تتجاور فيها لغات وثقافات.. مكتبة "السائح": سراج تاريخي وثقافي

في مكان واحد، وبين أربعة جدران أكثر من 120 ألف عنوان كتاب.. أين؟

في مدينة طرابلس شمالي لبنان، نعبر السراي القديمة والعمارات التراثية. بين محلات البالة ومكتبات الكتب المدرسية، ندخل زقاقاً جانبياً ضيقاً. نصل إلى "مكتبة السائح" بأفقها الواسع. نجمة كواليس الأسواق الشعبية المزدحمة. تأسست عام 1972.  

تتكدس الكتب في مساحة 600 متر مربع. لا تترك للهواء متنفساً. رفوف طويلة ووارفة، كأنها هياكل الكلمات. سقوف حجرية تجاوز عمرها 120 عاماً، أشبه بأقمار تحرس هذا الكنز الذي جمعه الأب إبراهيم سروج. 

في حديثه مع "الميادين الثقافية"، يفتح سروج كتاب رحلته بابتسامة: "أنا وتجربتي ومكتبتي بين يديك". يعود الكاهن الأورثوذكسي بذاكرته. يخلع فردتي حذائه. يرتاح، ويقول: "ولدت عام 1942 في مشتى الحلو، في طرطوس. جئت إلى لبنان رضيعاً". يخبرنا سروج عن طفولته حين "كانت تستهويني المطالعة. كانت أمي ترسلني لابتياع الخضار، ويتبقى معي فرنكين أو 3 فأشتري بها كتباً عن البسطات".

حاز سروج منحةً لمتابعة دراسة اللاهوت في الولايات المتحدة ثم نال الدكتوراه في فرنسا. عاد إلى طرابلس عام 1972. سيّم كاهناً. قرر وصديقان افتتاح مكتبة في غرفة لا تتجاوز 10 أمتار مربعة. اختار اسم المكتبة تيمناً بكتاب "سائح روسي على درب الرب" الصادر عام 1865. بعد أشهر، انفصل الشركاء، فانتقل وحده من الغرفة الصغيرة إلى أخرى أكبر، ومن ثم إلى القاعة التي تحولت إلى مكتبة منذ 40 عاماً.

بلغة فصحى وصوت متوقد، يتكلم سروج كأنه يتحدث إلى نفسه: "أنا لست بائع كتب. أنا مكتبي يحب الكتب. هذا نمط عيش وبحر عشق". يخبرنا عن "عمال نظافة رفدوا المكتبة بكتب مرمية وصالحة للإستعمال". يستذكر رحلاته إلى مصر وزياراته الشهرية إلى دمشق ووراقيها. وما زال يجول على دور النشر المحلية بصفة الشاري والناشر. كما يهديه بعض الزوار عشرات الكتب. يقبلها لأن "الهدية لا ترد، بمعزل عن النوعية والجودة". 

في هذه المكتبة الشاملة، تتجاور وتتحاور كل اللغات. كتب أدب، سياسة، فلسفة، دين، قانون، اقتصاد، اجتماع، موسوعات، مجلدات، مجلات، نسخات ومخطوطات نادرة، طبعات قديمة يتيمة. يفخر سروج أنه لم يرم "كتاباً أو ورقة. أحاول دوماً خلق المساحة. لم أترددْ بتحويل جدران المرحاض إلى خزانة للكتب". يمدح الفوضى. أضفت هوية حافظت على روحية المكان والفكرة. يتبنى الفطرة والبساطة: "نحن لسنا في معرض". 

 يستكمل الرجل الثمانيني جولته مستعرضاً تاريخاً تلازم فيه عمر المكتبة مع صفحات حياته. فقد عاصر أزمات سياسية وشهد على تغيرات وصراعات اجتماعية ودينية. في الحرب اللبنانية، نجا من الموت وسط المعارك والقذائف المحيطة به. ولكن "لم يكسرْ لي زجاج ولم تسرقْ لي ورقة".  

