"الهروب من سمرقند": عبد اللطيف اللعبي يتفحّص إنسانيته

يكشف لنا اللعبي عن محنة جسدية وذهنية مرّ بها خلال جائحة "كورونا"، وهي محنة هزّتهُ لدرجة أنه لم يستأنف بعدها وتيرة حياته المعتادة. لذا يغامر في الكتابة الواقعية الباطنية.

يذهب الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي في كتابه الأخير "الهروب إلى سمرقند" الصادر عن دار الرافدين (2023) بترجمة أنطوان جوكي، إلى تكريس الكتاب لمن يدعوه "الصنو العزيز" والذي أسماه في النسخة العربية بالسيد ناظم، فيما حمل اسم Bard في النسخة الفرنسية من الكتاب، وهو لقبٌ من أصل لاتيني استعمله أجداد الفرنسيين للإشارة إلى المنشِد الذي كان يحتفي في تقاليد القبائل السلتية بالأبطال ومآثرهم الكبرى.

يكشف لنا الكاتب عن محنة جسدية وذهنية مرّ بها خلال جائحة "كورونا"، وهي محنة هزّتهُ لدرجة أنه لم يستأنف بعدها وتيرة حياته المعتادة. لذا يغامر في الكتابة الواقعية الباطنية، ليس لوجهات بعيدة، بل تمسي للرحلةِ قدرة على النفاذ إلى أعمق نقطة في نفس الشاعر والفنان. هناك في زمن الوباء، تبدو الكتابة الشهادة الوحيدة على حيويته، وتطرح أمامه تساؤلات عديدة أبرزها إن كان قد أصبح رجلاً من الماضي؟ وعن جدوى الكتابة خلال الأزمات الكبرى. 

"السيد ناظم منشدٌ للكمال. كادحٌ في ميدان اللغة. إنه ليس من أولئك الذين يستسهلون الكتابة ويمارسونها بسرعة من دون أن يهجسوا بجنس الكلمات". يعبُرُ الكاتب وفق سرديته بالقارئ إلى عوالم بطله السيد ناظم. وعبر الكتابة يخترق الواقع بكشوفاتٍ تجعلنا ننعم بامتياز الدخول إلى أعماقه. يتساءل هنا حيال هرمهِ، لكنه يخلص إلى أن شجرة حياته بقيت صامدة أمام ويلات الزمن. بتلك الأفكار الاستحواذية، نحيا تاريخ الكاتب ورؤاهُ، وما خبرهُ من دواماتٍ أفضت به إلى حالة من الفراغ المسكّن. في لحظات الحجر تلك، يعلن لصنوهِ القابع في داخله أن الوقت قد حان ليشخص إلى الواقع، ويتخلّص من "يوتيوبياته" وآماله، ومن ارتعاشه أمام معجزة الحياة والتوقّف عن سبر المستقبل. 

نعود مع الكاتب هنا إلى طفولته، ونرى عالماً لا ذهب فيه ولا كنوز. هو عالمٌ بلا ألعاب ولا كتب. لا عطلات في الجبال ولا قصص حب بريئة. قلقهُ الوحيد هو المطر، هل سيهطل أم سيحجم عن الهطول؟ ما أكسب ناظم الطفل الذي عدا مع الرفاق في الأزقة مغبة تتبع الغيوم ورصد النجوم. هل كان سعيداً أم تعيساً؟ تلك كانت أفكاراً غريبة عنه. من ذلك الغوص البعيد، يقرر أن يعتني بحديقته الداخلية، سيما بعد انسحابهِ مما دعاهُ ضوضاء العالم.

ومن العنوان نعلم أن الكاتب اتخذ من قصة الوزير والموت في كتاب "ألف ليلة وليلة"، عتبةً لسرديته؛ وفيها يستقبل هارون الرشيد وزيرَه ويسأله الهروب إلى سمرقند ليختبئ فيها من الموت الذي كشف له عن وجهه في السوق. وبعد موافقة الرشيد، يتخفّى وينزل إلى السوق يسأل الموت عن سبب قبضه روحَ وزيره، ليكون الجواب: لقد تفاجأت برؤية الوزير في بغداد بينما كنتُ أنتظره هذا المساء في سمرقند. 

