جماليات الصورة في "مقامرة على شرف الليدي ميتسي"

لم تكن الشخصيات الأربع في الرواية يجمعها سباق الخيل أو المقامرة على رغم أنها كانت وسيلة الأقدار لجمعهما لكن ما جمعها بحق هو الشخصية الخامسة التي سادت حيوات الجميع وهي "الأمل".

  • جماليات الصورة في
    جماليات الصورة في "مقامرة على شرف الليدي ميتسي"

من صورة تعثر عليها أيادٍ مُنتهِكة لأسرار أحد الموتى سنعرف حكاية رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي"، للروائي المصري أحمد المرسي، وهي الرواية المُدرجة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2024.

 يمكن أن نصف رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" بأنها رواية تاريخية واجتماعية، تحكي حكاية عادية عن بعض الذين اعتادوا المراهنة على سباقات الخيول التي كانت تقام في مصر في أوائل القرن العشرين، وتبعات هذه المراهنات من خراب النفوس والمعيش. وهي حكاية ربما رأينها وقرأناها كثيراً، لكن ما يميز هذه الرواية من غيرها ربما ليس الحكاية فحسب، وإنما أيضاً الصورة والمشاهد التي جسدت تلك الحكاية، والتي تتناول كثيراً من الأحداث التاريخية الحقيقية في مصر والعالم. وفي داخل هذا التاريخ أطلعتنا على قصة حياة الشخوص الرئيسين فيها ومَن حولهم. 

 كُتبت الرواية بتقنية الاسترجاع. عندما عثر أحدهم على صورة لابن عمه المتوفَّى، والذي لم يكن إلا بطل الحكاية "فوزان الطحاوي" وبعدها يشرع الراوي العليم في سرد قصة الصورة والأشخاص الأربعة فيها وما حدث لهم، لنعرف حكاية "فوزان وسليم ومرعي والليدي ميتسي، والمهرة شمعة". وكانت الصورة من أحد أهم سباقات الخيول التي أقيمت في مصر في قاهرة عشرينيات القرن الماضي وما بعدها في نادي هيليوبوليس.

  لكن، كما ذكرنا آنفاً، فإن الرواية تتناول الحكاية العادية، إلا أن جمال هذه الرواية وجاذبيتها جاءا من عدة مميزات متفردة ربما، لذا فلنتناول بعض هذه المميزات:

انضباط اللغة 

من أهم مميزات هذه الرواية، والأمر الذي سيلفت نظر القارئ من الصفحة الأولى، هو اللغة التي كتبت بها. لقد كتبت الرواية باللهجة المصرية العامية التي سادت الألسن في أوائل القرن العشرين 1900. فكانت واحدة من الكتابات التي بيّنت لنا إلى أي حد تتغير اللغة في مفرداتها وتركيبها، وكيف تحيا بحسب حياة مُتكلميها. فلم تخرج جملة واحدة في تلك الرواية عن ذلك الإطار الزمني الذي جعلنا نقارن طوال الوقت شكل اللغة المعاصرة واللغة منذ مائة عام مضت. كتبت بالغة التي نسمعها في الأفلام العربية القديمة. لم ينس الكاتب ولا حتى في كلمة واحدة أن هذه الحيوات عاشت منذ قرن، حيث كانت اللغة والعالم أجمع غير العالم. 

جماليات المشاهد والصور

الانطباع الأول الذي سيصل إلى القارئ من بداية الرواية هو أنه يشاهد فيلماً سينمائياً. لقد ركّبَ الكاتب مشاهد الرواية بحيث تكون متقابلة في بنيتها. فمثلاً، عندما تركت "عايدة" زوجة سليم البيت وهجرته وكسرت قلبه وفقد آخر ما تبقى له في الحياة، كان في الوقت عينه "مرعي" يفقد الليدي ميتسي التي أحبها ورفضت الارتباط به. كذلك عندما تعي شخصية سليم بعد مغادرة عايدة، أنه كان مذنباً وتائهاً لا بد له من اهتداء، انتقل بنا الكاتب لمشاهدة مرعي وهو أيضاً يفيق على صحوة ضمير. وبعد المشهدين يقرران أن يوقظا ضمائرهما معاً ويقررا التغيّر نهائياً. 

