حياة البلاد في علم الاقتصاد

ربط المؤلف علم الاقتصاد بالعلوم الأخرى المعروفة في عصره، ولم يربطه بالثروة فقط، وهو ربط عبقريٌ ينم عن إدراك عالي المستوى لتشابك علم الاقتصاد وتأثيره وتأثره ببقية العلوم.

  • كتاب
    كتاب "حياة البلاد في علم الاقتصاد" للعالِم الشهيد رفيق رزق سلوم.

كتب المؤلف العالم الشهيد رفيق رزق سلوم كتاب "حياة البلاد في علم الاقتصاد" في بدايات القرن العشرين وفي ذهنه ثلاث غايات:

الأولى: مساعدة القارئ على فهم علم الاقتصاد.

الثانية: تعريفه بالمشكلات الاقتصادية التي يدرسها علم الاقتصاد. 

الثالثة: شرح الحياة الاقتصادية في عصره بطريقة مبسطة وسلسة، من دون تعقيد.

وهو يدعو القارئ إلى أن يفهم هذا العلم على نحو ما فهمه، من دون أن يفرض عليه مفاهيم جاهزة، بل يترك الباب مفتوحاً لدراسة علم الاقتصاد بالاسترشاد بالمعايير الخاصة للعصر الذي كتب فيه هذا الكتاب (1912).

وإذا كانت المشكلة الاقتصادية قد صارت منذ عهود بعيدة واحدة من المشكلات التي يدرسها علم الاقتصاد (Economics)، في محاولة للإجابة عن السؤال الجوهري: كيف نشأت المشكلة الاقتصادية؟ وكيف حاول المفكرون حلّها؟، فقد انقسم الباحثون حيال هذه المشكلة إلى فرق، بعضها يحيل المشكلة إلى زيادة عدد السكان كما رأى مالتوس (Thomas Malthus, 1766- 1834)، وبعضها يحيلها إلى ندرة الموارد، وبالتالي لا بد من إدارة هذه الموارد بحكمة وتعقل وبشكل رشيد.

ولقد اختلف الباحثون الاقتصاديون في تعريفهم لعلم الاقتصاد، بحسب البيئة والمرحلة الزمنية التي عاشها أولئك الاقتصاديون.  فقد عرّفه أرسطو (Aristotle, 384- 322 B.C)، بأنه "علم إدارة المنزل"، أما آدم سميث (Adam Smith , 1723- 1790)، فقد عرّفه في كتابه "ثروة الأمم" بأنه "العلم الذي يمكّن الأمة من أن تصبح غنية". وعرّفه مارشال (Alfred Marshall, 1842- 1924)، بأنه "العلم الذي يدرس بني الإنسان في أعمالهم العادية"، وعرّفه بيجو (Arther Cecil Pigou  1877- 1959) بأنه "العلم الذي يدرس الرفاهية الاقتصادية".

أما روبينز (Lionel Robbins , 1898- 1984) فقد وضع تعريفاً شاملاً واسع الانتشار لعلم الاقتصاد،  فهو "العلم الذي يدرس السلوك الإنساني كعلاقة بين أهداف محددة ووسائل نادرة ذات استعمالات بديلة".

أما مؤلف هذا الكتاب، الشهيد رفيق رزق سلوم، فهو أول مفكر عربي تناول علم الاقتصاد بالشرح المبسط مقدماً أول مقاربة لهذا العلم الذي شغل حياة المفكرين منذ عهد الإغريق والرومان وحتى العصر الحديث. 

يقول المؤلف في الصفحة (22) إن "الاقتصاد شأن عظيم بين سائر العلوم، ويبحث في كثير منها، فهو يبحث في العلوم الطبيعية لأن هذه تبحث عن أصل الإنسان والطبيعة، والاقتصاد يبحث فيها أيضا، لأن الإنسان هو العامل في إيجاد الثروة، والطبيعة منبعها الأعظم. وله علاقة أيضا بعلم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والزراعة، لأن هذه العلوم كلها تستند إلى قوانين استحصال الثروة، وكذلك له علاقة مع العلوم الاجتماعية ومشابه لعلم الأخلاق… ثم له علاقة مع الحقوق… وله مناسبة مع التاريخ… وله علاقة بعلم الجغرافية".

وهكذا ربط المؤلف علم الاقتصاد بالعلوم الأخرى المعروفة في عصره، ولم يربطه بالثروة فقط، وهو ربط عبقريٌ ينم عن إدراك عالي المستوى لتشابك علم الاقتصاد وتأثيره وتأثره ببقية العلوم.

