باب الزجاج

حاول دفع الباب برأسه المائل على الزجاج، لكنه أدرك أنها لحظة الوداع! شعر بارتجاف غريب في قدميه وسقط فجأة.

  • (فنسنت فان غوخ)
    (فنسنت فان غوخ)

كان يقفز على الدرجات كأنه طفل صغير عائد يلهُو على أرجوحته التي لم تقصفها القنابل. توقف في الطابق الثالث عند أحد الأبواب الزجاجية، وكعادته يقوم بمناجاة قلبه عندما يشعر بأنه تَائِهٌ. قال لنفسه بعد أن هدأت أنفاسه المُضطَرِبة فرحاً بهذا اللقاء: "إنها قريبة من هذا الباب"، حيث كان هناك صوت فتاة تتحدث عبر الهاتف، وَأَيقَنَ من أن صوتها هو الذي في الداخل. وقال وهو يستنشق الزهرة التي بين يَدَيْهِ: "وجدتها.. وجدتها .. قلبي لا يخطئ.. عظيم.. أعتقد أنها مفاجأة جميلة لأن المرأة تشعر بالفرح عند زيارة من تُحب لها لمكان عملها".

قام بدفع الباب قليلاً وقرر أن يستمع إلى صوتها قبل أن يضمها إلى صدره لأنه كان يُحب صوتها كما تُحب الأشجار صوت العصافير، ولكنه أدرك فيما بعد أن هذا القرار كان قرار خيبته، بحيث كانت تقول: "أنا لا أحب الزهور. إنها كذبة كبيرة. الزهور لا تُعمر بيتاً، ولا تحقق الأحلام. سخافة أن تشتري زهرة بعشرة قروش تعبيراً عن الحب، أنا أُحب القروش، والقروش هي التي تأتي بالزهور، هل تفهم؟ وهل أنت قادر على فعل ذلك؟". على الطرف الآخر من سماعة الهاتف قال لها المتكلم: "نعم.. نعم، أستطيع ذلك، وعلينا أن نتزوج قريباً".

شعر باضطراب غريب في صدره بعد أن سرت ضحكة صغيرة من بين شفتيها عندما قامت بإغلاق سماعة الهاتف، كأن تلك الضحكة كانت تقول له: "البشر الذين من حولك لا يعبثون بالضياع الذي بداخلك، لأن كل واحد منهم يحمل في داخله صندوقه الأسود، ويركض كل إنسان محاولاً عدم اكتشاف ذلك الصندوق من جانب الآخرين، وعليك التأكد من أن هذه الصناديق لو أصبحت معروضة للجميع، لوصل صراخ البشرية وضحكها إلى جوف الأرض من نفسها وعلى نفسها. يجب أن تحذر من هذه الصناديق وأنت تُراقب هموم المارين في الطرقات، وعليك أن تتذكر دائماً أننا وحدنا، الجنس البشري، محكومون بالهموم، وكل شيء يعيش بسلام حتى تلك الزهرة التي تحتضنها بين يديك كطفل رضيع يغفو على صدر أمه".

استند بيديه إلى الباب، بحيث لم يسعفه عقله لتحمل الصدمة، وأصبح رأسه مائلاً إلى الأمام، وتسلل الصمت إلى جسده، وتذكر أنه عندما قرر النزول من المركبة أمام المبنى شعر بحزن غريب. وهنا سأل نفسه: "هل كان هذا الحزن هو إنذاراً قبل الكارثة؟". لكنّ لشريط الذكريات رأياً آخر، بحيث بدأ استعادة ذلك المشهد لحظة مروره عبر الحاجز الذي أقامه الجنود عند مدخل المدينة وهو قادم إليها. كانت المركبة التي يستقلها تسير ببطء لفحص بطاقات الهوية، وهو ينظر من شباك المركبة نحو اليسار تماماً، وفي عقله يحاول كتابة سيناريو اللقاء. كان يطرح سؤالاً على نفسه: "هل ثيابي جميلة وأنا أُقاتل في سبيل الحب؟"، لكن طفلاً صغيراً كان يقوم ببيع المناديل للمركبات للحصول على القروش إلى جانب الحاجز انْتَشَلَ الإجابة من رأسه. كان هذا الطفل ينتعل حذاء مقطعاً من دون جوربين، وأصابع قدميه سوداء من شدة الأوساخ التي علقت عليها، والدم مع المخاط يتساقطان من أنفه بسبب حرارة الشمس التي يقف تحتها. أما عيناه فمثل جمرتين مشتعلتين داخل بئر في جوف الليل، وبشرته السمراء تنبع منها الآلام. 

