تيريز فرنسيس تجمع ألوان الأدب بالفن التشكيلي

كل لوحات أقلام التلوين كناية عن زوايا متقاطعة، ومتداخلة، حادّة الانفتاح، مع القليل من المنحنيات الخطّيّة التي تجعل اللوحة متلائمة مع العنوان الذي اختارته الفنانة لكل لوحة.

في مبادرة متجدّدة، تجمع الأدب والفن، وتفاسير التساؤل عن الكون، والترابط بين كل هذه العناصر، أقامت الأديبة والفنانة اللبنانية تيريز فرنسيس معرضها الإفرادي الأول بعنوان "تحوّلات  تشكيلية بمستوى الكائن"، في الصالة الثقافية لدير مار فرنسيس الأسيزي في منطقة الميناء بطرابلس شمالي لبنان. 

ويحتوي المعرض على لوحات فنيّة تجريديّة بين صغيرة ومتوسطة الحجم، رسمتها الفنانة بأقلام التلوين الخشبي، وبضعة لوحات انطباعية، من زيتيّات ومائيّات.

إلّا أن الفنانة اهتمت في معرضها الأول على التشكيل اللوني بخطوط أقلام الخشب الملوّنة التي عرفها طلاب المدارس بأقلام التلوين، وكانت محبّبة على قلوب الأطفال واليافعين، وليس من المستغرب أن تكون الفنانة فرنسيس قد استعادت فيها بعضاً من طفولتها، وما تكتنزه من حنينيّة، هي خاصة بكل إنسان.

كل لوحات أقلام التلوين كناية عن زوايا متقاطعة، ومتداخلة، حادّة الانفتاح، مع القليل من المنحنيات الخطّيّة التي تجعل اللوحة متلائمة مع العنوان الذي اختارته الفنانة لكل لوحة.

للزوايا الحادة، قصتها مع الفنانة، وللعناوين قصة، وفي كليهما يتداخل عالم الفنانة الجامع بين الأدب، وفلسفة الكون، وانتماء الكائن، والتشكيل الفني، في إخراج جديد من نوعه، يربط الأدب بالفن، ويرى فيهما تلاوين الحياة، والتساؤلات التي تعبر في خلفياتها.

تروي فرنسيس أن الزوايا تعود لبداياتها الفنيّة حيث تشكّلت أولى الزوايا لديها في طفولتها مع معلمتها لمادة الرياضيات.

تقول فرنسيس إنها لا تعرف بالتحديد إن كانت الزوايا هي حبٌُّ لمعلمتها، أم لمادة الرياضيات، ولكن في كلتا الحالين، جاءت في محطة أسمتها "فقداني معنى الوجود"، والمقصود بذلك رحيل والدها وهي لمّا تزل في العاشرة من عمرها، ففقدت القوة، والنصير، والعاطفة الجيّاشة التي كانت تأتي إليها بأقلام التلوين عندما كان الوالد يريد تقديم هدية لها.

وتضيف في حديث مع "الميادين الثقافية" عن معرضها أنه "الانسجام مع الألوان، يشتغل عليه الانسان بعفوية طفوليّة، وأنا عشت طفولة جميلة"، مردفة أنه "بعد بعض الوقت من ممارسة الرسم، أشعر إنه بات عليّ التوقف، حيث أشعر أنني لم أعد قادرة على الاستمرار، لأنني سأدخل بالأسود، بعد استنزاف الألوان المنوّرة في ما جرى رسمه".

بين النورانية اللونيّة، المانحة فيضاً من الإشراق، وسعادة اللعب بالتلاوين، وبلوغ الأسود، الكابح لتلك النورانية، ثمّة صراع يختلج في عمق الفنان، ومع فرنسيس، يعود إلى صدمة فقدان الوالد لدى الطفلة، حيث لا تزال الصدمة متفاعلة، ومؤثرة في حياتها، وأعمالها، على ما يظهر في كلامها، وما تكتنزه أعمالها من خيوط، وظلال.

فرنسيس جنوبية في الأساس، من بلدة لبعا، انتقلت عائلتها إلى مدينة صور حيث كان الوالد يعمل في التدريس، وكانت فرنسيس الفنانة تتمتّع بشمس شاطىء صور الفضي، ورماله الجميلة، وعندما رحل الوالد، انقلبت حياة الطفلة، ودخلت في صراع آخر مع الحياة.

