تأثير الجغرافيا على السياسة

يبحث كتاب "الدولة المعاصر" الأوراسية"، السابقة في تشكلها على الحقبة السوفياتية، والعقيدة المؤسسة عليها، التي ترى في روسيا "تكويناً حضارياً مميّزاً تُحدده خاصية التوسط".

  • كتاب الدولة المعاصرة في دوامة العولمة
    كتاب الدولة المعاصرة في دوامة العولمة

يبدأ الباحث الجغرافي الدكتور معين حداد كتابه "الدولة المعاصرة في دوامة العولمة: مفاعيل العلاقة بين الجغرافيا والسياسة على المستويات الدولية والمحلية والإقليمية"، من المشهد العالمي الراهن، الحرب الروسية – الأوكرانية ليؤكد على تداخل شؤون الكرة الأرضية وتشعباتها وأثرها في معيشة السكان اليومية، وذلك بخلاف الحربين الكونيتيّن المحصورة في أراض محددة. وهذا  التعالق من تداعيات "العولمة الإدماجية التي ربطت مصائر الشعوب على نحو وثيق، ولم تتمكن في محاولاتها الدؤوبة من الغاء دور الدولة المعاصرة، الموروثة من النموذج المتشّكل بعد معاهدة وستفاليا في العام 1648 في أوروبا، إثر الحروب الدينية الطويلة. 

العولمة والدولة

وقد شهدنا على مدى عقود التوتر بين نموذج الدولة من جهة، والعولمة من جهة أخرى، الطامحة الى وراثة بعض وظائفها والإطاحة ببعضها الآخر. وأفضت هذه المواجهة الى مزيد من النزاع، ولا سيّما حول الأراضي، ما أبرزته جلياً الحرب المُستعرة بين موسكو وكييف.

ما يرومه د. حداد هو "مقاربة الشأن الجغرافي أبستمولوجياً بوصفه مجالاً للنزاع السياسي في عالم معولم ينتظم وفق الدولة المعاصرة". لذا، يكرس مساحة كبيرة للبحث في العولمة، تلك الصناعة الغربية الضاغطة على العلاقات الدولية اقتصادياً وسياسياً، وحتى على العلاقات الإجتماعية والثقافية، وما أنتجته من تفاوت: شمال غني وجنوب فقير، وتبعية هذا الأخير للمركز القوي. غير أن عدداً من دول الجنوب نهضت وحققت قفزات نوعيّة في مجال النمو، وفي المقدمة الصين والهند وماليزيا وغيرها من الدول. وقاد التطور في قطاع التكنولوجيا الى اقتصاد جديد يعتمد على العناصر البشرية ذات الكفاءة، أكثر من اعتماده على العمالة كما في الصناعات التقليدية.

وقد واجهت العولمة الضاربة في عمق الجغرافيا  البشرية مقاومة أخذت شكل دعوات انطوائية، يسميها الباحث "القومية الإنطوائية" المغاير للشكل القومي الجامع، الذي تأسست عليه الدولة المعاصرة في العالم الغربي، حيث أنها دعت الى التركيز على الهوية الوطنية والإنكفاء الى داخل حدود الدولة في كافة المسائل، ما أدى لجملة من التوترات الهوياتية بين الجماعات المختلفة داخل كل بلد، والبيّان على ذلك الموقف من المسلمين ومن دينهم، وما شاع عن "رهاب الإسلام" (الإسلاموفوبيا)، ما أثر في ثقة المواطنين بقدرة الدولة على الجمع بين مواطنيها في مجتمع موحد الهوية القومية. ونجم عن ذلك أيضاً بروز "هويات جهوية" متنافسة تستمد قوتها من  الميّزات والقيّم التي تحملها جغرافية المنطقة.

وبدا أن صانعي العولمة ومحركيها باتوا في ريبة منها وفي حال من التراجع عن آثارها، وعن المبدأ الرأسمالي الأشهر في حرية التنقل، بشراً وأمولاً. وبدا الجدار العملاق الذي أنشأته الولايات المتحدة الأميركية مع المكسيك وكأنه "يُمثل الرمز المادي الأعنف لرفض ما آلت اليه العولمة من ارتدادات على صانعيها"، كما يُعبر د. حداد.

  •  كتاب
    كتاب"الجيوبوليتيكا قضايا الهوية والإنتماء" لمعين حداد

نزاع الرأسمالية "الجيوبوليتيكي" مع الدولة

يُظهر كاتب "الجيوبوليتيكا قضايا الهوية والإنتماء" (2021)، التناقض بين السلطة السياسية المُنشغلة بضبط الأراضي التابعة لها والسيطرة عليها والسلطة الرأسمالية الطامحة الى حرية الحركة. هذا، وتنيط الشركات والمؤسسات لنفسها أحياناً أدواراً جيوبوليتيكية "من حيث منازعة الدول على أراضيها"، فحركة الرأسمال، وخصوصاً في المدن يُنتج تناقضات كثيرة تأخذ صورة أحياء فقيرة وأخرى غنية، ضواحي مهمشة لا تصلها الخدمات وأخرى تتمتع بالموارد، ما يؤجج النزاع "على المكونات الجغرافية للمجال المدني"، ما يندرج  في إطار "الجيوبوليتيكا الداخلية"، بمعنى النزاع السياسي على الأراضي (بما فيها وما عليها).