قالت امرأة إلى جانبه: "الطفل لا يبكي اليوم، غريب!"، وضحك جميع الركاب حتى السائق، لكنه قال لتلك المرأة كأنه يخاطب نفسه: "ربما لم يتبقَّ لديه دموع ليأكل بها".

قفز إلى الخلف بصورة هستيرية مستغرباً أنه لم يتذكر المشهد قبل ذلك، وقال لنفسه وهو يصارع المشهد في رأسه محاولاً طرده إلى الأبد: "سأفقد عقلي.. سأفقد قلبي!، أشعر بأن سكيناً تقف في سقف فمي وترفض السقوط إلى الأسفل أو الخروج"، وأكمل يقول: "جئت هنا لشرب فنجان قهوة أمام ضحكتها، لقد كانت فكرة القدوم إلى هنا هي التي أنقذتني من غَيَابَةِ الْجُبِّ". لامست نسمات الهواء اللطيفة خديه فساورَه شعور بالحرية، كاد يبكي، لكنه استمرّ يقول والدموع تختنق: "لقد اشتريت الزهرة بعشرة قروش فعلاً، وعندما قمت بشرائها تذكرت أنني لم أشتر زهرة لها يوماً، أي لطمة تلك التي تلقيتها؟".

أدرك أن زهرته منذ هذه اللحظة ستذبل، وأن العمى هنا هو الحياة. أما الإبصار فهو الموت، وأدرك أكثر أن الحب مثل السياسة في هذا العالم يحتاج إلى الكذب في بعض الأحيان. كان يعلم بأنه ليس بارعاً في الكذب، وعاد يُخاطب نفسه: "يبدو أنه لا حب، ولا زواج إلا بنص اجتماعي"، وأكمل: "لم أستطع أن أمنحها الأمان وأنا أول الفاقدين له، لا أمان في الزهور، لا أمان في البيت، لا أمان مع رجل الشرطة، لا أمان في تصريحات المسؤولين، لا أمان في الخطب السياسية، لم نجد الأمان إلا في كلمات الشهداء".

حاول دفع الباب برأسه المائل على الزجاج، لكنه أدرك أنها لحظة الوداع! شعر بارتجاف غريب في قدميه، وسقط فجأة على درجات السلم كأن هذا السقوط الأخير أمام قدمي القسيس للاعتراف بالذنب الذي اقترفه. كان ارتطام جسده المرتجف هو الآخر يشبه ارتطام جسد الجندي في ساحة المعركة، بعد أن نفدت منه الرصاصات. كانت الدموع تتسابق من عينيه كأنها حمم تتطاير من البركان، وهنا أخذ يصرخ وهو يحتضن الزهرة على صدره، حتى كادت أضلعه تتكسر. وقال بعد أن انزلقت الفكرة إلى رأسه وتدحرجت على لسانه: "كان عليّ أن أُعطي الزهرة للطفل، أو أن أشتري منه المناديل على الأقل.. لا.. لا.. الطفل هو فقط من يستحق أن نحمل السلاح من أجله ونقاتل. إن السلاح هو العهد الذي بيننا وبينهم، فمن تركه خان".