كذلك المشهد عندما بدأ سليم يُقّر بواقع احتضار زوجته واقترابها من الموت وذهب منهاراً ليشكو إلى الليدي ميتسي وجدها هي أيضاً منهارة للسبب نفسه، الفقد. موت ابنها ديفز. في الوقت عينه في المشهد المقابل كان مرعي يشكو إلى زينب، زوجته التي أضحت مجرد طيف تتجسد له وتحادثه بعد موتها وكانت له كضميره الذي يؤنبه طوال الوقت على فعل السوء ويحرضه على الاستقامة. 

وهذه المشاهد المتقابلة هي التي ميزت الرواية بالسلاسة الشديدة في التنقل بين حيوات الشخوص ومآسيهم المتماثلة، بالإضافة إلى الوصف الدقيق والمُحكم دون إطناب أو اختصار لكل عناصر الرواية سواء الأماكن أو الأشخاص وأشكالهم. فلم يجد القارئ عناءً في تخيّل أو فهم دواخل أولئك ولا خلفياتهم الحياتية التي أوصلتهم إلى ما هم عليه، ولا الأسباب التي نكزت الجميع للإفاقة على ما يتجاهلونه طوال الوقت. 

الدراسة التاريخية 

أما الميزة الثالثة في هذه الرواية فهي الدراسة والاطلاع التاريخي الذي تجلى في كل صفحات الرواية. فإن لم يكن قد سبق ودرس الكاتب هذه الحقبة الزمنية في مصر بكل دقة وصبر على معرفة أدق التفاصيل، لما كان أتقن رسم الجو العام، وهو إحدى أهم مميزات الرواية أيضاً، بهذا الشكل. 

فهذه الرواية تحكي حكاية حقيقية، في أغلبية أجزائها، لأماكن وأحداث حدثت بالفعل منذ عشرات الأعوام. وكي تُكتب بهذا الدقة كحدث تاريخي أو كرسم جغرافي لأماكن تغيرت معالمها كلياً فهذا يتطلب بحثاً ودراسة تاريخية متعمقة، إلى جانب اللغة التي لا اعتقد أن مشاهدة الأفلام القديمة وحدها تكفي لمحاكاة اللغة في ذاك الزمن البعيد جداً. فكان لا بد من الاستغراق في الدراسة والعمل عليها قبل الشروع في الكتابة، وأظن أحياناً من شدة إحكام هذه النقطة أن الدراسة أخذت من الوقت أكثر كثيراً من كتابة الرواية كعمل أدبي. 

من أهم مميزات هذه الرواية أيضاً الجو العام، والذي أرجعتنا إلى مصر المتباينة كلياً عما نعيشه ولا نراه إلا في الوثائقيات، كأننا في بلد آخر. لغة الناس وملابسهم والأماكن التي كانوا يشترون منها تلك الملابس، ومتاجر الأجانب التي ظلت مقامة في مصر حتى أعوام قليلة، وربما بعضها لا يزال قائماً حتى الآن كمحال بانزيون. كيفية تعامل المصريين مع الأجانب المحتلين، الحياة الاجتماعية ووضع النساء في ذاك الحين. حتى شكل الشوارع وتغيّر صفة بعض المباني التي أضحت أثرية الآن. 

أعتقد الآن أننا عندما نمشي في جغرافيا هذه الرواية والشوارع فيها في أيامنا المعاصرة لن نستطيع إلا تذكر ما كانت عليه في حقبة مضت ونُسيت، والجو العام في الرواية ما كان إلا إعادة بعث لهذه البلدة الأخرى. 

فعندما نمشي في ضواحي مصر الجديدة الآن سنتذكر البارون إمبان الذي لا يزال قصره قائماً حتى اليوم والذي سنزوره ونعرف أن البارون ذهب إلى هذه البقعة التي كانت صحراوية نائية لينشد الهدوء. سنتذكر أن شارع "السبق" كان هو المضمار الذي يسابق فيه "فوزان بمهرته شمعة" وتغلب على كل "الجوكية، الفرسان" الكبار. الشارع الذي تحول من مضمار لسباق الخيول إلى حديقة الميريلاند إلى سنيما مكشوفة حتي يصل إلى مجرد شارع. سنعرف أن أول مدينة للملاهي في الشرق الأوسط "لونا بارك" هي نفسها ميدان روكسي التجاري حالياً، وأن قصر الاتحادية، مقر الرئاسة المصرية، كان هو نفسه فندق هليوبوليس قبل التأميم. 

