حكاية العطور: من بخور المعابد إلى المشاعر الخفية والمكانة الاجتماعية
العطور وتركيبها واستخدامها ظاهرة تحكي قصص الحضارات وتكشف عن هوياتنا الشخصية والجماعية. إليكم باختصار، حكاية العطور وأبعادها الفلسفية الثقافية والاجتماعية عبر الزمن.
لو كان للمسك والعنبر في العصر العباسي حسابات على وسائل التواصل، لكانت المنافسة بينهما أشرس من أي "ترند" اليوم. فالعطر لم يكن مجرد وسيلة للتطيب، بل صيدلية كاملة، ومقياساً اجتماعياً يميز الوزراء عن العامة، وأداة لإظهار الغنى والفخامة.
وكانت بعض الروائح تمثل دلالات طبقية وتفضيلات نخبوية، كأن بعض العطور التي تليق بالأمراء تصبح تلقائياً شبه "ممنوعة" على العامة، وما يناسب المجالس الكبرى قد يعد "تجاوزاً أنفياً" لو انتشر في غير مكانه.
تعد العطور من أقدم الفنون الإنسانية وأكثرها تعقيداً، حيث تمتد جذورها عبر آلاف السنين من التاريخ البشري، من الطقوس القديمة إلى أروقة المختبرات الحديثة. إنها ليست مجرد منتج، بل ظاهرة سوسيولوجية وفلسفية تتجاوز الرائحة، لتصبح لغة صامتة تحكي قصص الحضارات وتكشف عن الهويات الشخصية والجماعية. إن فهم القوة الكامنة في قطرة عطر يتطلب تفكيك أبعادها المتقاطعة التي تربطنا بحواسنا، وأجسادنا، ومخيالنا الجماعي.
العطر في المخيال الجماعي: حاسة الشم المنسية
-
افترض سيغموند فرويد أن تطور الحضارة الإنسانية ارتبط بتراجع حاسة الشمّ
يكمن التحدي الأعمق في فهم العطر في المكانة الهامشية التي احتلتها حاسة الشم تاريخياً في الفكر الغربي. فمقابل الحواس "النبيلة" كالبصر والسمع التي ارتبطت بالعقل والمعرفة، وصمت حاسة الشم بالبدائية والحيوانية.
هذا التقييم المنخفض له جذور فلسفية عميقة؛ فمنذ أفلاطون وأرسطو، اللذين اعتبرا متعة الشم أقل نبلاً، وصولاً إلى ديكارت وكانط، تم إقصاء الشم من دائرة الحواس الرفيعة.
وقد ساهم التحليل النفسي مع سيغموند فرويد في ترسيخ هذه النظرة، حيث افترض أن تطور الحضارة الإنسانية ارتبط بتراجع هذه الحاسة. تتفاقم هذه الإشكالية بسبب "فقر المفردات الشمية"؛ فمن الصعب وصف رائحة ما بكلمات دقيقة وموضوعية.
غالبا ما نلجأ إلى استعارة مصطلحات من حواس أخرى، فنصف رائحة بأنها "حلوة" أو "ثقيلة"، أو نكتفي بوصف مصدرها. هذا العجز اللغوي يعزز من غموض هذه الحاسة ويضعها خارج نطاق التحليل الفكري المباشر، مما يجعل الإعلان عن العطر يعتمد بشكل أساسي على الصورة والخيال لتعويض هذا النقص.
التصنيف الفني للعطور
-
العطور ليست مجرد منتج بل ظاهرة سوسيولوجية وفلسفية تتجاوز الرائحة
أمام هذا التهميش الفلسفي واللغوي لحاسة الشم، سعى خبراء العطور إلى إضفاء طابع منظم وموضوعي على هذا المجال عبر وضع تصنيفات دقيقة للعطور. فالتقنية هنا تعوض عن العجز اللغوي والفكري، وتتيح مقاربة أكثر علمية تساعد على تمييز العطور وفق معايير محددة. لتنظيم هذا العالم الواسع، يصنف الخبراء العطور بطريقتين رئيسيتين:
- بحسب التركيز وتشمل: العطر (Parfum)، يليه ماء العطر (Eau de Parfum)، ثم ماء التواليت (Eau de Toilette)، وصولاً إلى ماء الكولونيا (Eau de Cologne).
- وفق العائلات العطرية والتي تضم: الزهرية (مثل الورد والياسمين، وتعتبر الأكثر أنوثة)، والشرقية "Amber" (العود والعنبر والمسك، وترتبط بالدفء والفخامة)، والخشبية (مثل الصندل والأرز، وتتميز بالأناقة)، ثم الحمضية (مثل الليمون والبرتقال، وتتميز بالانتعاش).
