ثلاثة أيام وثلث

المعركة سوف تستمر وعلينا نحن بدورنا أن نستمر حتى لو قمنا ببيع مصاغ نسائنا لنشتري السلاح، إن القضية ليست قضية انتصار إنها قضية الرغبة في القتال.

  • (Marc Chagall)
    (Marc Chagall)

إستيقظ عند الساعة 3 و50 دقيقة فجراً، كان صوت المؤذن يُنذر بأن الصلاة أفضل من النوم، كانت عيناه ما تزالان متذبذبتان، وأخذ يضحك في سره ويقول: "هذا العالم لن يصحو يوماً أبداً من أجلنا، لقد أصبح الدم أقل ثمنا ًمن علبة الماء على طاولة سماسرة التاريخ"، وأكمل يقول: "كان عليك القول إن القتال أفضل من النوم، حيث هم لا ينامون أبداً، ونحن غارقون في العسل المنتهي صلاحيته تاريخياً". عفوك أيها المنادي، لم أقصد ذلك، قال تلك الكلمات وهو خائف أن يكون مراقب، لأنه يعلم أننا مراقبون منذ أن ولدنا.

كان رأسه يميل إلى يسار السرير، وقرر أن تتجه إلى اليمين دون سبب ما،  وصرخ في داخله قائلاً: "ما الفرق.. يا للعجب!، ها هم جاثمون فوق قبلتنا منذ سنين"، وهنا أدرك أن النوم لن يتكمن منه اليوم، فوضع قدميه على الأرض وما زال قلبه يعيش في دائرة الجحيم، حيث كان قلقاً لأنه قلق، قام بمشاهدة الغرفة باحثاً عن شيء يلهو به، حاول النبش بالذاكرة عن شيء يبعث بالأمل ولم ينجح، وذلك ما جعلهُ يضغط على زر الإضاءة الذي بجانبه ليطمئن قليلاً، أزاح جسده وهو ما زال جالس على السرير نحو الكتب المبعثرة على الرفوف محاولاً أيجاد شيء يقرأهُ، ولكنه منذ سنوات فقد الرغبة بالوعي.   

وفجأة وقف على قدميه وأتجه نحو الماء وتوضأ، ومن ثم صلى ولم يكن يعلم لمن!، ولكنه كان يشعر أن شيئاً ثقيلاً يجلس على ظهره، وهذا الشيء بدأ يمتد نحو رقبته، حيث كان قد جاء من أسفل قدميه المرتجفتين، وقبل ذلك كان هذا الشيء يقف خلفه منذ أن انكفىء على ذاته داخل غرفته، وهذا الشيء.. هذا الشيء الآن قابع في جوف صدره يحارب بالبحث عن مكان يجلس فيه إلى الأبد.

توقف عن صلاته التي لم يركع فيها أبداً من دون سابق إنذار، وتجرأ وسأل ذلك الشيء الذي يُكبلهُ: "ماذا تفعل هنا؟، من أنت؟"، فأجابه ذلك الشيء بكلمات كانت بمثابة قنبلة تختبئ داخل علبة الحلوى:

 - أنا الماضي!

هو: (مستغرباً..) لماذا جئت لتعيش معي؟

الماضي: أنا لم أبارح هذا المكان حتى أعود.

هو: أنا لا أفهم؟

الماضي: هل تتذكر تلك الليلة؟

هو: أي ليلة؟

الماضي: لماذا تحاول الهروب منها؟.. أنت تتذكرها جيداً

هو: لا تتعامل معي هكذا بالأحجية!

الماضي: أنت الذي تتعامل بالأحجية، لأنك دائماً تحاول الهروب مني.

هو: (يتأمل سجادة الصلاة) قل لي ما هي الليلة ودعك من ذلك، أنا لستُ بارعاً في الصبر والصلاة.. قل.. قل..

