بناء التعاطف في عالم ممزق

يُنظر إلى التكنولوجيا على أنها "أكبر مهدد للتعاطف في عصرنا"، رغم أنها زادت في قدرة الناس على التواصل، بما في ذلك التعاطف، إلا أنها زادت في قدرة الناس على التراشق والصراع.

  • كتاب
    كتاب "نضال من أجل الرحمة: بناء التعاطف داخل عالم ممزق".

الكتاب: نضال من أجل الرحمة: بناء التعاطف داخل عالم ممزق 

تأليف: جميل زكي. 

ترجمة: سارة الحيدان.

الناشر: الرياض، دار معنى للنشر، 2021. |

يمثل التعاطف أحد مظاهر الوجود البشري، صحيح أنه موجودة بالأساس داخل الأسرة أو الجماعة الصغيرة أو المجتمع، إلا أنه أخذ ينتشر بشكل عابر للجماعات والدول، وخاصة مع تزايد الوعي والنظر للإنسان بوصفه قيمة بذاته، أي بصرف النظر عن شكله أو لونه أو دينه أو لغته الخ. وثمة اليوم اهتمام وتعاطف وتعاضد إنساني عابر للحدود والجماعات والأفكار والخرائط والجغرافيات والسياسات، ومن ذلك مثلاً التعاطف حيال ضحايا الكوارث البيئية من زلازل وأعاصير وأوبئة أو ضحايا النزاعات والحروب.

لكن، ثمة مشكلات متزايدة أمام التعاطف والتراحم، منها ما يخص الفرد نفسه، مثل: البنى النفسية والخبرة الشخصية والتاريخية والبيئة الاجتماعية، والتحديات والتحولات والضغوط الحياتية وتأثيرات العنف والصراع؛ ومنها ما يخص أوضاع المجتمعات والدول، بالإضافة إلى تأثير التكنولوجيا ووسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي؛ ومنها ما يخص السياسات.

هل يمكن للتعاطف أن يشكل قوة اجتماعية وسياسية، تدفع لتجاوز أزمات الأفراد والجماعات، وتجاوز الصدوع والنزاعات والتحالفات والاصطفافات في العالم، وتدفع فواعل السياسة والصراع والحرب إلى أخذ الجانب الإنساني بالاعتبار في تقديراتهم وأفعالهم؟

في معنى التعاطف

"يفهم معظم الناس أن التعاطف شعور بحد ذاته، قلّ أو كثر –أنا أشعر بألمك- لكن الأمر أكثر تعقيداً. إذ تشير كلمة "التعاطف" (empathy) إلى عدة طرق نستجيب من خلالها لبعضنا البعض. ويتضمن ذلك معرفة ما يشعر به الآخرون (التعاطف الإدراكي)، ومشاركة مشاعرهم (التعاطف العاطفي أو على مستوى المشاعر)، والرغبة في تحسين تجاربهم (الاهتمام التعاطفي)". ص17.

"إن أهم دور للتعاطف هو تحفيز الرحمة في النفس الإنسانية لنميل لمساعدة بعضنا البعض، حتى وإن استهلك ذلك منا الكثير. ولربما تكون الرحمة ترفاً لكونها المهارة الأكثر عذوبة في هذا العالم القاسي. وقد حار في تفسيرها [تشارلز] داروين. فوفقاً لنظرية الانتقاء الطبيعي، يجب على الكائنات الحية أن تحمي نفسها قبل أي شيء آخر. ولم تكن مساعدة الآخرين ضمن هذه المعادلة، وخاصة عندما نخاطر بأنفسنا في تقديم المساعدة". ص18.

يصح ذلك في التفاعل بين الأجناس المختلفة، إن أمكن التعبير، أما التعاطف لدى أبناء الجنس نفسه، فهو موضوع آخر، ويتعلق الأمر مثلاً، بسلوك الحيوان والإنسان حيال مولوده وحيال أبناء جنسه أو جماعته الصغيرة أو الكبيرة. لكنه يظهر تأثراً بما يحدث له واندفاعاً لمساعدته. وثمة دراسات تظهر سلوكاً تعاطفياً في عالم الحيوان.

انتشار التعاطف

الرُّحماء عادة ما يبدون استعداداً للتفاعل والمساعدة والاهتمام بشكل أكبر من غيرهم، يخصصون المزيد من المال والوقت، مقارنة بأقرانهم. ثمة مبالغ مالية تقدر بمئات مليارات الدولارات يخصصها أفراد وجماعات حول العالم من أجل أعمال الإغاثة والمساعدات الغذائية والطبية والحماية الاجتماعية وغيرها. ويزداد حضور الفواعل والشبكات غير الرسمية والأهلية في أعمال الإغاثة والدعم الاجتماعي والتنموي بالاعتماد على تبرعات وإسهامات أفراد وجماعات محلية أو عابرة للحدود انطلاقاً من الاهتمام والتعاطف والتراحم والمساعدة.   

