ثلاث كذبات وحقيقة واحدة

كلّ داعم لإبادة الشعب الفلسطيني، هو خادم للمال العابر للقارات، موظف سياسي خلفه الشركات العملاقة، أو إنسان بسيط دوّخته الأيديولوجيا والبروباغندا الرهيبة.

  • (رويترز)
    (رويترز)

بشّروا الدنيا بعالم جميل، فأيّ جمال في شلال الدماء؟ لقد مرّغوا المفاهيم في وحل دعاياتهم، فكيف ننتشلها؟

على ضوء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد 7 أكتوبر 2023، وعلى إثر المشاهد المروّعة للإبادة الجماعية، سنُراجع دلالات بعض مفاهيم الفكر الأوروبي، من خلال عرضها على معيار الواقع، فمن رأى غير رأي هذا المقال فليكتب رداً عليه.

**

الكذبة الأولى: الديمقراطية

هذه الوديعة بدأت بقتل سقراط وانتهت بقتل الخُدّج في مستشفيات غزة، لقد بدأت بقتل الحكمة وانتهت بإفناء البراءة.

ديموس(حكم) وكراتين (الشعب)، هذا ما تفيده لفظة "الديمقراطية" في اللغة اليونانية، ولكن إذا كان الأمر كذلك فكل شعوب الغرب خرجت محتجة ضد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وجلّ الحكومات "الديمقراطية" لم تكتفِ بالصمت، بل دعمت المعتدي بالمال والعتاد والخبراء والمرتزقة، ثم حرّضت على الإبادة، وحيّدتْ القانون وعطّلتْ المنظمات الدولية "الساهرة" على الأمن العالمي.

إذاً فالحكومات "الديمقراطية" سلكت ضد شعوبها، ضد الإرادة العامة، ضد الملايين الرافضة للحرب، ولا غموض في ذلك. وما انفكت الحكومات تصدّع رؤوسنا بالديمقراطية من المسطَّح - الذي يعتقد أنه رئيس حكومة فعلاً - في بريطانيا إلى عديم الذوق ومعطوب العاطفة - في فرنسا، إلى الشيخ الذي غلبت عليه خلايا الجسم الميتة في الولايات المتحدة.

إنها حكومات ضد شعوبها، شعوب صوّتت بحضورها المليونيّ في الشوارع رفضاً للمجازر. حكومات سارعت إلى سن قوانين على نار سريعة تجرّم كل تضامن مع دم الأطفال المسفوك، وترفض الرأي الآخر، وتقمع التعبير السلمي عن الموقف، إذاً الديمقراطية كذبة، يالها من كذبة! بل أصبحت سُبَّة عندما قال سوناك: "إنها (إسرائيل) هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

ورغم ذلك لم تنتفض عليه حكومات الشرق الأوسط ولم ترفض تصريحه. لقد ضربت "الديمقراطية" بالمعنى الرسمي-الغربي بالقنابل الفتاكة مستشفيات غزة ومدارسها وقتلت آلاف الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين. يا لها من كذبة وديعة، همجية، وقاتلة هي الديمقراطية إذاً، إنها ديمقراطية ديكتاتورية (كما يبدو).

من يعترض، فليسمِّ الأشياء بمسمّياتها؛ أن يصف المجزرة ضد غزة بالإبادة الجماعية، وأن يؤكد أن هجمة الصهيونية على فلسـ.ـطين جريمة لا تربطها رابطة بالديمقراطية، آنذاك سنطلب المغفرة ونمجّد الديمقراطية بمعناها النبيل، هناك ديمقرطيتان إذاً: واحدة قاتلة ديكتاتورية، والأخرى ما تصبو إليه الشعوب حقاً، ربما.

هل يمكننا أن نعثر على نظام سياسي بديل للديمقراطية - الديكتاتورية؟ لا أعرف، ولكن يبدو أن الصدق هو سمة النظام السياسي الذي تصبو إليه النفوس السليمة، فانظر كيف أن المقاومة ربحت عواطف العالم بصدقها، يصدّقها العدو قبل الحليف. الصدق هو مطلب هذا العصر وكل العصور.

