الوشم في الثقافة العربية: من العلامة القبلية إلى التمرّد الفردي
ما تاريخ الوشم عند العرب؟ وما الذي يكشفه الوشم عن صاحبه؟
تتبّع مسارات الوشم في الثقافة العربية يحيلنا إلى تمظهرات عديدة، منها ما له علاقة بالانتماء إلى القبيلة أو المنطقة، أو باعتبارها علامات تميِّز العبيد عن الأحرار. ومن تمظهرات الوشم أيضاً ما ينضوي في إطار التَّزيُّن والإغواء، أو لدرء الحسد وأحياناً كعلاجات بدائية وغير ذلك.
لكن على اختلاف تلك السياقات ودلالاتها، إلا أنها جميعها تشترك بالألم الناجم عن آليات الوشم المختلفة، قديمها وحديثها، وبالتغييرات التي تطرأ على هوية الموشوم، سواء كانت إيجابية أم سلبية.
عرف العرب الوشم منذ "الجاهلية"، حيث كانت القبائل تستخدمه إما كرمز للانتماء مثل وشم قبائل الأهوار والزبيد والجبور والديلم في العراق، أو باعتباره شيئاً جمالياً، إذ كانت النساء في بعض قبائل الجزيرة العربية وقبائل بلاد الشام والرافدين تتزيَّن بالوشوم، وذلك وفق ما يذكر المؤرخ، جواد علي، في موسوعته "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، مبيناً أن الوشم كان شائعاً لدى قبائل مثل "طيّ" و"قريش"، واستخدم كعلامة من علامات الفخر للانتماء لتلك القبائل.
زينة وتعبُّد
-
كان الوشم عند العرب من وسائل الزينة أيضاً
في الجزء الثامن من الموسوعة المذكورة، وتحديداً في الفصل الــ 49 بعنوان "الحياة اليومية"، يوضح جواد علي أن الوشم كان "من وسائل الزينة، ويتم عبر غرز إبرة ونحوها في عضو حتى يسيل الدم ثم يحشى بنؤور أو بالكحل أو بالنيلج أو نحوها فيزرق أثره أو يخضر. وكانوا يقصدون بذلك التزين فينقشون به غالب أبدانهم، أنواعاً من النقوش من صور حيوانات أو نبات أو صور إنسان وكذلك الشفاه، فترى غالب شفاه نسائهم زرقاً. والأطفال منهم يوشمون في بعض المحال من وجوههم لقصد الزينة. وكذلك الرجال"[1].
كما يروي ابن الكلبي في كتابه "الأصنام" أن بعض القبائل كانت توشم تمائم آلهتها مثل العزى على الأذرع للحماية، وكان ذلك طقساً تعبُّدياً تمارسه النساء عند الأصنام، وليس مجرد زينة، حيث يتم الوشم بعد أداء الحج، يقول: "وكانت العرب إذا حجّت البيت، تقرّبت إلى أصنامها، فإذا رجعت من الحجّ، جلست عندها، وحلقت رؤوسها عندها، وقلّدوها الشعر، وكانت المرأة إذا حجّت، تقرّبت إلى صنمها، فجلست عنده، ووشمت يدها أو وجهها".
معيار الجَمال
-
امرأة ورجل من بني ملال، المغرب، 1930
لا تقف الدلائل على كتب التاريخ والمؤرخين. إذ إن هناك بعض الشعراء وصفوا جمال الوشم في قصائدهم ومنهم عنترة بن شداد الذي قال في قصيدة "أَلا يَا دَارَ عَبْلَةَ": "وَوَشَمَتْ عَبْلَةُ بِالْوَرِيدِ كَأَنَّهُ.. خَطُّ الْحَبِيبِ عَلَى الرِّقَاقِ الْمُهَنَّدِ"[2]، مُشبِّهاً ذاك الوشم بالنجم الذي يهتدي إليه من يبحث عن الجمال.
أما أبو بكر الخوارزمي فيشير إلى الوشم كمعيار للجمال، وذلك عند قوله: "وصفتُ ريحاناً إذا ما وصفه.. واصفه قيل له: زِدْ فى الصّفه/ دقّقه صانِعُهُ ولَطَّفَه.. كأنّه وشمُ يَدٍ مُطَرّفَه/أو خطّ ورّاق أدقّ أحرفه.. أو زغبات طائر مصفّفه/أو حلّة مخضرّة مفوّفه"[3]، وذلك بحسب ما جاء في كتاب "نهاية الأرب في فنون الأدب" لشهاب الدين النويري.