"لقد صَعَّبَ العالمُ الحديث من مهمة الرحمة. وقطعت الإنسانية عام 2007 شوطاً ملحوظاً في هذه المهمة؛ فلأول مرة كان عدد الناس يعيشون في المدينة أكثر من خارجها. وبحلول عام 2050 سيكون ثلث جنسنا حضرياً. لكن انعزالنا يتزايد". وثمة عدد متزايد من الناس يعيشون منفردين، 30 بالمئة من البريطانيين. أكثر من 50 بالمئة من الفرنسيين، وأكثر من 90 بالمئة في أجزاء من مدن أميركية مثل مانهاتن ولوس أنجلوس. ص21.

هذا يضيّق الفرصة أمام التواصل والتعارف، ومعرفة الأفراد ببعضهم؛ صحيح ثمة فضاءات للتفاعل، مثل الأسواق والنوادي ودور السينما والمراكز الدينية والمهرجانات الاحتفالية الخ، إلا أنها لا تحقق ذلك بشكل مناسب. ولاحظ علماء النفس الذين جمعوا بينات خلال عدة عقود أن التعاطف بين الناس تضاءل بصورة مضطردة، وخاصة في القرن الحادي والعشرين، "فالشخص العادي الذي يعيش عام 2009 أقل تعاطفاً بنسبة 75 بالمئة ممن عاشوا عام 1979". ص22.

سوريا واليمن

يتحدث الكتاب عن مأساة غرق الطفل السوري المعروف بـ"آلان الكردي" على شواطئ المتوسط، قائلاً: إن صورته أثارت تعاطفاً كبيراً حول العالم. وتدفقت تبرعات كثيرة على الجمعيات الخاصة باللاجئين، لكن الأمور تراجعت بسرعة مثلما ارتفعت بسرعة. ص 22.  صحيح أن ثمة ضحايا كثيرين في الحرب، لكن ثمة مفارقة هنا، يقول: "وُجدت دراسات مخبرية [تقول] إن باستطاعة الناس التعبير عن تعاطفهم مع ضحية واحدة، أكثر مما لو كانوا ثمانية أشخاص، أو عشرة، أو مئات". ص22.

"لقد كان من المنطقي أن يتعاطف أسلافنا مع شخص في وقت ما، لكن هذه الغريزة نفسها تخوننا الآن. نحن منشغلون بتصوير المعاناة؛ فقد توفي مئات الآلاف في زلزال هايتي 2010؛ وبينما أكتب هذه العبارة، هناك ثمانية ملايين شخص في اليمن لا يعلمون من أين ستأتي وجبتهم التالية. تتركنا هذه الأرقام بحالة اندهاش، لكنها تفقدنا الإحساس في النهاية. إن ثقل وطأتها يجعل عواطفنا منهارة". ص23.

تفسير التعاطف

تختلف تقديرات علماء النفس والأعصاب والفلاسفة في تفسير التعاطف، وثمة من يعده خصلة أو خصيصة أصلية أو غريزية، أو انعكاسية وتلقائية في الإنسان. ص26. وثمة من يعده موقفاً أو سلوكاً يتأثر بخبرات الأشخاص وتطلعاتهم، ص37. ويمكن تنميته بالممارسة، ونصبح بذلك أكثر تراحماً.  

يتأثر تعاطف الأفراد بظروف مثل: العيش في ظروف مناسبة، وتطور المعارف والخبرات، وأوضاع المجتمعات التي شهدت أزمات ممتدة وحروباً، وتعيش صدمات وتمزقات الهوية والثقة والتفاعل الاجتماعي، وتقديرات الأفراد الذين خرجوا من خبرات وتجارب قاسية، وطبيعة التعليم ونظم القيم. ص49. 

يقول عالم النفس بول بلوم في كتابه "ضد التعاطف: مسألة التراحم العقلاني": إن النطاق الضيق للتعاطف، وخصوصيته فضلاً عن كونه بعيداً عن المنطق، يعني أنه سيقع تحت تأثير ما يستحوذ على اهتمامنا، وأفضلياتنا العرقية وما إلى ذلك". وبالتالي فقد حكم عليه "بأن يكون متحيزاً، قصير النظر، غير مناسب للعالم الحديث". ص 51. وهكذا، فإننا "إذا فكرنا بشكل مختلف، سنختار أن نشعر بشكل مختلف". ص 51. 

