جوزيبي أونغاريتي.. حياة إنسان وأسباب شعره

صحافي وناثر ومواطن عالمي.. لماذا يعد جوزيبي أونغاريتي أهم الشعراء الطليان في القرن العشرين؟

يتردد في كل الكتب التي توثق الشعر الإيطالي وأهم أعلامه اسم جوزيبي أونغاريتي (1888 - 1970) الذي احتفلت إيطاليا بذكرى رحيله الخمسين عام 2020 كواحد من أعظم شعرائها المجدّدين. 

يُعَد أونغاريتي، إلى جانب أمبرتو سابا ويوجنيو مونتالي، "أهم شعراء الطليان في القرن العشرين"، كما يذكر أستاذ الأدب الإيطالي المقيم في فلورنسا محمود سالم الشيخ، في كتاب صدر بالعنوان السابق، إذ اقتحم أونغاريتي التراث الشعري الإيطالي التقليدي بروح ثورية ومتمردة وواثقة.

إلى جانب ذلك، كان أونغاريتي صحافياً وناثراً ومواطناً عالمياً، كما كان رجل ثقافة وأدب وتأمل ورجل مقاهٍ وحوارات وأسفار. 

حياة إنسان

يتحدر أونغاريتي من أسرة توسكانية مهاجرة أنجبته في الإسكندرية عندما كانت "مدينة عالمية" في 8 شباط/فبراير 1888. مات أبوه خلال أعمال الحفر في قناة السويس، وعمره سنتان، فبقي مع أخيه الذي يكبره بثماني سنوات، وأمه التي تمتلك مخبزاً في محرم بيك. 

الطقس المأساوي لزيارة قبر أبيه كل أسبوع يرجع كالصدى في العديد من قصائده، ومعه كلمة "مقبرة"، ولكن كلّ الكلمات لن تستطيع إيجاز حياته، باستثناء كلماته في نصه "البدايات" الذي يُعَد سيرة ذاتية منذ ولادته حتى الثلاثينيات.

التحق بمعهد "دون بوسكو" التابع للإرسالية الإيطالية، وبعده بالمدرسة السويسرية. وتحقيقاً لرغبة أمه في أن يصبح "محامياً دولياً"، درس القانون في معهد خاص.

في آخر لقاء مع التلفزيون الرسمي الإيطالي "راي"، قال أونغاريتي إنه تشبع بأجواء الثقافات العربية والفرنسية واليونانية التي كانت تعيش متزامنة ومتآخية في مدينة الإسكندرية الكوزموبوليتية. 

في المدرسة السويسرية، شغف بالآداب الفرنسية، وتعرّف إلى نتاجات شعراء، مثل بودلير وملارميه، اللذين أثّرا في تجربته.

التقى في المدرسة صديق طفولته الشاعر محمد شهاب، وانضما معاً عام 1908 إلى مجموعة من المثقفين الذين تحلقوا حول الكاتب الإيطالي أنريكو بيا الذي استقر في الإسكندرية.

بعدها، استقر في باريس، ودرس في "الكوليج دو فرانس" محاضرات غوستاف لانسون وجوزيف بدييه وهنري برغسون وعدد من أساتذة السوربون. وفي غرفتهما في فندق صغير اسمه "دي كارم"، قرر الصديق المصري محمد شهاب الانتحار في التاسع من أيلول/سبتمبر 1913، لعدم تأقلمه مع واقع إقامته في باريس. وقد تكرر اسمه عدة مرات في أعمال أونغاريتي، لا سيما قصيدته "ذكرى":

"آه.. أرغب في أن أنطفئ مثل

قنديل في تباشير الصباح الأولى

عند السابعة صباحاً

رافقته صحبة ربة الفندق

حيث كنّا نقيم في باريس

في 5 شارع لي كارم

درب باهت ذو انحدار".

وصفت الباحثة الفرنسية إيزابيل فيولانتي، التي أعدت أطروحة جامعية عن أونغاريتي، رابطة الصداقة بينه وبين محمد شهاب بالقول: "سوف تتحول بقوة الشعر إلى أسطورة، على الرغم من المظهر التراجيدي لهذه الحكاية في قصائد رثاء التي ذهب البعض إلى اعتبارها تمثيلاً للقاء الشرق والغرب".

في فرنسا، تعرّف أونغاريتي بشكل مباشر إلى بيكاسو ومودلياني وبراك وبوتشينو ودي كيريكو وفرناند ليجيه وبراك، وارتبط بصداقات عميقة مع الشاعر أبولينير. وبعدها عاد إلى إيطاليا، واستُدعي عام 1915 للمشاركة في الحرب العالمية الأولى ضمن سلاح المشاة.

 وهناك، كتب غالبية قصائد ديوانه الأول "الميناء المدفون" في طبعة لا تتجاوز 80 نسخة، إلى جانب ديوان آخر بعنوان "الحرب" أو تجربته كجندي، والتي يسميها "تراجيديا الخنادق"، ومن بعدها ديوانه الشهير الأول "غبطة الغرقى"، الذي يحتوي بين دفتيه ديواناً صغيراً بعنوان "المرفأ الغائر" يصف فيه أهوال الحرب ومآسيها. 

انتقل إلى روما ليعمل في تحرير المواد الصحافية والأدبية في المكتب الإعلامي لوزارة الخارجية الإيطالية. وهناك توالت سفراته إلى البرازيل، ثم إلى إيطاليا مجدداً عام 1942، وصار شهيراً بلقب "الأكاديمي الإيطالي"، واتّهم بالتعاون مع النظام الفاشي والدعاية له، لكنّ الاتهامات لم تكن مدعومة بقرائن وأدلة قوية، كما تشير المراجع.

