كيف صنع جبّور الدويهي من نفسه شخصيّة روائيّة؟

كان ينظر إلى الرواية على أنّها الشكل القابل باستمرار إلى التحوّل. في ذكرى رحيله الثانية، كيف صنع جبّور الدويهي من نفسه شخصيّة روائيّة؟

  • جبّور الدويهي أو كيف يصنع الروائيّ من نفسه شخصيّة روائيّة
    وجد جبّور الدويهي في لبنان، المتعدّد والحاضن لكلّ أنواع التجارب، ضالّته المنشودة في تكوين مادّته الروائيّة (رسم: ماريا نصر الله) 

لم أكن أتخيّل جبّور الدويهي (1949 - 2021)، لحظة توافيه الكتابة، منسحباً من صخب الحياة، جالساً إلى طاولة في ركن هادئ في البيت من دون أن يعكّر صفوه أحد، أو قاصداً مكاناً منعزلاً تعمّه السكينة يطلّ على مشهد خلّاب ليسوّي في أحضان هدوئه أفكاره المتلاطمة. 

على العكس من ذلك تماماً، كان يتقصّد الوجود بين الناس وسط الضجيج ليكتب. يجلس تحت قبّعته على طرف الكرسي ويلفّ ساقيه الطويلتين الرفيعتين على بعضهما مسترسلاً. في المقاهي الشعبيّة وحوله ثلّة من الأصدقاء، يفتح كمبيوتره وينقر بإصبع واحدة على لوحة المفاتيح، يدوّن مقطعاً جديداً من رواية يعمل عليها، أو يعيد كتابة مقطع قديم منها، ثمّ بين الفينة والأخرى يجول بنظره على مَن حوله مشاركاً إيّاهم حديث الساعة، رامياً أفكاره بسرعة وحنكة كأنّ الوقت يدهمه أو يغدر به. 

ربّما بهذه الطريقة كان يريد أن يشعر أنّه بقدميه المغطّستين في نهر النهار الجاري، ماثل في مجرى الأحداث وتحوّلاتها، لا تفوته شاردة ولا واردة، يمدّ يده ساعة يشاء ويقطف ما يريد.

"الرواية، من الناس وإليهم"، هكذا كان يُخيّل لي أنّي سمعتُه ذات مرّة يتمتم بينه وبين نفسه. 

كأنّ ما يأخذه منهم يعيده إليهم، بعد تجميعه وصوغه بأسلوب شيّق وجميل، حائكاً بذلك مآسيهم وأقدارهم، كما فصّلها في باله على قياس تجربته الشخصيّة. فما جلوسه مع الناس من كلّ فئات الأعمار من أجيال مختلفة ومن طبقات اجتماعيّة متنوّعة، سوى تأكيد أنّهم هم شخصيّات رواياته الحقيقيّة التي يستوحي منها، يحذف ويزيد، يركّب ويعيد التركيب، فتختلط الأحداث الجماعيّة بالفرديّة، وتتداخل الأضواء بالظلال.

من هذه الوجهة، كان ينظر جبّور إلى الرواية على أنّها الشكل القابل باستمرار إلى التحوّل، كما الناس وكما الحياة، والقابع أبداً عند مفترقات الطرق وتقاطعاتها، بين الريف والمدينة، بين الماضي والحاضر، بين التقليد والمعاصرة، بين الشرق والغرب. 

وقد وجد في لبنان، بلده الصغير المتلوّن، المتعدّد والحاضن لكلّ أنواع التجارب، ضالّته المنشودة في تكوين مادّته الروائيّة التي كان يبتغيها بشدّة. لذلك، كان يجهد في رسم أمكنة رواياته التي تشكّل استعارة لهذا التحوّل، مثل مقهى على ضفّة نهر، أو بيت على رأس تلّة، أو مطبعة في عاصمة، أماكن تشهد تحوّلات فظيعة حيث تجري فيها أحداث مروّعة تودي بها أغلب الأحيان من عزّ إلى خراب، ما يذكّر دائماً وبصورة واضحة بما ألمّ بلبنان على مرّ الأزمنة، خصوصاً جرّاء الحرب الأهليّة وتداعياتها.

وانطلاقاً من هذه الأماكن التي أجاد الكاتب رسمها كأنّها تكثيف للوجود، والتي غدت في سطوة حضورها شخصيّات إضافيّة لشخصيّات رواياته، من الممكن لباحث فيها أن يتتبّعها بشكل دقيق ويشكّل منها مساراً جغرافيّاً على مدى رقعة لبنان، ساحلاً وجبلاً.

وتأكيداً على هذه التحوّلات المحتدمة التي كان يسعى جاهداً إلى جمع قطعها الفسيفسائيّة ورصفها بعناية، بعضها إلى جانب بعض، لاكتمال لوحته السرديّة المشهديّة، حوّل نفسه بمرور الوقت وعن سابق تصوّر وتصميم إلى شخصيّة روائيّة، مرتدياً ثياباً أنيقة تحاكي آخر صيحات الموضة الأوروبيّة، منتعلاً جوارب ملوّنة جريئة، سابلاً على فمه شاربين، تارة رفيعين ككلارك غايبل وطوراً كثّين كغابريال غارسيا ماركيز، واضعاً على عينيه نظّارتين مستديرتين كجيمس جويس، ومعتمراً قبّعات باذخة فاتنة كممثّلي هوليوود ذوي الأصل الطلياني. فبدا، في غدوه ورواحه المتكرّرين، أنّ الحياة تشغله بمشاريعها ومواعيدها وهو مقبل عليها بشوق عظيم، لا يجلس إلّا ليقف، ولا يأتي إلّا ليذهب، لحظة يكون هنا ولحظة يختفي.         