"المادية الجغرافية"

بإزاء بطش العولمة، يدعو د. حداد الباحثين الماركسيين الى وضع العامل الجغرافي (المكان) في الحسبان واعادة النظر في مقولة "إن البروليتاريا لا وطن لها"، باعتبار أن نظرية "المادية التاريخية"  أقصت من مقارباتها أي فعل للجغرافيا. فانتقال المصانع من البلدان  الغربية الى أماكن في دول أخرى أقل كلفة، يضع العمال في مواجهة بعضهم بعضاً، فلا يعود شعار "يا عمال العالم اتحدوا" صالحاً للإستخدام. ويوجه الإنتباه الى محاولات بعض المفكرين بدءاً من سبعينات القرن العشرين المنصرم، لأنتاج "مادية جغرافية" (باشرها الجغرافي ديفيد هارفي)، ترى الى المجال كمادة للنظر الى جانب الطبقات الإجتماعية، فالرأسمالية لا تنتج تفاوتاً طبقياً فحسب، بل تنتج أيضاً تفاوتاً في المجالات الجغرافية: ريف/ مدينة، مركز/ أطراف...ألخ. ويبقى طموح الماركسيين، في زعمه، أن يقدم التاريخ والجغرافيا "عوناً معرفياً واستراتيجياً وازناً في مناهضة الرأسمالية المعولمة".

العقيدة "الأوراسية"

نظراً لاهتمام الباحث بالقوة التي تمنحها الجغرافيا، يدرس "الأوراسية"، السابقة في تشكلها على الحقبة السوفياتية، والعقيدة المؤسسة عليها، التي ترى في روسيا "تكويناً حضارياً مميّزاً تُحدده خاصية التوسط" (بين أوروبا وآسيا). وأعيد احياء الفكرة بعد قيام الإتحاد الروسي، على أنقاض الدولة الشيوعية، ومعروف دور المفكر الكسندر دوغين في هذا الشأن. وتنبني العقيدة على "الثنائية الجغرافية الأساسية المتمثلة بتوزع سطح الأرض على مياه البحر والمحيطات من جهة، ويابسة القارات، من جهة أخرى"، وكانت هذه الثنائية في عداء متبادل. ويبدو أن روسيا  تستلهم في سياستها الحالية في  عقد تحالفاتها كثيراً من جوانب العقيدة الأوراسية.

  الدولة، السيّادة والحدود، والموقع 

يولي الباحث أهمية كبرى لمسألة الحدود، لأنها تعبر عن الدولة وسيادتها، فحين انتشر وباء "كورونا" (كوفيد 19)، جعل من التحكم في الحدود أمراً مُلحاً، حيث قامت كل دولة في داخل حدودها  الدولية بما تراه مناسباً لها من اجراءات، الأمر الذي أدى الى كبح أواليات العولمة، النافية للحدود، ووقف حركة تنقل السلع والبشر. وقد قدمت الجائحة فرصة للدولة لتستعيد دورها في الضبط والتحكم، وفي توكيد ضرورتها.

يلاحظ د. حداد في متابعته الخطب والبيانات المتعلقة بنزاعات الشرق الأوسط التشديد على "مبدأ ممارسة السيادة على الأراضي القومية (أو الوطنية) ضمن الحدود السياسية المعترف بها دولياً"، ما يؤكد أن معاهدة وستفاليا ما تزال هي الأساس في العلاقات الدولية، حتى لتظهر النزاعات والإختلالات في العلاقات مرتبطة بخرق هذه المعاهدة. 

ويتناول د. حداد مفهوم العالم الإسلامي في بعده الجغرافي، المتمتع بموقع استراتيجي وميّزات، من بينها كونه عقدة اتصال "تتقاطع فيها العلاقات التي كانت وما زالت قائمة بين سكان القارات القديمة الثلاث"، ومشاطئته كثير من البحار (المتوسط، الأحمر، الأسود، وبحر العرب)، كما اشرافه على عدد من مضائق الملاحة الدولية. لكن هذه الأهمية الفائقة لا تترجم عملياً على الأرض، ولا تجد وزناً لها في قضايا النزاع الدولي.

  •  كتاب
    كتاب "الجغرافيا على المحك" لمعين حداد

كما يضع كاتب "الجغرافيا على المحك" (2004) "النموذج اللبناني على مشرحة البحث ليعايّن فيه "الدولة والوطن"، ويتبيّن له، بسبب الصراعات والخلافات، غياب الإرادة العامة، المعطلة للقدرة على صوغ وبلورة "هوية وطنية جامعة"، كما بدا له مشروع البناء الوطني معلقاً، بالنظر الى هشاشة البناء السياسي للدولة، رغم وجود رغبة شديدة لدى اللبنانيين في الحوار والتلاقي.