إن مشاعر التعاطف "يمكنها أن تحدث تلقائياً، "لكن في كثير من الأحيان، نحن نختار أو نتجنب ذلك استناداً إلى كونها مفيدة لنا أم لا". ص 51. و"هناك أسباب منطقية لاختيار التعاطف. أولها أنك ستشعر بالتحسن لأن العواطف الإيجابية معدية. فنحن نسمو بسبب السعادة الموجودة حولنا، ... يغذي التعاطف أيضاً حاجتنا للعلاقات". ص 52.

"عندما يتوجب على الناس إثبات نواياهم الأخلاقية يتحولون إلى الأعمال العاطفية، فالأفراد أكثر سخاء أمام العامة مقارنة بسخائهم بشكل خاص، كما أنهم يتصرفون بشكل ودي أيضاً ليقنعوا أنفسهم بأنهم صالحون". ص53. بيد أن هناك أسباباً للتهرب من التعاطف. إذ يكون التعاطف ثقيلاً ونتجنبه بقوة أكبر "حينما يصبح وقتنا ومالنا الخاص على المحك". ص53. 

"عندما يتطور التعاطف، سينخرط البشر في علاقات مقربة. ونحن نملك السبب لنهتم بكل شخص نراه تقريباً. فهذه القوى هي التي تدفعنا نحو التعاطف وتجعله أكثر سهولة. أما ونحن الآن منعزلون، مضغوطون، وغارقون في عداواتنا، فقد امتلكنا الأسباب الكافية لتجنّب التعاطف أكثر من السابق بكثير". ص 54.

يتحدث الكتاب عن أهمية التدريب والتمرين على التعاطف، و"أن ندفع الناس إلى التفكير ببعضهم البعض"، ص58. يضيف: إن المهم ليس تنمية التعاطف فحسب، وإنما حث الناس على المكوث هناك، وتقوية نزعة دائمة. إن التعاطف المؤقت أو اللحظي لا يتحول إلى قوة اجتماعية وإنسانية. لكن، "هل هناك طريقة لا تتطلب مجهوداً وتشجع على بناء تعاطف دائم؟ ربما إذا تمكنا من تغيير معتقدات الناس"، ص63، بحيث يكونون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر انفتاحاً على العالم من حولهم. 

الكراهية في مواجهة التواصل

"تنمو الكراهية داخل كل نظام معقد وغير مفهوم بصورة جيدة. وإن من يرتكبون العنف على أساس عرقي أو ديني أو بناء على الهوية الجنسية، هم شباب ذكور يعانون من انعدام التواؤم مع أوضاعهم. ويظهر لديهم خلل اقتصادي؛ حيث يزيد معدل البطالة من جرائم الكراهية". ص 66.

"إن تجريد الناس من إنسانيتهم يقضي على التعاطف، وفي أبسط مستوياته". ص70. كما أن الصراعات تقلب ميزان التعاطف، ليس الصراعات الكبرى فحسب، أي المواجهات والحروب فحسب، وإنما المباريات والمنافسات الرياضية والفنية وغيرها أيضاً. 

تلاحظ اختبارات علم الأعصاب تغيراً في الاستجابة العصبية داخل الدماغ لمشاهد عنف، ما إن يتم إعلام الملاحظ أن الذي يتعرض للعنف هو من خلفية معينة. ص70. بالإضافة إلى "عجزنا عن التعاطف مع من لا نعرفهم، ولا نهتم بالغرباء عنا، ما يجعلنا متحاملين بدرجة ما على بعضنا البعض". ص70. 

والآن، هل إن معرفة الأفراد والجماعات ببعضهم يخفف من الكراهية؟ الجواب شبه المستقر هو نعم، لكن يمكن أن يحدث العكس، وخاصة في حالات المنافسة على الموارد أو الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الخ. ص 71-75. 

يقول الكاتب: "حتى وإن كانت القسوة خياراً ذكياً في الحرب، ستبقى خياراً سيئاً للوصول إلى السلام. لكن التواصل يعالج هذا الأمر عبر منح الناس أسباباً للاهتمام بالغرباء. إن الطبيعة الإنسانية تتوق إلى التواصل وتجتهد في إبقاء الروابط الاجتماعية حية وقوية". ص 76. والتعاطف يسهم في تعزيز الروابط أو هو على الأقل يخفف من الاستقطاب. وهذا ما تظهره مثلاً الدراسات والاستطلاعات والمسوح الاجتماعية والنفسية في إيرلندا الشمالية حول التفاعلات بين البروتستانت والكاثوليك.