الكذبة الثانية: الحداثة

الحداثة، إنها المطية التي تعب ظهرها من بعض مثقّفي هذا الزمان، فباسمها أعلن بعض المغرضين إدانة الحق في المقاومة وتقرير المصير (لا أريد ذكر أسمائهم، لا يستحقون)، نسوا بسرعة البرق أن فلسطين محتلة ومن حق المقاومة أن تقاوم، إنها آخر استعمار سافر على وجه الأرض، وكل حديث عن الخلفيات الفكرية غداة المعركة هو تمويه وخداع يُراد به تقوية الجهة المعتدية.

لا أريد أن أوضح الواضح؛ ففلسـ.ـطين محتلة من نهرها إلى بحرها وكل مقاومة فيها مشروعة. وهؤلاء مثيرو النقاش الأيديولوجي أنفسهم يتناسون فجأة أن "إسرائيل" (دولة) دينية، مؤسسة على خطاب عنصري وإقصائي بالأساس.

حجتهم في تناسي هذه و إدانة تلك هو انبهارهم الشديد بالتطوّر التقنوي، وقد غضّوا الطرف عن معاني الموت والدمار وراء تلك التقنية. إن رقصة أصيلة في أدغال أفريقيا أكثر حضارة وتقدّماً من كل قنبلة ذكية، فالحضارة تحمل معنى الحياة، وكل حامل لمعنى الموت لا يعدو أن يكون همجية متطورة مجافية للتقدّم.

إنهم "مثقّفو القبة الحديدية" يبهرهم التطوّر التقنوي ولو كان يروم الفناء. ولا نعرف كيف انطفأت قلوبهم أمام قتل الأطفال وهدم البيوت فوق العوائل، وقصف النازحين في الشوارع، وهدم المدارس والمشافي ودور العبادة. وقد أثبت الواقع أن المقاومة أسمى خلقاً من أن تتخذ تلك المؤسسات مركزاً لها.

لم تطلق المقاومة القذائف الفعّالة فقط، بل أطلقت صليات من الأخلاق الرفيعة لا مثيل لها، اخترقت قلوب الدنيا بينما تمعن الصــهيونية في القتل البشع والمجازر التي تفوّقت على جنوح الخيال، كأنها مجموعة من القتلة المتسلسلين يمتلكون دولة وجيشاً وغطاء دولياً جعلها فوق القانون، يسرقون جثث الضحايا ويبيعونها في المزادات المظلمة.

لقد كان موقف أغلب الحكومات الغربية فاقعاً في التحريض على الإبادة الجماعية (هذه إبادة مصوّرة عكس سابقاتها)، فإذا كانت الحداثة هي مرجعهم، فلتذهب الحداثة إلى الجحيم، وإلا فحريّ بكل حداثي إدانة المجزرة وتبرئتها من الساسة المعاصرين في الغرب، ولكن بدل ذلك رأينا كيف ابتُلعت الألسن.

الكذبة الثالثة: فكر الأنــوار

"إن أول من استعمل الإرهاب في فضاء السياسة هي الدولة الفرنسية الثورية" (اقتباس من كتاب: زمن الغضب؛ تأريخ الحاضر، تأليف بانكاج ميشرا، ترجمة معاوية سعيدوني، سلسلة عالم المعرفة 505، ص61).

إذاً فالإرهاب نفسه بضاعة غربية، وقد بلغ أوجه في التوسّع الاستعماري، حيث تدشين أبشع المجازر من أجل الهيمنة على مقدّرات الشعوب.

إن الإرهاب مرفوض من كل نفس سليمة، لذلك فإدانة جرائم "داعش" المروّعة وكل التنظيمات الإرهابية تستدعي إدانة "الحركة الصهيونية"، فالمنطلقات مختلفة والنتيجة واحدة؛ قتل الأبرياء والتلذذ بفنائهم!