بعدها توالت دواوينه التي جمعها في 5 مجلدات وفق المراجع: "غبطة الغرقى"، "الشعور بالزمن"، "الألم"، "الأرض الموعودة"، و"صراخ ومناظر"، إلى جانب ديوانه الأول "البهجة". ولأونغاريتي أيضاً كتابات نثرية ومقالات ودراسات، وله كتابان هما "الفقير في المدينة" و"مفكرة شيخ"، إلى جانب كتابه عن ذكرياته "انطلاقاً من الصحراء".

نُشرت أعماله الكاملة بعنوان اختاره بنفسه هو "حياة إنسان"، وصدرت بالعنوان نفسه باللغة العربية عن دار ميريت المصرية (تعريب عادل السيوي). تضم المجموعة دراستين كتبهما عن تجربته الشعرية ومفهومه لماهية الشعر، إضافة إلى بيبليوغرافيا كاملة عن حياته والجوائز التي حصدها ورحلاته إلى مصر وفرنسا والبرازيل وسواها من البلدان.

أسباب الشعر

إنّ تجربة أونغاريتي مع الشعر كانت، كما وصفها، "محاولة غرس الأصابع في جروح عميقة". وفي نصه "أسباب الشعر" الموجود في أعماله الكاملة، يعود أواخر حياته لتذكّر ملاحظاته التي كتبها شاباً، ويذكر بأنّ اهتمامه في السنوات الأولى التالية للحرب الأولى كان ينصب على اكتشاف نظامٍ ما، وأنه كان يبحث بشكلٍ مُلح عن نظام للشعر، رغم أنّ إنتاجه الشعري آنذاك - كما يقول - كان مفتقداً أي نظام.

في المقالة، يستعيد أونغاريتي أفكاره التي كتبها على مرّ السنوات، ويناقشها أو يدحضها أو يقول إنها تغيّرت. تلك الأفكار والمحاولات هي أسبابه لكتابة الشعر، وهي أسبابه لاستمرار المحاولة، وليكون "ابن زمانه".

يقول عادل السيوي، معرّب أعماله الكاملة، إنّ أونغاريتي هو "الذي قضى عمره يدور حول المفردات بحذر بالغ، ليكتشف تلك الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها إلى قلبها، ويحولها بذلك من مفردات متاحة في حيادها إلى كلمات تخصه وحده؛ كلمات تنفصل عن القاموس والتداول اليومي"، لتصبح الكلمة في قصيدته، كما قال، "هاوية محفورة في الروح".

إنّ علاقة أونغاريتي مع اللغة قامت على التكثيف والحذف والإيجاز، إذ يريد أن يثير عدداً لانهائياً من الدلالات في أقل قدر ممكن من الألفاظ، إلى حدّ اعتباره - من قبل السيوي - صاحب أقصر قصيدة في تاريخ الشعر الإيطالي أو الإنساني بأكمله؛ تلك التي تتكون من كلمتين: M,illumino d,immense، واختلفت ترجماتها بين "أستضيء باللانهاية" و"يغمرني نور الكون الهائل"، وأيضاً ترجمها سلامة سليمان: "أتنور في رحابة"، وعبد الغفار مكاوي: "أتجلى باللامحدود"، وحسين محمود: "أضيء بلا حدود".

تتمثّل ثورة أونغاريتي الشعرية بتجديد بيت الشعر الإيطالي، بإدخال البيت الحر إليه، كما يقول محمود سالم الشيخ: "في ديوانه "البهجة"، نجد أن بيت الشعر الجديد محطم ومفكك ومنقسم إلى عدة أبيات قصيرة، كما أنَّ كلمات هذا الديوان مستقاة من قاموس اللغة الدارجة".

وقد أعطى أونغاريتي هذه الكلمات الدارجة قوة رمزية واسعة النطاق تبرزها فترات السكون والفراغ الأبيض، ويجمعها إزالة علامات الترقيم أسوة بأسلوب الشاعر الفرنسي أبوللونير. وبذلك، اكتسبت الكلمة قوة تعبيرية عميقة بعكس الشعر التقليدي.

إلى جانب كونه رائداً من رواد المدرسة الهرمسية أو الإبهامية (حركة أدبية تنادي بالغموض والإيحاء عوضاً عن الوضوح)، واشتغاله كذلك بالمستقبلية (مدرسة أسسها فيليبو توماسو مارينيتي، لتثور على كل ما هو ماضوي، وتشمل كل الوسائط الفنية)، فإنّ شعر أونغاريتي مرآة لسيرته الذاتية والمناسبات التي عاشها، ولكنّ الشعر الحقيقي بقي دائماً بالنسبة إليه ذلك الذي "لا يظهر إلا محاطاً بالأسرار".

الجوائز

نال أونغاريتي جائزة "نوكلوزوت" للشعر عام 1956. وبعدها بعامين، أقيم احتفال رسمي بمناسبة بلوغه السبعين، وأصدرت مجلة الشعر عدداً خاصاً تكريماً له. وعام 1962، انتخب بإجماع الأصوات رئيساً لاتحاد كتاب إيطاليا. وعام 1968، أقامت له الدولة الإيطالية احتفالاً بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره. بعد ذلك، وعلى نحو مفاجئ، مات في مدينة ميلانو عام 1970. 

وقال عنه الناقد كارلو بو بعد موته: "الشباب من جيلي كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل أونغاريتي، وذلك يعني لهم الموت دفاعاً عن الشعر".