المخيلة والشعور بالآخرين

تظهر الأبحاث أن "من يستطيعون تصور مستقبلهم بوضوح، يتصرفون عادة بشكل حكيم". ص84. و"يمكن للصراع والكراهية أن يستنزفا مخيلتنا تماماً". ص84. وبعد سنوات من الحرب يكون من الصعب على الأطراف أن يتخيلوا أنفسهم معاً. 

"إن الخيال هو بوابة التعاطف، حيث يحفزنا على الشعور بالآخرين عندما يكون الاهتمام في العالم الحقيقي بالغ التعقيد والصعوبة، أو مؤلماً بكل بساطة. ولهذا السبب يمكن للخيال أن يعيد العلاقات بين الناس عندما يبدو ذلك مستحيلاً". ص95. لكن مرة أخرى، قد يحدث العكس، الحديث هنا هو عن إثارة دوافع مخيالية والتأثير والإيحاء وحتى الدفع الصريح للعنف بين الجماعات داخل المجتمعات، كما حدث في رواندا مثلاً. ص 95-98. 

ضد التعاطف!

لاحظ عام النفس دان باتسون أن الحث على التعاطف يجعل الأفراد أكثر تعاطفاً بالفعل. ذلك أن البيئة تؤثر بشكل كبير، على أفكار واتجاهات وتفضيلات الأشخاص، ومن ذلك التعاطف أو الكراهية. ص131. يقول الكاتب: "تتعارض العديد من تياراتنا الثقافية الحالية مع التعاطف. فقد تعلمنا أن النجاح يتطلب منافسة وقسوة في بعض الأحيان". كما أن المخاطر المتزايدة في الأعمال والعيش تدفع الأشخاص والمؤسسات لتدبير سبل الأمن والحماية بشكل أكبر.

أصبحت بيئة العمل لقطاع مثل الشرطة بالغة التعقيد والخطورة، الكثير من القوانين المقيدة، والكثير من الصلاحيات أيضاً، كيف يمكن الموازنة بين هذا وذاك؟ لا شك أن ذلك يمثل تحدياً كبيراً للتراحم والتعاطف في مجتمعات اليوم. يتم تدريب الشرطة والأمن على اتخاذ قرارات واستجابات سريعة، السرعة ضرورية وإلا كانوا هم والمجتمع في خطر، لكنها تمثل خطراً بحد ذاتها، إذا ما كانت التقديرات خاطئة. 

التدريب على التعاطف أمر مهم، وظهر في دراسات حديثة أن ضباط الشرطة الذين تلقوا تدريباً على التعاطف وإرشاداً حول الأمراض والدوافع النفسية، كانوا أقل ميلاً للعنف، أكثر تقديراً للجوانب النفسية والظروف المحيطة للأفراد الذين يتعاملون معهم. وبالتالي زادت نسبة إحالة المتهمين إلى المشافي والمصحات النفسية عنها إلى مراكز الاعتقال أو السجون. ص143.

عالم رقمي ذو حدين

يُنظر إلى التكنولوجيا على أنها "أكبر مهدد للتعاطف في عصرنا"، ص156. صحيح أن التكنولوجيا زادت في قدرة الناس على التواصل، بما في ذلك التعاطف، إلا أنها زادت في قدرة الناس على التراشق والصراع، ومثلما أنها أزالت جدراناً أمام اتصال الناس، فإنها رفعت جدراناً فيما بينهم أيضاً، وهاتان ديناميتان متعاكستان، ولكل منهما أثره على التعاطف والتفاعل النفسي بين الناس.

يقول الكاتب: "حينما ننسحب من اللقاء وجهاً لوجه مع الآخرين، نكون بذلك قد تجاهلنا أفضل تدريب على التعاطف الطبيعي". ص157. ويتساءل: هل قللت التكنولوجيا من قدرة الناس على التواصل؟ يجيب: "من الصعوبة الجزم بذلك". ص157. ويضيف: "انخفض معدل التعاطف على مدار ثلاثين سنة مضت، بينما ارتفع معدل استخدام التكنولوجيا".

"لكن حقيقة حدوث أمرين بالتصاحب، لا يعني أن أحدهما نتاج للآخر. مع ذلك هناك ارتباطات مزعجة، إذ ينخفض معدل التعاطف في الدول التي يستخدم فيها الانترنت بشكل كبير، كما يواجه الأفراد الذين يقضون وقتاً أطول نسبياً على الانترنت، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات الألعاب، صعوبة في فهم مشاعر الآخرين. وعندما يقرأ الناس كلمات بعضهم البعض، يصبحون أكثر قابلية لتجريدهم من إنسانيتهم-خاصة إذا كانوا لا يتفقون معهم". ص 158.

