"بنوّة": معرض حنيني لميراث صناعي لبناني

تستعيد ليلى جبر جريديني ذكريات طفولة مع عائلة صناعية لبنانيّة، وتحيي معمل نسيج العائلة الموروث عن الأجداد.

إطلالة فنيّة جديدة للفنانة التشكيلية اللبنانية ليلى جبر جريديني (1963)، في معرض إفرادي استضافه "غاليري جانين ربيز" بعنوان "بنوّة" (Filiation)، تستعيد به ذكريات طفولة مع عائلة صناعية لبنانيّة، وتحيي معمل نسيج العائلة الموروث عن الأجداد، ولا تزال أصداء معدّاته تتردّد في ذهنها رغم مرور عقود على توقّفه عن العمل بسبب تطورات الظروف اللبنانية ابتداء من أواسط سبعينيات القرن الماضي.

في مرحلة النهوض المتعثّر للبنان بين نشوئه 1943، وبداية الانتكاسات الكبرى 1975، كانت الصناعة اللبنانية تقوم على مبادرات صناعيّين وطنيّين، تركوا على صفحات تاريخ البلد ومضات مؤمّلة في حينه، رغم ابتعاد صيغة النظام عن تشجيع الصناعة، فكان معمل "جَبْر" للنسيج، خيوطه من الصوف المصري، مفخرة للفنّانة، ربما لم تشعر بها في طفولتها، يوم كانت تزور المعمل ممسكة بيد والدها، صاحب المعمل، فتصرع الأصوات العالية للمعدات أذنيها بقوة جعلتها لا تغيب عن ذاكرتها.

الفنانة، وذكريات المعمل، وأصواته، كانت تتردّد في ذهنها بصورة دائمة، حافزها حالة حنينيّة لمجد غابر لكنّه مُتخيّلٌ، وممكن بالنسبة للفنانة، متسائلة كيف يمكن أن نحيي هذا المعمل، ونبقي القيمة التي اكتنزها يوم كان لا يزال البلد يؤمّل بالعزّ؟ أسئلة تطرحها الفنانة جبر على نفسها في حديثها مع "الميادين الثقافية"، مردفة "الفكرة طالما راودتني، وتردّدت في ذهني، وفكّرت أن أستعيد مجداً أحببته، ولا أزال أسمع الأصوات الهادرة فيه".

غريب أمر الفنانين. كأن الفن لديهم ليس تحدّي إبداع فحسب، بل تحدّي خَلْق رغم بساطة السلاح: ريشة، وبضعة أصابع تلوين، وأنامل لا تتعب، وأفكار تتوارد بلا هوادة يجعل الفنان منها ما يشاء، ويقينه أنه أعطاها من روحه حياة، ومن قدرته الفنية كياناً حقيقيّاً، مقتنعاً أن بين حقيقة الأشياء، ومتخيّلاتها مجرّد خيط رفيع. 

بهذه الروحيّة أنارت ألوان لوحات الفنانة جبر جدران الغاليري، وتألّقت فيه مزدانة بشتى الألوان والمواد، منها ما هو رسم، ومنها ما هو تركيب من قماش، وبعض معدّات موروثة من المصنع الذي بات مجرّد مبنىً خالٍ من معداته، إلا ما هو بسيط يمكن حفظه في البيت كــــ "المكّوك" بأعداد وافرة منه كافية لتوليد عمل فني يخلّد ما تبقّى من المعمل.

تذهب المخيّلة بالفنان أبعاداً بلا حدود. طموحه بالتألّق أكبر من أن يوقفه تطوّر الزمن، إن كان التطور سلبيّاً، أم إيجابيّاً. لا يتردّد بالتفكير حتى ولو بالمعجزة، باحثاً عنها، وساعياً لتحقيقها. مسعاه تحدٍّ مهما بلغ من صعوبة، وتعذّر، لكنه يجعله ممكناً بقدرته وإيمانه على الخلق.

في زمن انتفى فيه غزل الصوف الذي كانت النساء يغزلنه بمغزال يدوي، سعت جبر لتأمين من يصنع رُقَع اللوحات لها من صوف، رمزاً لما كان يتولّاه المصنع بمعداته الضخمة. فتكوّن قسم كبير من لوحات المعرض من رقع قماش مغزولة من الصوف، قامت بتلفيقها بخيوط أخرى، تعطي اللوحة حركة جديدة، وأشكالاً تفصيلية متنوّعة.

