حزيران 1967 في الأدب العربي: نحن هزمنا أنفسنا؟

كانت هزيمة 1967 حدثاً عميق التأثير في الحياة العربية بكل ميادينها. كيف تناول الأدب الأسباب التي أدّت إلى وقوعها؟ وكيف أرّخ أيامها الستة؟

أمام حدثٍ مهولٍ كهزيمة حزيران/يونيو عام 1967، لم تكتفِ الرواية العربية بالتأريخ ولا بتوثيق الأحداث، بل ذهبت أعمق من ذلك في استعراض أسباب الهزيمة، من خلال العودة إلى ما سبقها والإضاءة على ظروف المجتمع العربي في مختلف البلدان، هذا المجتمع الذي عانى التخلّف الشامل، بعد قرونٍ من الاحتلال العثماني، والاستعماري الغربي، وما تلاهما من محاولات متعثّرة لبناء الدولة الوطنية.

وعلى الصعيد الداخلي، لم تكتفِ هذه الروايات بنقد السلطات الديكتاتورية، التي شغلت الناس بلقمة عيشهم المُرّة، بل طاول نقدها الناس أنفسهم، على اعتبار أنّهم المسؤولون عمّا يحدث في حياتهم، وركّز النقد في مرحلة لاحقةٍ على دور الإعلام العربي التضليلي، أو الضبابي في أحسن الأحوال.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ بعض هذه الروايات استَبَقت الهزيمة في الحديث عن الأوضاع الاجتماعية القائمة، التي أدّت إليها فيما بعد، بل نجحت إحداها حتى في رسم سيناريو وقوعها. 

حليم بركات: قبل الأيام الستة وبعدها

  • الروائي المصري صنع الله إبراهيم
    الكاتب السوري حليم بركات

أحد العناوين الأولى التي تطالعنا عند البحث عن روايات تخدم موضوع هزيمة حزيران، رواية "ستة أيام"، للكاتب السوري حليم بركات (1936). نُشرت هذه الرواية عام 1961، وهي تصوّر احتلال قرية "دير البحر"، بعد حصارها وإمهال أهلها ستة أيام للاستسلام ومغادرة القرية من دون قتال، وهو ما رفضه هؤلاء.

 من هنا أتى عنوان الرواية، لا من عدد الأيام التي كانت كافيةً لهزيمة العرب في ذلك العدوان الخاطف.

إن ما دفع إلى الوقوع في لبس العنوان، ووصف الرواية بأنّها "تنبّؤيّة"، هو التقارب في السيناريو مع ما جرى على أرض الواقع بعد ستِّ سنواتٍ من نشرها. 

اللافت في الرواية أيضاً إلى جانب ما سبق، أنَّ بطل الرواية سهيل، هو شابّ ساخط على مجتمعه، يتناول أدقّ عيوبه، ويلومه على كل ما فيه، وبذلك يُرجع سبب الهزيمة – قبل وقوعها - إلى الذات العربية الخاضعة والمستكينة، فالعدوّ لا يُلام على عدوانه.

ما دفع إلى وصف رواية "ستة أيام" بأنّها رواية "تنبؤيّة"، هو التقارب في السيناريو مع ما جرى على أرض الواقع بعد ستِّ سنواتٍ من نشرها.

لكنَّ حليم بركات عاد إلى كتابة الأيام الستة للهزيمة العربية وما تلاها، بعد وقوعها، وذلك في رواية "عودة الطائر إلى البحر"، الصادرة عام 1969، وفيها يبيّن بالتفصيل كيف عاش العربي وخصوصاً الفلسطيني هذه الحرب، بطريقةٍ وجدانيةٍ ونفسيةٍ، من دون أن يعني ذلك أنَّ هذه الرواية تأريخية، بل هي رواية أسئلةٍ وجوديةٍ وبحثٍ داخليٍّ معمَّقٍ في أسباب هذه الهزيمة.

صنع الله إبراهيم: نشرُ رواية الهزيمة بعد نحو نصف قرن

  • الروائي المصري صنع الله إبراهيم
    الروائي المصري صنع الله إبراهيم

كتب الروائي المصري صنع الله إبراهيم روايته "67" في بيروت، بعد الهزيمة بعامٍ واحدٍ، لكنَّ دُور نشرٍ كثيرةً رفضت نشرها، لا لأسبابٍ سياسيةٍ كما قد يخطر في البال للوهلة الأولى، بل لأنَّ بطلها شخصٌ مهووسٌ جنسياً، يتحرّش يومياً وبصورة مخطَّطٍ لها بالفتيات في وسائل النقل العام، ويقيم علاقةً بزوجة أخيه، الذي يُقيم في بيته، وهذه الزوجة تُقيم بدورها علاقات جنسية مع رجالٍ آخرين. أراد الكاتب من خلال هذه الشخصيات الفجّة أن يكبّر صورة المجتمع العربي المأزوم والمكبوت والمملوء بالعقد، الذي تطفح نفوس أفراده بالغضب من دون أن يجدوا لهم متنفَّساً إلا في سلوكيات شاذّة، أو يبقى غضبهم حبيساً داخلهم ليحوّلهم إلى خاملين باردين غير مبالين.

أراد إبراهيم من خلال شخصيات روايته، ذات التصرفات الفجّة، أن يكبّر صورة المجتمع العربي المأزوم والمكبوت والمليء بالعقد.