الماضي: (ساخراً) سأقول لك، أنها الليلة التي ربطوا فيها يديك وقدميك بالسلاسل، ووضعوا على عينيك قطعة قماش قد سرقوها من قميص النبي موسى، وأغلقوا فمك بالقفل وخبئوا المفتاح، وصرخوا في أذنك عند بوابة السجن قائلين: "أنت المجرم.."، تذكرتها الآن؟

أعادته تلك الكلمات إلى المكالمة التي تلقاها قبل قليل، وتذكر أن أحد الأصدقاء أخبرهُ عبر الهاتف: "الجنود يملؤون المكان.."، هذه المكالمة هي التي جعلتهُ ينهض من النوم، لقد كانت رائحته الجنود قريبة، هذه الرائحة جعلت الذكريات تنهال عليه كأنها جبل كبير بدأت تتساقط ذرات ترابه بسبب زلزال عنيف، وأدرك أكثر لماذا كان يشعر بالخوف خصوصاً عند المرور من أمام باب المنزل، وفجأة قال:" اللعنة.. هنا صلبوني، ولكنني لم أُشبه لهم، لقد كنتُ أنا، وكانوا هم، وعلى الصليب الذي بَنَوْهُ  على الهلع، والرعب كنتُ أبكي.. أبكي، ومن عليه ذهبوا بي إلى حتفي لأنني إنسان".

تنهد بشكلٍ مسموع وهو ما زال واقفاً، حيث أنه لم يسجد أبداً، وهنا ضحك الماضي عليه وقال لهُ: أنت لست جبان، ولكن ما زلت خائفاً من القيد.

هو: صدقت!، ولذلك عليا أن أتحرر منك.

الماضي: غبي!.. غبي!

هو: لا تلفظ الحماقات وأنت تتكلم.

الماضي: (متعجباً) الحماقات!، أن أكبر حماقة هي وجودهم بداخلك، كان عليك كسر القفل..

هو: أرجوك كف عن ذلك، واغرب إلى جحرك.

الماضي: عليك أن تتقبل اولاً ذلك.

هو: أنا لا أفهم.. لا أفهم كل ما تقول!

الماضي: (صارخاً) هم.. هم.. تحرر منهم.

اكتشف عندما ارتطمت الكلمات الأخيرة بالجدران أنه يُحدث نفسه، وهذا ما جعل صدى الكلمات يُثير الرعب في جسده فسقط على سجادة الصلاة مستسلماً، وبدأ الصمت يقاوم رنين الإبرة على الأرض، وأخذ الصمت يتسلل إليه من بين مخالب الهزيمة، واستمر مرتطماً بالحقيقة مرتمياً على الأرض حتى انفجر بالبكاء، ولكنه أدرك أن ليس من حقه البقاء على هذه الحال، فقرر النهوض وترميم هذه الليلة، فجلس على الكرسي وأمسك القلم وبدأ بالكتابة على الورق:

"الحرية لا تحتاج إلى الدم، بل تحتاج إلى القتال، الدم لن نستطيع أن نقدمه لأطفالنا بدلاً من الحليب عندما يبدؤون بالبكاء، والزرع لا نستطيع هو الآخر أن نرويه بالدم فهو يحتاج إلى الماء، وأيضاً لا يمكن أن نقدم الدم للجائعين بدلاً من الخبز، والشاة والخيول لن ترتوي بالدم بل تحتاج إلى المرعى والماء، وخصوصاً الخيول لأنها هي التي سوف تقاتل معنا،  إذاً نحن نحتاج إلى الرجال التي تحارب من أجل الحفاظ على الدم، وعلينا إلا نخسر رجالنا في المعركة، إننا نعيش في عالم يحاصرنا دوماً ويسعى لقتلنا، وهذا العالم لا يكترث لدمائنا، وأحلامنا، وقيودنا".

المعركة سوف تستمر وعلينا نحن بدورنا أن نستمر حتى لو قمنا ببيع مصاغ نسائنا لنشتري السلاح، إن القضية ليست قضية انتصار إنها قضية الرغبة في القتال، لأن بعض قبائل العرب قد تركتنا وذهبت من خلف الجبال وعقدت هدنة 3 أيام وثلثاً مع عدونا لتحافظ على قوافلها وتجارتها. إن هذه القبائل كانت بمثابة اللصوص وقطاع الطرق الذين ينهبون عتادنا، ويسرقون قوت أطفالنا، نحن الآن وحدنا، وعلينا أن نقاتل وحدنا، ولذلك علينا أن نتحرر من الخوف الذي ينهش قوتنا، وبعد ذلك نقاتل لنتحرر من عدونا".

انتهى من الكتابة بعد أن تسللت الشمس على الورق، حيث كانت قد بدأت بالصعود إلى السماء، والعصافير تُزقزق وهي طائرة في الأجواء كأنها تقول: "لا تخسروا الأمل، إنه المعركة الآن". كان العرق يتصبب من بين أصابع يديه، قام بوضع القلم على الورق. نهض وانتعل حذاءه وهو مدرك تماماً قبلته القادمة.