حلم أم حقيقة؟

استمرّ صوت الطائرات و"الزنانة" وصوت المدافع. غزة تحاصر عدوّها، رغم أنها تعيش بلا كهرباء ولا ماء ولا دواء ووقود

  • (أ ب)
    (أ ب)

إنّه 3 كانون الأول/ديسمبر 2023. الدنيا ظلام. الغبار يملأ المكان، لا أستطيع الحراك. أنادي بأعلى صوتي:

- أين أنا؟ 

- هل هناك أحد "عايش"؟ 

- أحمد، مرح، محمد، ثائر "أبو أحمد"...

- يا الله، أنجدنا يا الله؟ نحن عبادك التي تعبدك؟

أصوات الصواريخ والقذائف التي تلقيها الطائرات وانفجارها المرعب يوقف القلوب، وترغب بالصراخ، ولكن تعجز الصراخات عن الانطلاق، وتشعرك بالعطش الشديد، والرغبة بالتبوّل. أقرأ المعوذات، وادعُ الله أن يلطف بنا، وأن ينصرنا، وأن يكسر "إسرائيل" والعملاء العرب.

كنا نعيش هادئين في شقّتنا في أحد أبراج خان يونس. نعيش كما يعيش معظم سكان القطاع تحت الحصار بأشكاله كافة، نستمتع ببحر غزة، وهوائها العليل، رضينا بالقليل...الكهرباء تعمل ساعات محدودة، والمياه تصل بشكل متقطّع، ليس كل شيء متوفراً في الأسواق، ولكننا راضون، وطائرة الاستطلاع "الزنانة "، كما نسميها، تحلّق في سمائنا صباح مساء، وقد اعتدنا على صوتها المزعج.

عائلتنا هُجِّرت من عسقلان مع من هاجر في النكبة عام 48، وعاشوا في الخيام في مخيمات اللجوء التي أنشأتها وكالة الغوث الدولية التابعة للأمم المتحدة.

يوم 7 أكتوبر، كان يوماً مشهوداً؛ لم نصدّق فيه أن المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً كتائب القسّام، استطاعت اختراق السياج الحدودي "الآمن" ما بين القطاع، وما بين أراضي 48 التي احتلها الاحتلال الصهيوني ليقيم عليها "دولته" المزعومة. هذا السياج الذي تباهت به "دولة" الكيان، واعتقدت أنه سيمنع المقاومة من اختراقه، والوصول إلى عمق الكيان، انهار كبيت العنكبوت، واستطاعت المقاومة أن تحرّر أرضنا التي أقيمت عليها المستعمرات في غلاف غزة في ساعات، وأن تقتل وتأسر العشرات من جنوده.

كانت فرحتنا عارمة، لأنّ المقاومة أوصلت رسالة للعالم كلّه أن الكيان الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت، وأنّ تحرير فلسطين وهزيمة "إسرائيل" ممكنة إن توفّرت الإرادة، وأننا استطعنا أن نفعل ما عجزت عنه الجيوش العربية في حروبها مع "إسرائيل" منذ 75 عاماً. كنا نعتقد أنه حلم، ولكنه حلم جميل على كل حال، وكان يتمنّى جدودنا أن يروه، وكذلك شهداؤنا السابقون.

اليوم هو الخمسين منذ بدأت "إسرائيل" عدوانها الجوي والبري والبحري. استفاقت باكراً. فليل غزة ونهارها واحد، تنام على صوت الطائرات، وانفجارات القذائف، وتصحو عليها. الكلّ ينتظر دوره، فالعدو الفاشي لا يُفرِّق بين كبير وصغير، وبعد أن عجز عن القضاء على المقاومة، أخذ ينتقم من الأهالي بالقتل، والتدمير، والترحيل القسري نحو الجنوب، علماً بأنه لم يترك مكاناً للعيش الآمن، في جريمة إبادة وتطهير عرقي والعالم في صمت مطبق!

كانت "حياة" الغزاويّة تقوم بإعداد طعام الفطور لأسرتها مما تيسّر من زيت وزيتون وزعتر وبعض أرغفة من الخبز استطاعت الحصول عليها قبل أن يدمّر الاحتلال المخبز الوحيد في الشارع الذي يسكنون فيه.

"حياة" كانت قد فقدت أسرتها مع أول الغارات الإسرائيلية على شمال قطاع غزة عندما قصفت الطائرات منزل أسرتها، واستشهد كل من كان في العمارة: والداها، وإخوانها الصغار، وبعضهم دُفِن حيّاً تحت الركام، فليست هناك معدات تسمح بانتشال وتحرير من بقي حياً تحت الركام، ومعظم الأحيان يتم إنقاذهم بالحفر اليدوي. في غزة ليس هناك مكان آمن.

