"باولا".. حكاية الأمهات المقهورات من تشيلي... حتى فلسطين

في "باولا" قدرةٌ مدهشة تمارسها الليندي على من يقرأ روايتها. تمتصّه إليها. يصير واحداً من شُخوص الرواية. تتمازج خلاياه وأحاسيسه بكلماتها.

"يومٌ اَخرُ من الانتظار، ويوم ينقص من الأمل. 
يومٌ اَخر من الصمت، ويوم أقل من الحياة. 
الموت يمضي طليقاً في الممرات، 
ومهمتي مشاغلتُه حتى لا يجد الطريق إلى بابك".

أيُّ متعة في قراءة ذاك الحوار الإنساني الفائض بالأمومة والدفء والحب والنبل. طرفٌ يحكي، وربّما لا يمتلك القدرة إلّا على أن يحكي. وطرف لا يمتلك قدرة إلّا على أن يكون ممدَّداً في سرير مستشفىً، معلَّقاً بطَرَفِ شعرةِ رجاءٍ تتأرجَحُ بين الحياة.. والموت.

"باولا"؛ ابنة الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، والتي صارت عنواناً لواحدة من أجمل رواياتها.

باولا، التي أمضت أكثر من 7 أعوام في غيبوبة، ممدَّدةً في أحد أسِرّة المستشفى، وأمها قربها "تُشاغلُ" الموت، الذي يتربَّص بفتاتها في ممرّات المستشفى، وتَقُصّ عليها، في أثناء ذلك، سيرةَ حياتها، وسيرةَ حياة أُسرتها، وسيرةَ حزنها على ابنتها، وسيرةَ بلد اسمه تشيلي… جعلت لها عنواناً خرَج من روحها: "باولا".

"يومٌ اَخرُ من الانتظار، ويومٌ ينقص من الأمل"؛ تلخّص الليندي، في جملةٍ واحدة، في روايتها الإنسانية - السياسية - الاجتماعية، "باولا"، سيرةَ حياة كل المقهورين في هذا العالم، من اللامساواة، ومن اللاعدالة، ومن الاحتلال… ومن اللاحياة: من تشيلي بلدها، إلى عالمنا العربي، وفي قلبه فلسطين.

في "باولا" قدرةٌ مدهشة تمارسها الليندي على من يقرأ روايتها. تمتصّه إليها. يصير واحداً من شُخوص الرواية. تتمازج خلاياه وأحاسيسه بكلماتها. يسمع خلجات قلب "باولا"، وهي طريحةُ الفراش في أحد مستشفيات مدريد. ويسمع نبض دقّات إيزابيل الليندي تتضرّع كي تشفى ابنتها.

يحتار قارئ "باولا" وتُصيبه الدهشةُ: أهو يقرأ "باولا"، أَمْ بجلس قرب سرير باولا يُنصت إلى أمها، تخبرها كلَّ يوم باشتياقِها الذي لا يكفّ عن الاشتياق إليها.   

كيف تسرقنا إيزابيل الليندي هكذا إلى عالم رواياتها؟ كيف تمتلك هذا السحر؟

بينما أوراق الرواية بين يديك، وعيناكَ تتهجّآن حيناً، وتبكيان حيناً، وترتّلان حيناً هذه الأحاسيس الدافئة، التي سكبتها إيزابيل من إناء تهدّجها، وتضرّعها، كي تشفى باولا... وإذ أنتَ لستَ أنتَ!

تكتشف في "باولا" أنك، حيناً، هذا الساكنُ في بيروت، أو في أيّ عاصمة أخرى، ورواية إيزابيل التشيلية تلامسها أصابعك، وعيناك، وروحُك... ثم تكتشف، أنت نفسُك، أنك تصير، حيناً آخر، ذاك الجالسَ إلى جانب سرير باولا، تخطفه إيزابيل إلى أن يكون أحد الذين يتضرّعون بصدق معها، علّ معجزةً تُعيد باولا إلى الحياة.