هكذا، وفقاً لخطّة تبدو أنّها مدبّرة بعناية، وبعد تكريس نفسه شخصيّة روائيّة حيّة، أصبح من حقّه أن ينسحب من الواقع وينضمّ إلى الخيال، تاركاً عطره في الهواء وصورته بين ضفّتي كتاب.

صار جبور الدويهي أشبه بالحكاية، وبات بإمكاننا أن نكتب عنه كما كان هو يكتب عنّا.          

كان بعد ظهر نهار جمعة غائم، وكان الضباب قد بدأ يلفّ إهدن، مسقط رأسه، حين دخلنا عليه ولم نجده. يبدو أنّه انتظر الضباب لينخفض كفاية ليختفي. دبّر كلّ شيء.

كان لديه الوقت، كلّ الوقت، ليلتقط أنفاسه في السرير ويرفع ظهره قليلاً إلى فوق سانداً رأسه فوق مخدّة ليرى ما الذي سيجري في هذا اليوم.

وعلى ملامح وجهه النحيل، ترتسم تلك الرغبة التي تحدو به إلى نوع من الاختفاء، هو، بطل رواية حياته، تماماً كرغبته في اختفاء غالبيّة أبطال رواياته:

ريّا في "ريّا النهر" جلستْ تتأمّل النهر الذي أخذ معه كلّ شيء حيث غدت حياتها كصورة أشجار الدلب في صفحة المياه التي هبّ الهواء ناثراً عليها غزّال الحور الأبيض، ورضا في "عين وردة" تحوّل إلى شبح واقف في النافذة الشرقيّة لغرفة الزاوية خلف الستارة البيضاء المخرّمة، وإيليّا في "مطر حزيران" نسي جسمه وانطلق في نهر المشاة وسط الرصيف من دون توقّف، والأخير في "سُمّ في الهواء"، الأخيرة، والذي يمثّله بشكل فاضح، لوّح بجناحيه وحلّق مع الحمام بعيداً نحو السماء الزرقاء في الأفق البعيد.

فبعدما دار الزمن دورته كاملة، دارت شخصيّات رواياته، إيليّا وكاملة وريّا وموسى ورضا وفريد وزكريا، وبدت جميعها شخصيّة واحدة ما برحت تتأرجح بحبال القدر على جانب من الخفّة والسخرية، مستسلمة بشاعريّة إلى مصيرها المأساوي المحتوم. كأنّه تمّ ما جاء في الكتاب.

  • جبّور الدويهي أو كيف يصنع الروائيّ من نفسه شخصيّة روائيّة
    صار جبور الدويهي أشبه بالحكاية، وبات بإمكاننا أن نكتب عنه كما كان هو يكتب عنّا          

رتّب الغرفة وسريرها وستارة شبّاكها الخشبيّ الزيتيّ المطلّ على الورد الجوريّ، وأقلع. من هناك، من الغرفة الصغيرة نفسها التي وُلد وترعرع فيها بكنف عائلته، مع والديه وإخوته، في ذاك البيت الجبليّ الحجريّ في حارة عين الوحش.

بعد صخب الحياة الهادر، علّق العمر كمعطف وراء الباب وانسحب بهدوء.غادر بلا كلمة. لم يُسمع له حسّ. حتى أغراضه التي بقيت على المنضدة: كتبه، قبّعته، نظّارته، كمبيوتره، هاتفه، تواطأت معه في ذلك الحين وأطبقت في صمت عميق.

بين انخطاف الأحفاد الصغار بضحكاتهم، وشرود الزائرين القلائل بأفكارهم، وانشغال أهل البيت بشؤون البيت وشجونه، تسلّل بخفر. لم ينتبه له أحد.

هل صار طيفاً؟ هل صعد على متن سفينة من غيوم؟ هل امتطى فرساً من دخان؟ وكيف ضبطَ التوقيت على احتضار بلاده العزيزة على قلبه في زمن الشجر فيه نازف والمياه من دم والمدن يابسة؟ هل كان قد رسم قدره ليشبهه إلى هذا الحدّ، أم أنّ القدر هو الذي يرسمنا منذ البداية ولا مجال إلى تغييره؟ هل ضربة من الحظّ أفلتت من يد الصدفة وأصابته؟ قدر وحظّ، هل هذا كلّ ما تبدو عليهما الحياة؟ ونحن بينهما، ماذا نفعل؟

ننجز ضرباتنا، نخبط على مقبض الباب، نكسر القفل، نشرب حتى الثمالة، نرقص حتى نقع، نفرغ الكتاب في الغرفة من آخر كلمة كما الكأس من آخر نقطة.

ها قد عبرت الطيور بظلالها الفاتحة والداكنة تاركة بصماتها على الجبال والوديان. بين شبكيّة العين وخريطة التحليق، انفرط العقد وانتهت الرواية. انتهت وما انتهت. أقرب إلى الاختفاء منها إلى النهاية.

أمّا الوسام الذي مُنح له بعد رحيله، من الدولة التي ناضل طوال حياته في سبيل تحقيقها ولم تتحقّق، فبطبيعة الحال لم يأخذه معه بل بقي مع عائلته رمزاً لحلم مكسور ولعباءة بالية خلف العرش. ونحن، أحبّاءه وقرّاءه، ازددنا قناعة بأنّ ما تركه من إرثٍ روائيّ، مترجَماً إلى العديد من لغات العالم، أكبر وسام على صدر الأدب العربيّ بعامّة واللبنانيّ بخاصّة.