيٍّ شعبي مع الجزائريين المسلمين، وتتعرَّف عن كثبٍ على طباعٍ ألفتها في الكتب التي قرأتها والمراسلات التي تبادلتها مع أصدقائها، لكنَّ أمّها توفَّيت، وفي تلك اللحظة المأساوية الحزينة، قرَّرت البقاء في الجزائر.

لاحقاً آثرت التَوجّه جنوباً نحو الصحراء مُحقِّقَةً ما كانت تصبو إليه منذ مراهقتها التي أَمْضَتْها مُنعَزِلَةً بين كتبها وبين جدران الفيلا التي غالباً ما كانت تُمنع من تَخطِّي أبوابها. وصلت إلى واد سوف في الجنوب الشرقي الجزائري المحاذي لتونس على ظهر حصان وهي ترتدي لباس فارسٍ جزائري، وهناك بدأت الأخبار الحزينة تصلها تباعاً، تُوفِّي "والدها" ثم أخوها. دخلت بعدها في أزمات نفسية ومالية اضطرتها إلى الترحال في كل اتجاه بحثاً عن الراحة النفسية ولقمة العيش، قبل أن ينتهي بها المطاف مجدداً في الأرض التي عشقتها من غير أن تراها، الصحراء الجزائرية.

اعتنقت إيزابيل الإسلام في حضرة الطريقة القادرية الصوفية المُقاوِمَة، واختارت لنفسها اسم "محمود سعدي"، ولعلًّه كان تأثُّرا بالشاعر الفارسي المُتصوِّف المعروف سعدي الشيرازي. أحبَّت فارساً جزائرياً كان يعمل في صفوف الجيش الفرنسي اسمه سليمان إهني.

بدأ الغموض يكتنف حياة إيزابيل مجدداً. تنتقل بين بوادي وأرياف ومدن الجزائر في زي فارس بدوي. تُسجِّل كل ما يثير انتباهها، وكان ذلك وحده كافياً ليثير حفيظة السلطات الاستعمارية والطرق الصوفية المنافسة للطريقة التي انتمت لها على حد سواء. ثم بدأت تكتب مقالات تنتقد فيها المشروع الاستعماري، فواجهت حملةً من التضييق على نشاطها وصولاً لنفيها لفرنسا سنة 1901.

تعرَّضت إيزابيل لمحاولة اغتيال نجت منها بأعجوبة، نفَّذها مريدٌ لطريقةٍ صوفية على خلافٍ مع الطريقة القادرية التي تنتمي إليها، لكنَّها عادت إلى البلاد بعد أن تزوَّجت عشيقها سليمان الذي كان قد التحق بها في مرسيليا. انتقلت بعدها إلى منطقةٍ أخرى في الصحراء الجزائرية، بصفتها مراسلة صحفية، هي الجنوب الغربي الذي كان قبل ذلك بسنواتٍ قليلة مسرحاً لمقاومةٍ شعبيةٍ شرسة، شملت مناطق واسعة من الصحراء الجزائرية وضمَّت قبائل عربية وبربرية عديدة، قادها الشيخ بوعمامة (1833-1908)، شيخ إحدى الطرق الصوفية المعروفة في الجزائر.

كانت تلك التجربة الصحفية لإيزابيل فرصة للتعرُّف على زوايا صوفية جديدة وبِنيات قبلية وثقافية واجتماعية أخرى، وأيضاً على القائد العسكري الفرنسي لويس هوبير ليوتي (1854 - 1934)، الذي تقرَّب منها، ممَّا دفع بالبعض لاعتبار تلك العلاقة الغامضة دليلاً على أنَّ إيزابيل ايبرهاردت، التي تحيط نفسها في كل مرة بالغرابة والغموض، تجسَّست لصالح الجيش الفرنسي. 

هل كانت إيزابيل ايبرهاردت جاسوسة؟

  • ضريح إيزابيل إيبرهاردت
    ضريح إيزابيل إيبرهاردت

يصعب على المُتتبِّع لمسار إيزابيل ايبرهاردت ولكتاباتها التي تركتها لنا؛ "ياسمينة وأخبار أخرى جزائرية"، "صفحات الإسلام"، "في ظل الإسلام الحار" وغيرها، كما للوثائق التي بين أيدي الباحثين إلى الآن، يصعب عليه أن يركن ببساطة إلى فكرة اتهامها بالتجسس لصالح الاستعمار.

في حقيقة الأمر فإنَّ لا دليل ملموس بأيدي هؤلاء غير بعض الكتابات التي لم تُنشر إلا بعد وفاتها والتي انتقدت الاستعمار لوحشيته لا لذاته (5)، أوب علاقتها بالقائد العسكري ليوتي، والتي لم تكن بالتأكيد عاديةً بين صحفية كاتبة وبين عسكريٍّ في منطقةٍ مشتعلةٍ وخطرة.

فالعلاقة كانت استثنائية بكل تأكيد بين عسكري غير عادي وصحفية مميزة، ووجه الاستثناء هو تلك النقطة المشتركة التي خلقت هذه العلاقة "التخادمية" بينهما وهي الثقافة. لا شكَّ أن ليوتي العسكري المثقف استفاد من المعرفة الثقافية والأنثروبوجية التي راكمتها إيزابيل بالمجتمع الجزائري، الجنوبي الصحرواي بالخصوص، ووظَّفها، بنسبةٍ مُعيَّنة، لصالح المشروع الاستيطاني الفرنسي في الجزائر على غرار كل ما أنتجته السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الكولونيالية منذ سقوط الجزائر سنة 1830.

فقد قال:"لا أحد يعرف أفريقيا (المقصود الجزائر) كما تعرفها إيزابيل ايبرهاردت"، كما أنَّ إيزابيل كصحفية لم تكن لتأخذ إذناً بالدخول لتلك المناطق، من أجل عملها أو من أجل الاستكشاف لولا علاقتها بمن كان يمثل أعلى سلطة في المنطقة آنذاك، لكن المواضيع الثقافية التي كانت تدور بين شخصين مًلمَّين بالأدب والفكر كانت تتجاوز يقيناً الأحوال الاجتماعية والثقافية الجزائرية.

تُوفِّيت إيزابيل ايبرهاردت في 21 تشرين الأول/أكتوبر من سنة 1904 ضحية الفيضان الجارف الذي ضرب مدينة العين الصفراء في الجنوب الغربي الجزائري، ودُفنت في المقبرة الإسلامية فيها، ولا تزال بغموضها، وغرابتها أحياناً، تثير الجدل.

مصادر ومراجع

(1)  REZZOUG Simone, Isabelle Eberhardt, Office des Publications Universitaires, Alger, P19.

(2)  Edmonde Charles-Roux, Un désir d'Orient, biographie d'Isabelle Eberhardt, vol. I, Grasset, 1989.

(3)  ECRITS INTIMES. Isabelle Eberhardt, Payot, Paris p115. 1991.

(4)  BENAMARA Khelifa, Isabelle Eberhardt et l’Algérie, Alger, 2005, barzakh, p 12.

(5)  BENAMARA Khelifa, Le Destin d’Isabelle Eberhardt en Algérie : Amour, mystique, espionnage et mort violente, Publibook, 2013