"لطالما استخدمت الخيوط في أعمالي السابقة، فكان من البديهي أن تأخذ الخيوط مكانتها في موضوع يقوم على الخيوط أي النسيج"، تقول جبر.

لوحات

لوحات أخرى مرسومة بالزيتي على كانفا، تجسّد مبنى المعمل بما لا يزال قائماً حتى اليوم في إحدى ضواحي العاصمة. لوحات أخرى مزجت الأكريليك مع خيوط الصوف على الكانفا، بتوزيعة متقنة وجميلة، لا تشي بالمصنع مباشرة، لكنها تؤشّر على ما كان عليه، وما كان دوره، محيِيَةً بعضاً منه في لوحة "قرميد" (Brick) يطغى عليها اللون الأحمر القاني القرميدي.

"لمحة للمستقبل" تشكيل من ألوان وخيوط يطغى عليها الأزرق بمستويات متعددة، بآفاق متنوّعة، كأنها أمام البحر الذي يجد الإنسان فيه توق حرية تقول جبر إنها "تبحث عنها بصورة دائمة".

"أنا من الداخل" (Me Inside) ذروة اندماج بين الذات والحنين، بين المصنع كصورة، والمصنع المختلج في داخلها بأشكال متمدّدة من الخيوط المتناقضة الألوان، بين الأزرق والبيج، بلعبة تناوب اللون والخيوط، تجسّد رؤية المصنع من الداخل كما لا يزال مرتسماً في خيال الفنانة.

مجموعة من اللوحات الصغيرة المزدوجة، واحدتها عكس الثانية (negative)، منها "الفرسان الأربعة"، و"مدى"، و"الموقدة"، وهي أكريليك على كانفا، ثم "أيادٍ متّصلة"، و"تماوج"، و"بينوكيو"، و"عيون"، و"أخضر"، و"تقاطع"، وهي من خيوط الصوف والقطن على كانفا.

بعض اللوحات التعبيرية مستعارة من عمل صناعة النسيج، وهي "الأيدي الغازلة" (Weaving Hands)، و"أيدٍ متّصلة" (Connecting Hands)، من خيوط صوف على كانفا.

أعمال أخرى تشير إلى أجزاء من المصنع، مثل إطار الغزل اليدوي التابعة للنول بعنوان (Fabric Weaving)، و"شجرة العائلة" من خيوط وأخشاب مهملة من المصنع، و"روابط عائلية" من مجموعة من قطع المكّوك مع خيوط صوف. يضاف إليها 4 لوحات بعنوان "Kilim" بحجم كبير من الصوف من نسيج إيوان مكتبي.

الفنانة

ألوان الفنانة طبيعية، لا يدخل فيها اللون الصناعي- الكيميائي، تميل بغالبها إلى الألوان الفاتحة، البرّاقة، التي تقول جبر إنها "ألواني المفضّلة في ظروف صعبة نمرّ بها، وعلينا البحث بداخلنا عما يبعث على الفرح والتفاؤل، ولا نستطيع الاعتماد على واقعنا".

المعرض متعدّد الوسائط الفنية، والعديد من اللوحات يقوم على التجهيز والتركيب والوصل، إضافة إلى الرسم،يتردّد ذلك في اختصاصاتها الفنية المتعدّدة بداية في "التصميم الغرافيكي"، نالت شهادته من معهد باريسي (ESAG)، واختصاص آخر (Communications Design) من "معهد التصميم الجديد" في نيويورك، إضافة لمتابعتها دراسة العلوم الاجتماعية والإنثروبولوجية في "السوربون" بفرنسا، وعملت لسنوات في مجال التصميم في فرنسا وأميركا.

“بنوّة" الحالي هو المعرض الإفرادي الثالث لها مع "غاليري ربيز"، إضافة إلى مشاركتها في عدد من المعارض المشتركة، كما شاركت في العديد من المعارض في لندن، وباريس، وبيروت، ونالت جائزة لجنة التحكيم من "صالون الخريف" من متحف سرسق سنة 2012، ولها منحوتات في متحف سرسق الدائم منذ إعادة افتتاحه.