ولم يكن ينقص الفتاة وهي على أبواب الشباب، إلّا أن تصاب والدتها بمرض عضال، شلّ حركتها، فكانت المعيل الدائم لوالدتها على مدى 35 عاماً، من دون أن يمنعها ذلك من متابعة حياتها الدراسيّة، فاختارت الأدب الفرنسي، وتخرجت به من الجامعة اللبنانية في بيروت. 

لكنّ فرنسيس، عاشقة قلم التلوين، تعود إليه كلّما تاقت لزمن الطفولة الجميل، وزوايا معلمتها التي أحبّت، دفعها للتوجه من جديد إلى الجامعة اللبنانية لدراسة الفنون التشكيلية، فبدأت تتأسّس لديها حالة فنية خاصة، تجمع الألوان الكتابية الأدبيّة والشعريّة، بالألوان التشكيلية، من دون أن تستطيع الفصل بينها.

وتتفاقم حالة الدمج وتزاوج ألوان الأدب والفن بتوجه الفنانة إلى الاختصاص العالي بالأدب الفرنسي لتنال الدكتوراه به من جامعة الروح القدس- الكسليك، وتناولت فيها، كما قالت، أعمال فيكتور هوغو بالرسم والكتابات، وقد رسم بالأبيض والأسود، لكنه كتب عن الألوان ببانوراما جميلة جداً، مضيفةً أنها "وجدت الألوان في الأدب، والأسود والأبيض بالرسوم، وتأثرت بها، وكنت أراها ملوّنة". 

غادرت فرنسيس الرسم وهي تهتمّ باختصاصها العالي بالأدب الفرنسي، ويوم ناقشت رسالتها، أحضرت مسطرة، وورقة، وقلم تلوين، واسترجعت معهما شوقها الطفولي، عائدة إلى الزوايا التي كتبت فيها بعنوان "زوايا الحياة"، سردت فيها تجربتها مع اللون والزوايا، وقد عادت تمارس تداخل الألوان والخطوط بالزوايا الحادة، حيث وجدت ذاتها في هذا النمط، وتقول: "دخلت في هذا المجال، وتوقفت لفترة، ثم تذكّرت ما صنعته، فعدت إليه، وتابعت باللون، فكان هذا المعرض". 

تعود غلبة التجريد على المعرض إلى البدايات، فأول رسم لي، كما تقول، "كان بالتجريد، وتآلفت معه، وكنت، وأنا أرسم، أرى بين الخطوط محطات عشتها في حياتي، وكنت أراها في الزوايا، كما كنت أرى في الزوايا أشياء معتمة بالحياة، ويمكن ملاحظته في الظلال الغامقة في اللوحات".

وللظلّ مكانته في فلسفة فرنسيس الفنيّة، حيث وضعت بحثاً بعنوان "إدراك لون الظلال"، وهي "لا سوداء ولا بنيّة، إنما داكنة، وغصت في ذلك، فكانت الزوايا كصلة وصل"، قالت فرنسيس. 

أما عناوين اللوحات، فمنتقاة انتقاء أدبياً، متآلفاً مع التجريد، مثل: "أشرعة في مهب الريح، ظلاّن إثنان، انعتاق، حين تلتقي الأمزجة، استدعاء الفرح، حوار لوني وسواها من عناوين". 

تقول فرنسيس إنها كانت تختارها بسرعة، وأحياناً في لحظة تأمّل حيث التجريد هو لحظة كنت أعيشها، كما تقول، والعناوين موجودة في كتاب شعري تُعِدّه الفنانة وسيصدر قريبا بعنوان "رحيق الجذور"، وتنهي بالقول: "هكذا تآلفت اللوحات مع الكتاب".

تدرّس فرنسيس الفنون التشكيلية في الجامعة اللبنانية، وتجمع في عملها فلسفة تزاوج الأدب والفن والشعر بأبعاده الانسانية المختلفة، يعبّر عن ذلك عنوان أطروحتها التي تناولت فيها جوانب خاصة من أعمال فكتور هوغو: "التشكيل في أعمال فيكتور هوغو: تلوين في كتاباته (لفظي) وشبه غياب للّون في رسومه بين فن وعلم اللون"، فترجمتها في ممارستها الأدبية، والفنية، والحياتية، والمتجليّة في معرضها الفردي الأول الراهن.