البحث في كتب التراث الشعبي، يوصلنا إلى أن هناك ما يمكن تصنيفه تحت باب "الوشم العلاجي" حيث إن بعض القبائل استخدمت الوشم لعلاج الأمراض كالصداع من خلال الوخز في نقاط محددة، وهو ما أكده ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، حيث وصف وسائل علاج بعض الأمراض الجلدية والعصبية لدى الأطباء اليونانيين والعرب الأوائل بـ"أن يُوسم الموضع بالنار أو يُوشم بمادة حادة، ثم يُذرّ عليه دواء مركب، فيمنع الورم أو يقطع النزيف".
منع الحسد وطرد الشياطين
-
ما زال بعض القبائل يعتقد بأن الوشم يحفظ من الأمراض ويمنع الحسد ويطرد الشياطين
"وما زال بعض المجتمعات البدائية والقبائل البدوية يعتقد بأن الوشم يحفظ من الأمراض ويمنع الحسد ويطرد الشياطين، لذا يعتبر وسيلة شفاء وعلاجاً شعبياً، كما يُستفاد منه في إخفاء العيوب والتشوهات، كخلو منطقة من الشعر أو ظهور بقع البهاق، ويعتقد بعض القبائل أن الندوب التي تخلفها خدوش الوشم تُخرج السموم الداخلية من الجسم وتُقوي الأعصاب الداخلية، فهو علاج من أمراض العيون والرأس والصداع، لذا يُدق موضع الألم من كبار السن أو سيدة القبيلة تيمُّناً وتبرُّكاً بهم، كما يوضع للغرض ذاته في أعلى الصدغ وفوق الجبهة وحول الركبتين أو على الكتف والظهر"، وهذا ما جاء في دراسة بعنوان "تشظي المعنى في رموز الوشم: من سوسيولوجيا الجسد إلى سيميولوجيا الوشم" للباحثة نسيمة طايلب[4].
تمييز العبيد
-
تحوّل الوشم في البلدان العربية إلى صيغة جديدة من صيغ التعبير عن الهوية والتأكيد على التحرر
ارتبط الوشم أيضاً بتمييز العبيد، حيث كان يُستخدم كإشارة للملكية. إذ يوشم العبيد بعلامات سادتهم، وذلك كما ذكر الباحث، موراي جوردون Murray Gordon في كتابه "الرق في العالم العربي" (Slavery in the Arab World) ضمن فصل "وسوم العبيد وطرق تمييزهم" وفيه يقول: "لعبت العلامات الجسدية مثل الوشم، والكيّ بالنار، دوراً في تمييز العبيد في التاريخ العربي، سواء لغرض تحديد الهوية، أم لمنع الهروب، أم لإثبات الملكية. ففي العصر الجاهلي كان بعض القبائل العربية يضع علامات على العبيد لتمييزهم عن الأحرار، خاصةً أولئك الذين يُباعون في الأسواق كسوق عكاظ وسوق حباشة، في حين أن العبيد الأفارقة الزنوج أو السبايا الأوروبيات فكانوا يوسمون برموز تشير إلى أصولهم ومالكيهم. وفي حين أن الإسلام نهى عن الوشم بشكل عام، لكن هذا النهي كان موجهاً للمسلمين الأحرار، بينما استمر بعض التجار في وسم العبيد الذين جُلبوا من الحروب مثل سبي فارس والروم، واستمر بعض من ذلك في العصر الأموي والعباسي"[5].