يعطي صنع الله إبراهيم (1937) أبطال رواياته هذه الأبعاد السيكولوجية الجنسية عند تعرّضهم لظروف قاهرة معينة، فبطل الرواية هنا صحافي يساري، كان معتقلاً سياسياً خرج من سجنه حديثاً، يكتب مذكّراته على امتداد عام 1967، وبذلك تصبح أيام العدوان الستة جزءاً من كلّ، فالغرض من هذه الرواية هو الإضاءة على مقدّمات الهزيمة والأسباب الاجتماعية التي أدّت إلى حدوثها، لا على الاهتمام بحدث الهزيمة نفسه. وحتى في أيام العدوان الستة، استفاد الصحافي من انقطاع التيار الكهربائي أو وجوده في الملجأ المظلم لاستمرار تحرّشه بزوجة أخيه!

بعد وفاة الرئيس  جمال عبد الناصر عام 1970، تلقّى صنع الله إبراهيم عدداً من العروض لنشر "67"، لكنّه رفضها كلّها خشية التوظيف السياسي لها ضد عبد الناصر، ولمصلحة خلفه الرئيس أنور السادات. لم يتمكّن القرّاء من قراءة هذه الرواية إلا في عام 2015، حينما قرّر إبراهيم نشرها في مجلة "عالم الكتاب"، قبل أن تصدر بعد ذلك بعامين عن إحدى دور النشر المصرية.

نجيب محفوظ: كنا نثرثر... فهُزمنا

  • الأديب المصري نجيب محفوظ
    الأديب المصري نجيب محفوظ

تُصوّر رواية أديب "نوبل" نجيب محفوظ، "ثرثرة فوق النيل"، الصادرة عام 1966، حال المجتمع المصري قبل وقوع الهزيمة، وتحديداً الأجواء التي كانت سائدة بين صفوف الشباب المتعلّمين، المفتروض بهم أن يؤثّروا في وعي الآخرين، لكنَّ هؤلاء يقرّرون مقاطعة الحياة الاجتماعية والسياسية بسبب خيبتهم من الأوضاع الداخلية في بلادهم، ويمضون في عيش حياة عبث وملذات وتعاطي مخدّرات، على متن عوامة مستقرة على ضفاف نهر النيل.

يصوّر محفوظ حالة المجتمع المصري قبل وقوع الهزيمة، وتحديداً الأجواء التي كانت سائدة بين صفوف الشباب المتعلّمين، التي غلبت عليها الخيبة بسبب الأوضاع الداخلية في بلادهم.

وكما فعل حليم بركات، عاد نجيب محفوظ (1911 - 2006) وتناول الهزيمة بعد وقوعها، وذلك في رواية "الكرنك". تدور أحداث هذه الرواية الصادرة عام 1974 في الفترة ما بين هزيمة حزيران/يونيو عام 1967 والحرب التي شنّتها مصر وسوريا على "إسرائيل" عام 1973. مسرح الرواية مقهى شعبي في وسط القاهرة، أعطى الرواية اسمه. الأجواء متشابهة في الروايتين، فهناك مكان محدّد بمساحة قليلة يحتضن الشخصيات، التي تتداول في أحدايثها أوضاع البلاد بعد الهزيمة، والأخطاء التي وقعت فيها ثورة عام 1952 وأدّت إلى حدوث الهزيمة، ما يتسبّب بزجّهم في السجن.

سعد الله ونّوس: كلّنا مسؤولون عن هزيمتنا

  • المسرحي السوري سعد الله ونّوس
    المسرحي السوري سعد الله ونّوس

أهم ما ميّز مسرحية الكاتب السوري الراحل سعد الله ونّوس، "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، اعتمادها على "الارتجال"، وخروجها عن الشكل التقليدي للمسرحيات، التي تتوجّه إلى جمهورٍ متفرّجٍ، إذ "يشترك فيها الجمهور والتاريخ والرسميون وممثلون محترفون"، كما كتب ونّوس نفسه في مقدمتها، كأنّه يريد بذلك أن يلقي بمسؤولية الهزيمة على كلّ هؤلاء؛ على الشعب الغارق في حياته البائسة، وعلى المسؤولين عنه الذين أوصلوه إلى هذه الحياة، وعلى الظروف الموضوعية التي سادت في الماضي، وأدّت إلى الوصول إلى حاضر الهزيمة التعس.

كذلك فإنَّ ونّوس (1941 - 1997)، باعتماده تقنية "المسرح داخل المسرح"، الناتجة من لجوء المخرج إلى مؤلّف آخر، بعد سحب مؤلف المسرحية لنصّه قبل بدئها وجلوسه بين جمهور المتفرّجين، ثم مشاركته في الحوار المحتدم، يضيء على الخلافات الداخلية، التي سادت بين العرب وداخل كل بلد قبل الهزيمة، وساهمت فيها.

خرج ونّوس في مسرحيته هذه عن الشكل التقليدي للمسرحيات التي تتوجّه إلى جمهورٍ متفرّجٍ، حيث أشرك الجمهور في أدائها من خلال اعتماد تقنية "المسرح داخل المسرح"، في إشارة إلى الانقسام العربي.

أما خاتمة المسرحية فهي استعاديّة وتنبّؤية في الوقت عينه، إذ تشير إلى التعامل الأمني للسلطات العربية مع الإبداع ومع المنتقدين لها، حيث تُحكم السلطة قبضتها على المسرح، محتجزةً كلّ من فيه، بذريعة ضلوعهم في مؤامرةٍ ضدّها!