ولاختيار الكاتب القصةَ أسبابُهُ؛ منها وقعُ اسم سمرقند وموسيقاه، إضافة إلى هالة الأسطورة التي توّجته عبر الزمن. ولعل في اختيار اللعبي ما يمسّ الكتابة ذاتها، تلك التي توهّم الكاتب بامتلاك ناصيتها، بينما توجّه الحبكات وتعقد السيرَ نحو وجهاتٍ غير متوقّعة. هو ما حدث مع الوزير ومع القارئ ومع الرشيد نفسه، وهو ما يأخذنا إليه ناظم حين ينحو بسرديته ليتقمّص دور العربي التائه، ويسبر المناطق المعتمة في داخله، ويطرح حكاية تختلف عن كونها حكاية شرقية، لتدور في أثناء سيره المفترض إلى "سمرقنده" الخاص مع فوراق كبيرة بين ناظم والوزير. 

"الطريق تفتحها الخطوات" من عبارة أنطونيو ماتشادو هذه، ينطلق الكاتب في رحلة معرفة أي المربّعات في الأرض سيغرس بطلنا عصا ترحاله فيها. ولأن الكتابة هي درايته الوحيدة، نستعيد معه ذكراه الأليمة كسجين برقم 18611، وتلك تجربة أسست لظلّ إنسان توارى في داخله من غير أن يجد طريقاً للخروج. 

إقرأ أيضاً: عبد اللطيف اللعبي يصدر "يوميات قلعة المنفى"

يضطلع بعدها بواقع المجتمعات العربية عبر زمن الثورة والتمرّد. يعترف بوطأة الاستبداد التي لم تخف، وبالنتيجة المريرة للكفاح، فالنظام البدائي بقي قائماً، ولو تخفّى تحت مظهر حداثي. لنصل إلى شعورهِ الدائم بالاغتراب في كل الأمكنة ما عدا مكاناً بقي له وقعه الخاص؛ وهو الأندلس، مع ذلك الفضول لنوع اللغة التي لهج بها أبناؤها، والتاريخ المثقل بالفن والشعر.

وإلى جانب تتفرّد فيه الأندلس، تتفرّد أيضاً مكانة رفيقة الدرب وقصة حبّ لا تصدّق عاشها معها. ومع الأولاد والأحفاد، تكشف التجربة عن ذوات الكاتب المنغلقة، وتدفعنا للكشف عن الأوجه المتعدّدة للغزهِ الخاص: "لكنه لم ينجح سوى في نقله إلينا، كيف أن المحنة التي عصفت به كانت مدوّنةً ضمن ما هيّأتهُ ظروف تلك الحقبة له كقدرٍ، بمجرد أن استقرّ في حياته الجديدة كيف انغلقت هذه الأخيرة عليه إلى حد جعل حياته السابقة وهماً". 

يشعر بطلنا ناظم بالضياع في زمننا، فالأجوبة التي قدّمها عن الأسئلة الوجودية التي طرحها بدأت بالتزعزع. والعالم تغيّر، ذلك أن شيئاً فاسداً يتحكّم بكل ما يحدث فيه، وهو ما دفعه لابتكار الهروب إلى سمرقند تلبية لاحتياجات سرديته، لكنها تصل للاستقرار في لاوعيه والمكوث فيه. 

بتلك المفاجأة؛ أن يتحوّل ما يبتكرهُ إلى وعي ومن بعده واقعاً، تحاكي المفاجأة ما قدّمه ملك الموت في حكاية الوزير. إذ يقدّم اللعبي كاتباً تحوّلت سرديته المتخيّلة إلى سيرةٍ ذاتية لحياته، وتمسي الحكاية تبادلية بين الواقع والمتخيّل سيما في طرح الأسئلة والاستفهام حول من قام بكتابة الحكاية؛ هل هو اللعبي أم ناظم؟ أم كانا كلاهما معاً؟ لنخلص إلى استلهام سؤالها الأثير: من الكاتب ومن المكتوب؟ ومن كان الساقي ومن المسقِي؟

لعبد اللطيف اللعبي مؤلفات عديدة منها: الأعمال الشعرية الجزء الأول والثاني، شاعر يمر (سرد)، مغرب آخر (رسالة إلى المواطنين)،، والقراءة العاشقة، كما كتب روايات منها: "قاع الخابية"، "تجاعيد الأسد"، "يوميات قلعة المنفى (رسائل السجن)، و"مجنون الأمل". وقد نال على أعماله الشعرية عدة جوائز دولية، منها جائزة غونكور الفرنسية عام 2009.