ما إن تحلّقت الأسرة حول مائدة الطعام، ومع أول لقمة، حتى سمعوا صوت صفير صاروخ ألقته إحدى الطائرات الصهيونية المهاجمة على العمارة التي يسكنونها، والمكوّنة من 10 طوابق. تطايرت النوافذ، وسقطت الجدران، وعمّ الغبار، وخيّم الظلام. غابت عن الوعي وهي لا تدري ما حصل.

عندما استفاقت حاولت النهوض من تحت إحدى الزوايا التي دفعتها قوة الانفجار إليها ولكنها لا تستطيع. أخذت تتحسس جسمها، رأسها يؤلمها، وهناك شيء دافئ يتدفّق على خدها. لا بدّ أنه دم، قالت لنفسها. أخذت تنادي على أفراد عائلتها. تسمع أنيناً يأتي من تحت الطاولة، إنه صوت مرح.

- مرح "إنت عايشة"؟

- "ننن...نعم يما، بس مش قادرة أحرّك رجلي، كنّها انكسرت".

- أحمد...أحممممد "إنت عايش"...(صمت).  

- محمد...محممممد...أحمد... (صمت). 

لا من مجيب، يا الله، الحمد لله، نحن عبادك لماذا تعاقبنا، لماذا تختبرنا، لماذا تقتلنا، اللهم انتقم من "إسرائيل" ومن الدول العربية.

- "مرح تخافيش يما هلأ بيجي الدفاع المدني وبطلعنا، اصبري".

- "أنا عطشانة يما، نحن صغار ليش اليهود بيقتلونا، شو اعملنا لهم، احتلوا أرضنا، وسرقوها، وقتلوا الشباب، وهدموا البيوت".

أصوات تأتي من بعيد.

- "في حدا عايش...في حدا عايش"

- "آه عمو...أنا وماما...بابا وإخواني ما بردّوا علينا".

- "استنوا شوي، اصبري يا عمو هلأ بنطلعكم".

-  "أنا عطشانة يا عمو".

-  "هلأ بنزل لك نربيش وبتشفطي منه لحد ما نقدر نطلعكم".

 بدأتا تسمعان طرق المعاول، والشواكيش، وأصوات الناس تهلّل وتكبّر، ووجدت يدين تسحبانها من رجلها، وأخذت بالصراخ من الألم.

ومن ثم تمّ سحب "حياة"، كان شكلهما مريعاً ووجهاهما لونهما أسود من تراكم الغبار، وشعرهما أشعث أغبر. رجال الدفاع المدني وضعوهما على النقالة ومن ثم سمعت صوت زعيق سيارة الإسعاف، التي نقلتهما إلى مستشفى ناصر في خان يونس، فقد تم تدمير مجمّع الشفاء الطبي بعد حصاره.

بعد أن وضعوا "مرح" على الأرض وفحصها الطبيب ووضع لها جبيرة الجبصين على قدمها، أخذت تهذي:

- "قللي يا عمو، هذا حلم ولا حقيقة؟ هذا مزح ولا عن جد؟ أمي عايشة، أبوي وأخواني عايشين ولا استشهدوا؟ قللي يا عمو". 

أخذت تبكي، ونسيت وجع رجلها.

اقتربت منها أمها "حياة" واحتضنتها وأخذتا تبكيان.

- أبو أحمد وأحمد ومحمد استشهدوا ...آه...آه...آه، الله يرحمهم، الحمد لله، هم الآن عند ربهم فهناك لا يوجد قصف ولا طائرات، كلنا على هذا الطريق، كلنا فداء المقاومة والأقصى، كلنا فداء فلسطين، وعن الأرض "مش راحلين، وراح نلعن فاطس إسرائيل".

استمرّ صوت الطائرات و"الزنانة" وصوت المدافع. غزة تحاصر عدوّها، رغم أنها تعيش بلا كهرباء ولا ماء ولا دواء ووقود. أي شعب هذا، أي صبر هذا، مهما تدمّروا وقتلوا، فإنكم لمنتصرون وسيشهد التاريخ أن غزة، وأن الشعب الفلسطيني بصموده ومقاومته هزم أعتى قوة و"جيشها الذي لا يقهر"، والذي أصبح يستجدي وجنوده يهربون كالفئران.

النصر سيصبح حقيقة يا مرح، وسنعود للحياة من جديد، وسيزهر ربيعنا بشقائق النعمان الحمراء. فالأرض ارتوت بدماء آلاف الشهداء، وأمواج بحر غزة ستعزف لحن الخلود لمن دافع واستشهد في سبيلها. معركة "طوفان الأقصى"، المهر كان غالياً، ولكنْ للحرية الحمراء باب، بكلّ يد مضرّجة يدق.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.