الأصول التاريخية للعطور: من المقدس إلى الدنيوي
-
كليوباترا على شرفات جزيرة فيلة - فريدريك آرثر بريدجمان (1847 - 1928)
تشير الأدلة الأثرية إلى أن استخدام العطور يعود إلى أكثر من 5 آلاف عام، حيث نشأ في بلاد الرافدين ومصر القديمة. في تلك الحضارات، لم تكن العطور مجرد كماليات، بل كانت جسوراً روحية تربط الإنسان بالمقدس.
إن كلمة "Perfume" نفسها مشتقة من اللاتينية "Per Fumum" أي "عبر الدخان"، في إشارة إلى البخور الذي كان يحرق لترتفع الصلوات مع دخانه نحو السماء.
اشتهرت مصر، ولا سيما الإسكندرية، بصناعة العطور وتصديرها إلى حوض البحر المتوسط، حيث استخدمت في المعابد، والطقوس الجنائزية، والمناسبات الاجتماعية، حتى أصبحت جزءاً مهماً من الاقتصاد المصري.
كما ارتبطت العطور بالآلهة وبفكرة النقاء والخلود، ودخلت في طقوس التحنيط، وكانت تصنع من مكونات طبيعية مثل زهور اللوتس، وأعشاب القرفة، وراتنجات المر، واللبان.
أما في بلاد الرافدين، فقد طور السومريون والبابليون تقنيات متقدمة لصناعة العطور، مستخدمين إياها كهدايا وقرابين للآلهة. ومع مرور الزمن، انتقل العطر في الحضارة اليونانية من المجال المقدس إلى الحياة اليومية، فأصبح رمزاً للرفاهية والمكانة، وارتبط بالجمال والفضيلة.
وبلغت صناعة العطور ذروتها في العهد الروماني، حيث استورد الرومان المكونات من مختلف أرجاء الإمبراطورية، وزينوا بها الحمامات العامة وأماكن الترفيه، مما جعل العطور جزءاً من أسلوب حياتهم اليومي.
العطر في العصر الإسلامي الوسيط: معرفة طبية وحس جمالي
-
وثّق علماء كبار مثل الكندي وابن الجزار صناعة العطور
لم يكن العطر في العالم الإسلامي الوسيط مجرد رفاهية أو ترف جمالي، بل كان جزءاً أصيلاً من الحياة اليومية للرجال والنساء على حد سواء، متغلغلاً في الطب، والنفس، والمجتمع.
فقد وثّق علماء كبار مثل الكندي وابن الجزار صناعة العطور، جامعين بين المعرفة الطبية والحس الجمالي، ومقدمين وصفات دقيقة تستند إلى نظرية الأخلاط (الحرارة والبرودة، الرطوبة والجفاف) لتحديد خصائص كل عطر وفوائده.
كانت العطور الحارة، كالمسك والعنبر، مخصصة عادة لأصحاب الأمزجة الباردة، فيما وجهت العطور الباردة كالورد والكافور إلى أصحاب الأمزجة الحارة.
لقد حذر الأطباء من سوء الاستخدام، خاصة عند خلط العطور المتشابهة في طبيعتها. إذ قد تؤدي إلى أضرار صحية خطيرة. ويرد في كتب التراث قصة غير مؤكدة عن رجل سرق كمية كبيرة من "عطر الغالية"، فوضعها تحت عمامته، فأصيب بالعمى بسبب حرارتها الشديدة، قبل أن يعالج بمزيج من الماء البارد والورد والكافور.
لم يقتصر دور العطر على الصحة الجسدية، بل شمل التأثير النفسي. فقد صنف الكندي العطور بحسب ما تثيره من مشاعر، فجعل الياسمين باعثاً على الفخر، والنرجس باعثاً على المتعة، ونصح بمزجهما لإحداث شعور يجمع بين العظمة واللذة.
كما ارتبط العطر بالقواعد الاجتماعية والجندرية؛ فالمسك والعنبر كانا عطرين رجاليين بامتياز، بينما ارتبط الزعفران والخلوق بالنساء.
وكان العطر أيضاً مرآة للمكانة الاجتماعية. إذ تميز علية القوم بعطور فاخرة من المسك والعنبر، واحتقروا الروائح الرخيصة أو تلك التي يستخدمها عامة الناس. حتى الوصفات اختلفت جودتها باختلاف الطبقة المستهدفة، فجعلت "الغالية" عالية النسبة من المسك للأمراء، والأقل جودة للعامة.
