تفكيك النخبة الحاكمة في أمريكا
لقد احتاج بناء أمريكا 300 عام من حروب الإبادة ضد الأمريكيين الأصليين "الهنود الحمر" حتى أن المؤرخين يعتبرون توسع أمريكا في القارة غزواً أكثر منه استيطاناً.
-
"تفكيك أميركا" لرضا هلال
كان توكفيل المبعوث الفرنسي إلى أمريكا في الفترة نفسها التي ابتعث فيها رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا، وبعد عودة توكفيل باشر بكتابه "الديمقراطية في أمريكا" الذي صدر في جزأين عام 1835 وعام 1840، وما أراد الإشارة إليه بقوة هو أن المجتمع الأمريكي جرى تشكيله من كل أمم العالم ومن مختلف اللغات والمعتقدات والآراء، وتوصل إلى أن "الكيمياء" التي تربط بينهم هي التزام الأمريكيين بالديمقراطية، واعتبر بأن المشاركة المدنية هي المعلم الأعظم والموحد الأكبر للأمريكيين، أما القيمة التي انبهر بها توكفيل الفرنسي في أمريكا فهي قيمة المساواة. واعتبر أن التساوي بين الأمريكيين جعل الديمقراطية التي تسود أمريكا أفضل من تلك التي تشهدها أوروبا وقتذاك، حيث كانت أوروبا تنزع نحو الأرستقراطية.
بعد نصف قرن، سيرى المفكر ميشيل فوكو من منظوره وفكره أن تفكيك أمريكا هو فهمٌ لتجربة إنسانية عقلانية في الحياة، من خلال تفكيك أفكار وسلوكيات الأمريكيين الرواد المؤسسين والسياسيين ، والكتاب والمبدعين والأفراد العاديين في ممارسة حقوقهم، التي كفلها إعلان الاستقلال في الحياة والحرية وطلب السعادة، وبمعنى أدق، تتحدد صورة أمريكا من خلال " تكنولوجيا " معينة للمجتمع يحاول فيها تشكيل الفرد وتحديد طرق معيشته والسيطرة على الأجسام والعلاقات والأفكار .
بالعودة إلى الفكر الأدبي: أوضحت لنا المدرسة الفرنسية من خلال ميشيل فوكو وجاك دريدا التفكيك بالمجال النفسي والأدبي. أما المدرسة الأمريكية فقد ركزت من خلال هارولد بلوم على الانتقال من التفكيك في النصوص الأدبية إلى مجال التجربة الإنسانية – الدينية، ومن التركيز على العنصر الجمالي في النص الأدبي إلى التركيز على العنصر الإنساني . ومن هنا يأتي الحديث في هذا الكتاب المهم على التركيز على التجربة الإنسانية، الفردية الجماعية في ممارسة الحرية والحياة في السياسة والدين والجنس .
واذا بدأنا بالولوج أكثر في فهم موضوعنا: نذكر أن آدم سميث (1722 - 1790) الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي الذي اشتهر بمقولة "دعه يمر دعه يعمل" ترسخت في صيرورة الإنسان الأمريكي نحو التعاظم،بمعنى أن التاريخ الأمريكي هو تاريخ استعمار الغرب العظيم. واتسمت الشخصية الأمريكية بروح الريادة والاستكشاف، الأمر الذي دفعها إلى الحراك الدائم للاستيلاء على الأراضي البكر واجتياح الشعوب الهندية، وبالتالي ارتبطت مسيرة الغزو – النهب صوب الغرب بفكرة الوفرة والتوسع في سباق نحو الأمام المجهول. مع التركيز على أن الأمريكي يعتمد على ذاته " وهذا ما أكده توكفيل، بأن الشخصية الأمريكية لا تدين بشيء لأحد، ولا تتوقع شيئاً من أحد، إنها تطور عادة اعتبار نفسها بمفردها فقط، وإنها لا تحتاج لأحد. إضافة إلى أنها تتميز بالمرونة والإبداع والمغامرة. تجلى ذلك في تحركها لاستكشاف الذهب في كاليفورنيا، والفضة في مونتانا، والأراضي الخصبة في الغرب.
البراغماتية الأمريكية: المصلحة، التجريب، اللاثقافية
حريّ بنا الإشارة إلى أن الحضارة الأمريكية لم تبدع أي فلسفة سوى الفلسفة البراغماتية التي أسسها ويليام جيمس، وجون ديوي تلميذه الذي أرسى دعائمها في المقام الأول على الرفض المنهجي لكل الأحكام المسبقة، وكل المنظومات الجاهزة النظرية والمكتملة. فوفقاً لويليام جيمس هي تحويل النظر بعيداً عن الأشياء الأولية كالمبادئ والنواميس والحتميات والنتائج والآثار والحقائق، وعنده أن الحقيقي هو النافع فقط في التفكير، كما أن الصحيح ليس سوى النافع في المسلك. واعتبر جون ديوي بأن النظرية لا تفيد إلا كمرشد، ولا تكون صحيحة إلا إذا أدت نتائج مثمرة. والأمريكي لا يثق بالنظرية بل بتطبيق النظرية.