يا له من انحطاط. لقد تتبّعنا تصريحات بعض المثقفين "الأنواريين" من فلاسفة وأدباء وكيف برّروا المجزرة، لقد أساءوا إلى فكر الأنوار، ولربما أساءوا إلى أنفسهم منذ البداية إذا أزحنا عنهم ثوبهم الأخاذ، يقول فولتير:" إننا لم ندع أبداً تنوير صناع الأحذية والخادمات" (زمن الغضب، ص 72).

يبدو إذاً أنّ أحد أعمدة الأنوار يضع تمييزاً بين الناس وحقّهم في التنوير، وأخاله يقول: "لا نريد تنوير شعوب العالم الأخرى". "طيّب" يا سيد فولتير، إذا كانت "الأنوار" أن يطلع ماكرون ليبرّر قتل آلاف الأطفال، فلا داعي لتصديره، وصنّاع الأحذية والخادمات كانوا أصحاب موقف إنساني لا يستطيعه رئيس فرنسا بخصوص مجازر الصهيونية في فلسطين ومن دون تنوير، فقط بالفطرة السليمة الرافضة لشلال الدماء.

وكذلك الأمر بالنسبة لألمانيا، فإذا كان كانط قد حدّثنا عن مفهوم "السلام الدائم" وعن أخلاقيات خوض الحروب، فإن حكومة بلاده في الحاضر دعمت قتل الأطفال في غزة، وحرق النساء، وقطع الماء والكهرباء والتجويع الممنهج الذي باشرته "إسرائيل" منذ حصارها للقِطاع وشدّدته خلال 50 يوماً لحربها على غزة، بل سنّت الحكومة الألمانية قوانين تجرّم رفع العلم الفلسطيني، وكيّفت تهمة "معاداة السامية" مع منح الحق المطلق لــ "إسرائيل" في إبادة شعب غزة، وعملت على تدويخنا بخلط المفاهيم: فلا فرق بين "الصــهيونية" و"اليهودية" في قاموس القانون الألماني، يبدو جلياً أن ألمانيا وفي سبيل الاغتسال من ذنوب الهـولوكوست القديم سقطت في التحريض على هولوكوســت جديد ضد الشعب الفلسـ.ـطيني، كمن يعالج خطيئة بأخرى أبشع منها.

لقد جرّموا مسألة التدقيق في المفاهيم، حتى في فرنسا بلاد المفكّر الحرّ جيل دولوز الذي ركّز على أن الفكر نحت وإبداع للمفاهيم أساساً. وبذلك فالتدقيق فيها واجب. حيث يجب التأكيد أن معركة "طوفان الأقصى" لم تكن البداية، بل كانت ردة فعل على قهر طويل الأمد. يجب عدم الخلط بين كلمة "البداية" و"رد الفعل".

 الحقيقة الواحدة: الـمال سيّد العالم

يحتاج الكذب إلى توسُّع في الحديث لتعريّته، ولكن الحقيقة واضحة بذاتها لكل راغب فيها، غير مؤدلج، لكلّ منصت لحقيقة القلب حيث التعاطف مع الضحايا، ولحقيقة العقل حيث الذهول من حجم الجريمة والبحث عن دوافعها.

إن الحقيقة واضحة: كل داعم لإبادة الشعب الفلسطيني، هو خادم للمال العابر للقارات، موظف سياسي خلفه الشركات العملاقة، أو إنسان بسيط دوّخته الأيديولوجيا والبروباغندا الرهيبة.

من المؤسف جداً أن اليهود كانوا ضحايا في أوروبا إبان القرن العشرين، وقد تم خداعهم بأيديولوجيا الصهيونية فزُجّ بهم في أتون الصراع بالشرق الأوسط، إنهم ضحايا لمآرب أوروبا من جديد، ولكن الشعب الفلسطيني هو الضحية الأكبر، حيث إنّ إلغاء وجوده ومسحه من الجغرافيا والتاريخ هو هدف القوى الاستعمارية لولا فعل المقاومة الممتدة منذ 1948 إلى اليوم.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.