في عصرنا الحالي بات الوشم يحمل دلالات مختلفة عما كان عليه في الأزمنة السابقة، فعلى الرغم من استمرار الوشم بالحناء في طقوس الزواج في أكثر من بلد عربي، لتزيين العروس وقريباتها وصديقاتها، وأيضاً استمراره كرمزية للانتماء إلى بعض القبائل والعشائر البدوية، إلا أنه مع العولمة وانتشار ثقافة الوشم الغربية، تحوّل الوشم في البلدان العربية إلى صيغة جديدة من صيغ التعبير عن الهوية، والتأكيد على التحرر من القيود الاجتماعية، لا سيما لدى الفتيات. بمعنى أن الموضوع لم يعد تزيينياً جمالياً فقط، بل انتقل إلى كونه تمرُّداً على السائد، وتعبيراً عن قوة الشخصية وثوريتها، لا سيما إن كان الوشم متماهياً مع تفكير صاحبه الذي يعتبر أن ذاك الوشم سواء أكان صغيراً أم ممتداً على مساحة كبيرة، ما هو إلا إمعان في السيطرة على آلام الجسد، أو بمعنى آخر هو رسم بالدم من أجل التأكيد على فكرة أو حفظ ذكرى، وفي ذلك تناغم مع رأي زرادشت بأن أسلوب الكتابة بالدم على الجسد هو من أكثر أصناف الكتابة التي يهواها، حين قال: "اكتب بالدم وستدرك أن الدم روح".
ندوب وآلام عاطفية
-
يمثل الوشم في الثقافة العربية سجلّاً تاريخياً عن التقاليد والتحوّلات الاجتماعية
بغض النظر إن كانت تلك الوشوم تحمل مقولات أدبية أو شعارات سياسية، رموزاً كونية أو دينية أو تاريخية، زخارف نباتية أو حيوانية، وسواء نُقِشَت على أجزاء ظاهرة من الجسد أم مخفية، فإنها تحيل إلى قيم الشخص الذي يحملها ومعتقداته وتجاربه الحياتية، وهناك بعض الدراسات مثل "الوشم كنافذة إلى النفس: علم نفس فن الجلد"[6] للباحث جو بيير، يشير إلى أن الأشخاص الذين يُجاهرون بوشومهم يميلون إلى الانفتاح على التجارب الجديدة، لا سيما بعد صدمات هائلة ألمت بهم كنجاتهم من أمراض السرطان مثلاً حيث يغطون ندوب عملياتهم بالوشوم، وقد تكون دليلاً على رغبة البعض في تحويل الألم العاطفي الذي تعرضوا له إلى ألم جسدي يمكن التحكم فيه، أو لاستعادة السيطرة على الجسد.
في المقابل، هناك بعض المخاطر الاجتماعية والنفسية لمن يقرر أن يوشم جسده كرد فعل انفعالي على حادثة ما، فيشعر بالندم في ما بعد وهو ما يؤثر على تقديره لذاته، وفي بعض الأحيان يصبح الوشم وسيلة لتعويض فراغ نفسي ما ويتحول إلى هوس بتعديل الجسد ليس أكثر.
هكذا يصبح بإمكاننا أن نعيد السؤال الذي طرحه الباحث جو بيير: ما الذي يكشفه الوشم عن صاحبه حقاً؟ ويجيب: لا شيء وربما كل شيء، لكن من المؤكد أن الوشم في الثقافة العربية بقدر تخليه عن مجرد كونه رسوماً وكتابات على الجلد، بقدر ما بات بمنزلة سجلّ تاريخي عن التقاليد والتحوّلات الاجتماعية. إذ انتقل من كونه رمزاً للقبيلة وعلامةً على الرق إلى إعلان تحرري ووسيلة احتجاج، حتى أنه بات تجسيداً رمزياً للصراع بين الهوية الفردية والجماعية، كما أصبح يعكس التحوّلات العميقة التي مرت بها الشعوب العربية في مفهوم الجسد والحرية منذ ما قبل الجاهلية وحتى يومنا هذا.
[1] ص214 - كتاب المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - زينة المرأة - المكتبة الشاملة
[2] ألا يا دار عبلة بالطوي - عنترة بن شداد - الديوان
[3] ص255 - كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب - وأما ما وصفت به الرياحين - المكتبة الشاملة
[4] تشظي المعنى في رموز الوشم: من سوسيولوجيا الجسد إلى سيميولوجيا الوشم- Fragmentation of Meaning in Tattoo Symbols: from the Sociology of the Body to the Semiology of Tattoos | ASJP
[5] Slavery in the Arab world by Murray Gordon | Open Library
[6] Tattoos as Windows to the Psyche: The Psychology of Skin Art | Psychology Today