في مطلع كانون الثاني/يناير عام 2014، إبان الأحداث المشتعلة في المدينة، استفاق لبنان على خبر إحراق مكتبة السائح. يسترجع الأب سروج ردة فعله الأولى: "كررت ما قاله النبي أيوب: الرب أعطى والرب أخذ. فنحن نملك وكأننا لا نملك". يصنف الحادثة ضمن "محاولات صب المياه في طاحونة الحرب والبغضاء". يؤكد أن "صوت العقل والوعي كان أعلى. بعد الاعتداء، تضامنت أطياف واسعة في المدينة مع الانفتاح المؤمن بالتعددية وبالإنسان وكرامته". 

رُممت المكتبة واستعاد المكان ألوانه بعد حريق قضى على نحو 25% من الكتب والمخطوطات، أبرزها مخطوطتان لابن نجيم، ومصحف مخطوط، ومجلد من أصل 3 للكولونيل تشارلز تشرشل كتبها عن إقامته في لبنان بين 1840 و 1852.

تابع الأب سروج أعماله ويومياته. لم يجر جردةً مفصلة للموجود والمفقود وسط هذا الكم الهائل. علاقته مع الكتب تنطلق من مقولته إنها "لا تتملكني ولا أنا أملكها". بمساعدة أحد أولاده أرشفت أقل من نصف محتويات المكتبة رقمياً، فيما الباقي يتوزع على الرفوف مع حروف وأرقام. يستعين الرجل الثمانيني بذاكرة الحاسوب لتلبية طلبات الزبائن، لكنه لا يتخلى عن ذاكرته الحيّة التي يستند إليها في أوقات العثرة والحيرة. 

لا ينزوي سروج في صومعة كتبه وتاريخها وخيالها، بل يخرج إلى الواقع متيقظاً. يعيشه متمرداً. ينقم على التجاوزات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة منه. لا يهادن في آرائه السياسية العروبية. يمرر يده على لحيته كأنه يعانق خريطة فلسطين المسلوبة. لا يرتدي كفوفاً في حديثه عن فساد المؤسسات الحكومية والاجتماعية والدينية. لا يصمت عن ظلم. يتخذ مما قاله النبي أيوب دستوراً: "كنت عيناً لمن لا عين له، ورجلاً لمن لا رجل له. وكنت محامياً لمن لا محامي له. وكنت أنتزع الفريسة من فم الظالم".

يسأل: "ما نفع أن نكتب ونقرأ عن الحق والباطل، ولا نفرق بينهما؟ واجبنا أن نحارب الثاني وننصر الأول. فالأفعال أصدق إنباءً من الأقوال". يطبق هذه المقولة في حكمه على شعراء وأدباء. لا يفصل رأيه بإبداعاتهم عن مواقفهم وتصرفاتهم مع الإنسان. 

يسير الأب سروج بين الممرات الضيقة ويتابع حديثه. يصل إلى الحديقة الخلفية. قطة تحرس صناديق تنتظر التصنيف والتوضيب. في هذه الواحة الكبيرة، يستكشف كتبه كأنه زائر: "أحياناً، أندهش بمضمون كتب لا أتذكر مصدرها. مثلاً، اليوم، عثرت بين هذه الأكوام على كتاب عن الماسونية لا أعرف كيف وصلني. ذيل بملاحظة تحذر الذي استعاره بأنه ملزم بإعادته وإلا سيكون عقابه الموت". 

لا يؤمن سروج بموت الكلمة ودورها. يشبّه وجوده في هذا المكان بـ"الصلاة للارتقاء. فالكلمة تبني وتطور". نسأله عن أعداد القراء. يرفع سبابته كأنه يعظ: "أنا لا أشكو الفاقة. فأنا أزن غلتي بميزان قناعتي. ولكن من دون أدنى شك، فإن الإقبال تراجع". يقصده الشباب ليسألوا عن كتب تفيدهم في دراستهم الجامعية أو لاهتماماتهم الشخصية. كما تزود المكتبة صفحات رقمية تتاجر بالكتب على مختلف أنواعها. 

 لا يفصل إبراهيم سروج أزمة المطالعة عن منظومة متكاملة تشمل هوية العصر والأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد عموماً وفي طرابلس تحديداً. مكتبات المدينة تعد على أصابع اليدين. تشكو الركود. ورغم أن معرض طرابلس للكتاب بنسخته الخمسين، بحسب المنظمين، شهد إقبالًا، إلا أنه يبقى ظرفياً وموسمياً في مدينة تنزف حبرها، وتاريخها، ومليئة بالتناقضات والخيبات.