وإذا أخذنا مثالاً على ذلك، بنيامين فرانكلين، فالأمريكيون ينظرون إليه على أنه الرمز الأسمى للروح الأمريكية، لأنه نجح في كل ما حاول فعله، كان يقابل الملوك والساسة ورجال التجارة والعمل على المساواة، وكان من أبرز الشخصيات في علم الفيزياء، وكان يتصف بالتواضع والتفاؤل وروح المودة وحب البحث والتفكير العلميين، وبهذه الصفات كان خلاصة للمواطن الفاضل. ترتبط فكرة البراغماتية عند الأمريكي بفكرة المصلحة، فهو لا يهتم إلا بما يمثل له مصلحة، فهو يصادق ويشارك ويعارك من له معهم مصلحة، دونما اعتبار لاتفاقه أو اختلافه معهم بالمثل والقيم الأخلاقية، فأمريكا على استعداد دائم لحماية نظم عميلة ديكتاتورية. وكذلك ترتبط شخصية الأمريكي بفكرة التجريب، وعبر عن هذه الرؤية الروائي الأميركي مارك توين بقوله: إذا كان الرجل الإنكليزي هو من يصنع الأشياء التي سبق صنعها، فإن الأمريكي يصنع الأشياء التي لم يسبق صنعها، وكذلك الأمريكي يحب الأشياء الجديدة بسبب اعتقاده بأن الأحدث قد يكون الأفضل. وأخيراً ترتبط البراغماتية عند الأميركي بفكرة اللاثقافية، فعلى الرغم من كل التقدم التكنولوجي فإن " المثقفين" لا يحظون بالتقدير الذي يحظون به في دول أقل تقدماً، ولا يحصل الأساتذة الجامعيون والباحثون بها على دخول (مداخيل) كبيرة بالمقارنة بمن لهم مهن أخرى كالطب والمحاسبة والمحاماة. ولا يغيب عن بالنا شيء مهم هو أن الشخصية الأمريكية تقدس الفرد وتعتبره ظل الله على الأرض.
تساءل توكفيل في يوم من الأيام عن الكيمياء التي تربط بين الأفراد، وأجاب بنفسه عن السؤال بأنه التزام الأمريكيين بالديمقراطية والحكم الذاتي.
رسالة أمريكا: المصير المبين
رسالتنا شريفة، وهي قضية الإنسانية: هذا ما قاله الجنرال جورج واشنطن الذي اصبح رئيساً لأميركا. وبعد 190 عاماً، قال الرئيس جون كندي بأن الأمريكيين هم الحراس على معاقل الحرية في العالم، واعتبر المستوطنون الأوائل كما قال امرسون بأن بلدهم هو المخلوق الأخير وأعظم صدقة تصدق بها الرب على العالم ، وفي عام 1845، عبّر جون أو سوليفيان عن فكرة المصير المبين، بمعنى أن الرب قدّر لأمريكا أن تقود العالم إلى الحرية. ومما قاله بأن الثورة العالمية تبتكر مجتمعاً جديداً في الولايات المتحدة الأمريكية بأمر من الرب الذي يقف بداهة إلى جانب الأمريكيين ويقول: سيكون عصر العظمة الأمريكية بلا قيد أو شرط، فالأمة المكونة من أمم قدّر لها بأن تشهد على سمو المبادئ الإلهية ستكون أرضها نصف الكرة الأرضية كاملاً.
بعد سحق الهنود الحمر كتب جورج واشنطن: لاشك عندي أبداً في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيصال خبرات التعليم والمجتمع إلى هذه العقول "عقول الهنود" الجاهلة وبناءً على هذا قادت نظرية المصير المبين إلى ضم ولاية تكساس ونيو مكسيكو وكاليفورنيا وألاسكا وهاواي ولويزيانا وفلوريدا باعتبار قد (باعتبار أن قدر) الولايات المتحدة هو أن تمتد لتشمل القارة الأمريكية:
لقد احتاج بناء أمريكا 300 عام من حروب الإبادة ضد الأمريكيين الأصليين " الهنود الحمر " حتى أن المؤرخين يعتبرون توسع أمريكا في القارة غزواً أكثر منه استيطاناً، وكانت تلك الحروب هي الأطول والأكثر دموية بين الصراعات العرقية في التاريخ، وكان تدمير السكان الأصليين هو ثمرة هذا التطور. وإذا حاولنا استنباط صورة توضح حقيقة أمريكا نحو الصراع العربي الإسرائيلي، تقول المؤرخة اليهودية "باربرا توخمان" في كتابها " الكتاب المقدس والسيف" بأن عودة اليهود إلى فلسطين تمثل عصب الإيمان البروتستانتي المبني على العهد القديم، إذ إن تنبؤات العهد القديم تتضمن بأن اليهود سوف يعودون إلى فلسطين، ثم يصبحون مسيحيين حتى وإن مات منهم كثيرون في معركة " هر مجدون" الفاصلة، ولم يبقَ منهم إلا 144 ألفاً مع المجيء الثاني للمسيح ليشملهم الخلاص في الألف عام السعيدة. وفي البروتستانتية التطهيرية " الإنجيلية " التي مثلت أهم مكونات الثقافة الشعبية الأمريكية كان الاعتقاد بأن المجيء الثاني للمسيح مرتبط بإنشاء الدولة اليهودية.
وأخيرا في هذه العجالة لا يمكننا تناول مقتطفات من كل فصل، فالكتاب ثري بالمعلومات التي توضح لنا إجابة عن أسئلة عميقة في التاريخ في رؤيتنا لهذا "الشعب الماضي" قدماً غير آبه بكل ما يجري من ظلم للبشرية، ولا رادع يقف أمام حلمه الإمبريالي.