العطور في العصر الحديث: من يوهان ماريا فارينا إلى "شانيل"
-
يوهان ماريا فارينا (1685 - 1766)
مع مطلع العصر الحديث، ولا سيما منذ القرن الــ 17، انتقل مركز ثقل صناعة العطور من العالم الإسلامي إلى أوروبا، حيث برزت مدينة "غراس" في جنوب فرنسا كمهد عالمي لزراعة الأزهار العطرية مثل الياسمين والورد وزهر البرتقال، مدعومة برعاية البلاط الملكي في عهد لويس الــ 14 ولويس الــ 15، حين بلغت موضة العطور أوجها في قصر فرساي.
وفي أوائل القرن الــ 18، ظهرت في مدينة كولون الألمانية (Eau de Cologne) على يد يوهان ماريا فارينا، متميزة بروائح حمضية منعشة، لتنتشر في أرجاء أوروبا كرمز للنظافة والانتعاش.
ومع الثورة الصناعية في القرن الــ 19، أسهم تطور الكيمياء العضوية في إنتاج مركبات عطرية صناعية مثل الفانيلين والكومارين، مما أتاح ابتكار روائح جديدة غير موجودة في الطبيعة، وجعل العطور في متناول طبقات أوسع من المجتمع.
في أواخر القرن الــ 19 وأوائل القرن العشرين، دخلت دور الأزياء الكبرى مثل "بول بواريه" و"شانيل" مجال العطور، فحولتها إلى امتداد للموضة وأداة للتعبير عن الهوية الشخصية، وهو توجه ما زال مؤثراً حتى اليوم.
الذكاء الإصطناعي على الخط: عطور تلبي كل الأذواق
-
دخلت التكنولوجيا الحديثة بما في ذلك الذكاء الاصطناعي في عملية تصميم تركيبات عطرية مبتكرة
شهد القرن الــ 21 تطوراً كبيراً في صناعة العطور، مع ظهور العطور المتخصصة "Niche Perfumes"، والعطور العضوية والمستدامة.
فقد دخلت التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتقنيات الاستخلاص المتقدمة، لتصميم تركيبات مبتكرة تلبي أذواق المستهلكين بدقة عالية، مما سمح بابتكار روائح جديدة لم يسبق لها وجود في الطبيعة أو إعادة ابتكار الروائح التقليدية بشكل أكثر ثباتاً ووضوحاً.
ويتيح الذكاء الاصطناعي تحليل قواعد بيانات ضخمة للمكونات العطرية وتفاعلاتها الكيميائية، كما يمكنه محاكاة تفضيلات المستهلكين الفردية، مما يجعل من الممكن إنتاج عطور مخصصة لكل شخص بدقة فائقة.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم الذكاء الاصطناعي في تسريع عملية البحث والتطوير، حيث يمكن اختبار آلاف التركيبات افتراضياً قبل تصنيعها فعلياً، وتقليل الاعتماد على المواد الطبيعية النادرة، بما يعزز الاستدامة في الصناعة.
في هذا السياق، أصبح العطر أداة أساسية للتعبير عن الهوية الفردية، حيث يمكن للمستهلك تصميم عطره الخاصة وفق رؤيته ومزاجه الشخصي، مما يعكس اندماج الإبداع البشري مع القوة التحليلية للتقنيات الحديثة.
العطر في المجتمعات الحديثة: من الإعلان إلى الهوية

في المجتمعات الحديثة، أصبح العطر أداة أساسية في صناعة الهوية الشخصية. لم يعد ينظر إلى الجسد هنا ككيان بيولوجي فحسب، بل "كبناء اجتماعي وثقافي"، ويصبح فعل التعطر ممارسة جسدية تكشف عن قيم وتمثلات اجتماعية.
هكذا يضيف العطر طبقة رمزية للجسد تعبر عن الفرد أو الشخصية التي يطمح إليها. وفي هذا السياق، أصبح الإعلان هو الوسيط الأساسي لبيع العطر. ولأن العطر منتج غير مرئي، فإن الإعلانات تبيع "حلماً يتم تصوره وتجسيده في منتج. يعتمد الإعلان على اللغة البصرية لبناء عوالم رمزية عبر عناصر مثل الاسم، والشعار، والزجاجة. تتكرر في الإعلانات 4 مواضيع رئيسية:
العطر كإكسير سحري: يستلهم البعد الروحاني للعطر، ليقدمه كإكسير يتجاوز حدود المادة. يظهر ذلك في إعلان عطر "J'adore" من "Dior"، حيث تتحول الممثلة إلى شخصية ذهبية لامعة، في إشارة إلى أن العطر يمنحها قوة وسحراً خاصاً.
العطر كشريك في الإغواء: يصور مشاهد حسية وعلاقات عاطفية، ليعزز فكرة أن العطر هو سلاح الجاذبية الأول. يظهر هذا بوضوح في إعلان عطر "Eternity" من "Calvin Klein"، الذي يركز على مشاهد رومانسية بين رجل وامرأة، مما يجعله رمزاً للحب والجاذبية.