"الأمل" في الرواية كشخصية مستقلة

على رغم أن للرواية أربعة أبطال رئيسين "فوزان الطحاوي، سليم حقي، الليدي ميتسي، مرعي المصري" فإنه عندما نطلع على عوالم كل شخصية منهم سنجد أن "الأمل" هو الشخصية ذات الحضور الأهم في الرواية، ربما حتى "الأمل" هو ما يتمحور حوله الموضوع الرئيس. "فالأمل" في الرواية محرك الأشخاص حتى لو كانوا مقتنعين بأنه وهم محض، لكنه كان إكسير الحياة الذي يحافظ على بقائهم بعد ضياع كل شيء ووسط كل الصراعات التي عاشوها. 

لم تكن الشخصيات الأربع في الرواية يجمعها سباق الخيل أو المقامرة على رغم أنها كانت وسيلة الأقدار لجمعهما. لكن ما جمعها بحق بحسب الرواية هو الشخصية الخامسة التي سادت حيوات الجميع وهي "الأمل".

فالأمل في استعادة الأمنيات الضائعة، التي يمضون في الدنيا يجرجرون جثثها وراءهم، وحده الذي حافظ على استمراريتهم. أمل سيلم في شفاء عايدة محبوبته وأمله في استعادة كبريائه واعتباره أمانها وعائلتها. أمل مرعي في إيقاظ ضميره وإنسانيته التي ظن أنها ماتت من كثرة ما ألم به من كروب الدنيا وعلى رأسها انتحار زوجته زينب بعد إساءته معاملتها. ضميره الذي تجسد بها عندما كان يراها كشبح يظهر له كلما ارتكب ذنباً أو وقع في الخطأ لتؤنبه وتعاتبه، والتي اختفت بعد أن عاد إلى إنسانيته في النهاية. 

أمل الليدي ميتسي التي، على رغم يقينها بأن هذا سراب، إلا أنها ظلت متمسكة بأمل المكسب في السباق الذي به سيعود ابنها من الموت. لكن لم يعد الابن من الموت لكنها هي التي اقتنعت بأنها لا تزال حية تتنفس، وبهذا الأمل بدأت من جديد.

بدأت الرواية بجملة "مات فوزان الطحاوي بلا أمنيات". فوزان كان الشخصية المحورية في هذه الرواية. وجاء تصدير الرواية بهذه الجملة ربما لأنه رجل عاش كما تمنى ولم يبقَ له أمنيات معلقة كسائر الشخصيات. 

ففوزان، عندما رأى صخب المدينة وقسوتها، وعبوديتها لأرواح البشر، كما قال له سائس الخيل النوبي الكهل، عرف معنى حياة الحرية التي يعيشها في الصحراء. فنال السعادة في صغره عندما كان فارساً أصيلاً لخيل أصيلة كما حَلم طويلاً منذ ولادته وسط الخيول. ونال ما تمنى عندما تفوق على الفرسان في أكبر ميادين السباق في القاهرة، وأسعده الحظ وحقق أمنية لم يتمنَّها حتى، وذلك عندما جمدت له الصورة تلك اللحظة الزمنية التي سيعيش على ذكرها ومَن فيها طوال حياته. أيضاً عرف معنى الجمال الخالص عندما عاش مع عايدة الملاك، عدة أيام لم ينسها قط حفرت ذكراها في قلبه مع الخطابات التي كانا يتبادلانها طويلا. لذا، كأنما هدأ قلبه واستطاع أن يعيش بقية عمره كما يُحب، رجلاً حُراً بمعنى الكلمة، حر القلب بالسعادة والسكينة والتسامح، وحر المعيش لا يتقيد بأمر أو التزام، حراً لآنه عاش محبوباً ومات كذلك.