"نحن نسعى إلى الحقائق التي تدعم ما نؤمن به مسبقاً، وندمج أنفسنا في بيئات تشابه تفكيرنا. نحن أيضاً ننجذب إلى القصص التي تثبت لنا بشكل عاطفي أن استخدام التعاطف يظهر أننا على حق طوال الوقت". ص158.

"يبدو التأثير متماثلاً بشكل غريب. حيث يشعر القارئ بالسقم، والحزن، والغضب –وكل هذا بناء على تعاطفهم مع الضحايا- لكن ضحايا كل جانب هم مجرمون بالنسبة إلى الطرف الآخر، وبالطبع لسنا بحاجة إلى الانترنت لنخلق هذا التأثير". ص 158.

في العالم اليوم، "حينما تنقر على وسم #اكتئاب في تطبيق انستغرام ستنهال عليك أكثر من ثلاثة عشر مليون نتيجة، وعندما تدرج وسم #انتحار سنجد ما يقارب سبعة ملايين نتيجة. .. في أي لحظة يمكن أن تعثر على تيار لا نهائي من البؤس" في عالم وسائط التواصل الاجتماعي ص 175.  

مستقبل التعاطف

"ان تعاطفنا هو الإرث الذي نتركه للأجيال القادمة، إلى أبنائنا المجبرين على أن يعيشوا في العالم الذي خلَّفناه لهم". ص179. والآن: "كيف نكون آباء جديرين بهم؟". إن الحفاظ على المستقبل يتطلب توسيع نطاق التعاطف ليشمل العالم بأجمعه، ليس من حيث المكان والنطاق الجغرافي فحسب، بل والنطاق الزمني المديد أيضاً. ومن المهم النظر لتأثير كل فاعل مهما كان ذلك التأثير صغيراً أو ضعيفاً". 

كتب الفيلسوف نيك بوستروم: "إذا استثنيا الكوارث، فالأرض مهيأة للحياة مليار سنة آخر". إذا صح ذلك، "فسوف تكون الأرض موطناً لعشرة مليارات من البشر طوال تلك الفترة". ص180. يقول الكاتب: "نحن قادرون على فعل المزيد. بإمكاننا اختيار التعاطف ليشعر أحفادنا بواقعية أكبر، وتصبح رفاهيتهم أمراً مطلوباً". ص 181. و"إن بناء نوع من التعاطف يتطلب جهداً وتضحية لمن يعلم بأنه لن يُكافأ عليه. لكننا نقاتل من أجل حياتنا الأخلاقية أمام تنامي هذه القسوة والعزلة.. وكل فرد منا يملك خياراً، وسوف يسهم مجموع هذه الخيارات بصناعة المستقبل". ص 184.

الإشارات والتنبيهات

يتضمن الكتاب سرديات وقصصاً وإشارات كثيرة لدراسات في علوم النفس والسلوك والأعصاب، ما يعزز أو يعمق المنظور البحثي والعلمي لموضوعه. ويشير الكتاب بقدر أو آخر إلى أزمات تثير التعاطف، منها الأزمات في سوريا واليمن والعراق، لكنه يخفق في الإحالة إلى الأسباب التي تتطلب استجابات متعاطفة ورحيمة. وإذ يركز على الولايات المتحدة، فإنه "يسكت" عن أنها تكاد تكون السبب الرئيس لأزمات كثيرة حول العالم. 

الكتاب عميق ومهم في بابه، وهو إذ يركز على تحديات التعاطف بين الأفراد والجماعات، وينبّه إلى مخاطر التكنولوجيا والاتصال والتحولات الرقمية في العالم، والتي تثير التعاطف، مثلما تحشد للعنف والكراهية، وتباعد بين الناس، فإنه يحذر من مخاطر متزايدة عل مستقبل الإنسان. 

خاتمة

إن التعاطف مطلوب حيال ضحايا الغرب في العالم، بقدر ما هو مطلوب حيال ضحايا الفساد والتسلّط والفقر والنزاع والإرهاب والكوارث في عدد كبير من المجتمعات والدول حول العالم، ومنه مجتمعات المنطقة العربية والشرق الأوسط. 

لكن عادة ما يتم هندسة التعاطف وتكييفه ومحاولة التأثير عليه وتوجيهه لخدمة المواقف والرهانات السياسية. ومن ذلك محاولة الغرب التأثير على موجة التعاطف العالمية مع ضحايا الزلزال الذي حدث في سوريا وتركيا في أوائل شباط/فبراير 2023، لـ"احتواء" أي مكاسب سياسية محتملة لسوريا جراء ذلك التعاطف.