العطر كدعوة للسفر: يستحضر قدرة الروائح على نقلنا ذهنياً، سواء في رحلة داخلية لاكتشاف الذات أو خارجية إلى أماكن بعيدة. يتجسد ذلك في إعلان عطر "Acqua di Gio" من "Giorgio Armani"، الذي يصور رجلاً في بيئة بحرية منعشة، بما يوحي بالهروب إلى الطبيعة والاسترخاء.
العطر كرمز للرفاهية والمكانة: يعزز ارتباط العطر بعالم الفخامة، ويقدمه كعلامة على المكانة الاجتماعية. يتجلى ذلك في إعلان عطر "Chanel N°5"، الذي يظهر نجمات عالميات في أجواء فخمة، مؤكداً أن العطر رمز للذوق الرفيع والمكانة المرموقة.
العطر في الذاكرة الجماعية للشعوب وتخصيص الهوية
-
يحتل العود والمسك والعنبر في الثقافة العربية والإسلامية مكانة خاصة
الروائح ليست مجرد إحساس عابر، بل هي حراس الذاكرة وحملة التراث الثقافي للشعوب. فالعطر في كل حضارة هو جزء من الهوية الجماعية، يرتبط بطقوس، واحتفالات، ومناسبات اجتماعية.
في الثقافة العربية والإسلامية، يحتل العود والمسك والعنبر مكانة خاصة، فليست هذه الروائح مجرد عطور، بل هي رموز للكرم والأصالة والمكانة.
يستخدم العود في المناسبات الكبرى كعلامة على الترحيب والاحترام، كما أن رائحة البخور في المنازل تحمل معها إحساساً بالألفة والروحانية.
أما في الثقافة الغربية، فترتبط روائح معينة بأحداث ومشاعر مختلفة، فرائحة الخزامى غالباً ما تستحضر شعوراً بالهدوء والاسترخاء، في حين ترتبط رائحة الفانيليا فترتبط بالدفء وذكريات الطفولة. وفي المقابل، تظل رائحة الورد رمزاً كلاسيكياً للرومانسية والحب.
العطر في الأدب والسينما
-
آل باتشينو في لقطة من فيلم "Scent of a Woman"
في الأدب والسينما، يتجاوز العطر دوره كمنتج عادي ليصبح أداة سردية قوية، وعنصراً رمزياً محورياً يساهم في بناء الشخصيات، واستحضار الذكريات، وتحريك الأحداث.
من أبرز الأمثلة الأدبية رواية "العطر: قصة قاتل" لباتريك زوسكيند، التي جعلت من حاسة الشم المحرك الرئيسي للقصة، حيث يمتلك بطلها قدرة خارقة على تمييز الروائح، مما يقوده إلى هوس جنوني بابتكار "الرائحة المطلقة" من أجساد النساء.
هذه الرواية، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، ترسخ فكرة أن الرائحة يمكن أن تكون مصدراً للسيطرة، والجمال، وحتى الشرّ.
في السينما، يستخدم العطر أيضاً كرمز قوي؛ ففي فيلم "عطر امرأة" (Scent of a Woman)، يعتمد الكولونيل الأعمى (آل باتشينو) على حاسة شمه القوية لتخمين هوية النساء وشخصياتهن، مما يبرز قدرة الشم على استشعار ما لا تراه العين.
كما تستخدم الروائح في الأفلام كـجسر زمني يربط بين الماضي والحاضر، حيث يمكن لرائحة معينة أن تستحضر ذكريات أو شخصيات غائبة بشكل فوري، مما يمنح المشاهد تجربة عاطفية وعميقة.
هذه الأمثلة تظهر كيف أن العطر في الفن يتجاوز مجرد كونه زينة، ليصبح لغة بحد ذاتها قادرة على التعبير عن المشاعر الخفية والقصص المعقدة.
المصادر
King, A. (2022) 'Medieval islamicate aromatherapy', The Senses and Society, 17(1), pp. 37-51.
Fadel, D.R. (2020) 'History of the perfume industry in Greco-Roman Egypt', International Journal of History and Cultural Studies, 6(4), pp. 26-45.
Dupuy, A. (2010) Représentations et usages du parfum. PhD thesis. Université Paul-Valéry.
Videsanges. (n.d.). How perfume is made in the age of AI: A new approach to fragrance formulation. Videsanges. Retrieved August 17, 2025, from https://www.videsanges.com/fr/blogs/niche-perfume/how-perfume-is-made-in-the-age-of-ai-a-new-approach-to-fragrance-formulation