من جانب آخر، قدم المؤلف مقاربات لحل المشكلة الاقتصادية، وهي محور علم الاقتصاد. ولقد ظهرت آراء متعارضة حول حل المشكلة الاقتصادية، لكن جميع هذه الآراء عدّت بأن الهدف الرئيس لعلم الاقتصاد هو حل المشكلة الاقتصادية من خلال دراسة المسائل الآتية:

المسألة الأولى: ما هي السلع والخدمات التي تنتج وبأي كميات تنتج؟ فالموارد اللازمة لإنتاج السلع والخدمات محدودة، وذات استعمالات متعددة، وبالتالي مهمة علم الاقتصاد أن يختار ما بين البدائل المتاحة وأن يقرر ما هي السلع التي ستنتج، وما هي السلع التي سيتم الاستغناء عنها ضمن الموارد المتاحة وذلك من حيث نوعها وكميتها. في هذا الإطار يقول المؤلف في الدرس الأول: "نرى أن الحاجات تنتشر بطرق ثلاث: التقليد، والعادة والإرث. كما أنها تموت أو تبطل بها، فيبدأ بترك بعضها شخصٌ أو أشخاص، فيقلّدهم الآخرون ويتعودون الاستغناء عنها بقيام غيرها مقامها، وعلى هذه الصورة تولد وتموت الحاحات".

في رأيي تلك مقاربة رائعة لنشأة الحاجات (Needs)، فهناك حاجات ليست أصيلة، تنشأ نتيجة التقليد أو العادة، وهي حاجات قد تموت بترك الأشخاص الذين أنشأوها بالأساس لها، ومن ذلك الموضة والأزياء، والسلع التي تندثر لعدم الحاجة إليها عند اختراع بدائل أكثر منفعة.

المسألة الثانية: ما هي الطرق التي سيتم إنتاج السلع بواسطتها؟  فهناك أكثر من طريقة فنية للعملية الإنتاجية. وللإجابة عن هذه المسألة يقول المؤلف في الدرس الخامس عشر: "إن تقسيم الأعمال يعمل في تكثير الثروة، كذلك المياكنات هي ركن عظيم من أركانها، وهذه كلها من اختراع الإنسان، وللمخترعين المقام الأعلى في الهيئة الاجتماعية لأننا نعيش ونتلذذ بتراث عقولهم".

هنا يعطي المؤلف للعامل البشري الدور المفصلي في اختيار الفن الإنتاجي باستخدام الآلات ونظام تقسيم العمل.

المسألة الثالثة: ما هو الأسلوب أو الطريقة التي سيتم بواسطتها توزيع الإنتاج في المجتمع بين عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية؟

يقول المؤلف في الدرس الخامس عشر: "إن حياة العملة تعيسة لأن ساعات العمل كثيرة، وداخل المعامل مظلم قذر… نعم، لا يُنكر أنه يقع شيء من هذا القبيل، ولكن قد اهتمت الحكومات اليوم بالعملة، فحددت ساعات العمل وحتمت أن يكون بناء العامل صحياً، ثم أن بعض الشركات تكفلت بإطعام العملة (العمال) وهيأت لهم بيوتاً للسكن… وفتحت المدارس لذراريهم… وفي أوروبا.. وقف جيش العملة… في طريق المتمولين ووضعوا حداً لاستبدادهم".

هنا يدافع المؤلف عن حقوق العمال وضرورة نيلهم نصيباً من الإنتاج واستفادتهم مما يعرف اليوم ببرامج الدعم الاجتماعي والضمان الصحي وتحديد أوقات العمل والوقوف في وجه طغيان الرأسماليين المتمولين.

المسألة الرابعة: ما مدى كفاءة استخدام الموارد؟ هل يتم الإنتاج بأقصى كفاءة ممكنة؟ وما أفضل نسبة مزج بين عناصر الإنتاج؟ وكيف يمكن تخفيض تكاليف الإنتاج للحد الأدنى؟

وهنا يدشّن المؤلف في الدرس الحادي عشر أول نظرية عربية في التكاليف الاقتصادية ورأس المال، ودور ذلك في تحقيق معدلات إنتاج عالية، حيث ميّز بين التكاليف الثابتة (Fixed Costs) والتكاليف المتغيّرة (Variable Costs)، وقسّم رأس المال إلى "مادي ومعنوي وثابت ومتداول وخصوصي وعمومي"، بحيث وضع رأس المال المعنوي في القمة لأنه "بموت العالم تخسر الأمة سعي الرجال مع رأس المال الذي كان قائماً بشخصه". وهذا ما يعرف اليوم برأس المال المعرفي.

المسألة الخامسة: هل الموارد موظفة بالكامل أم أن بعضها معطل؟ أي هل كل عوامل الإنتاج في المجتمع تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية أم أن هناك تعطلاً في جزء منها أو في بعضها؟

يقول المؤلف في الدرس الثالث الصفحة (34): "استحصال الثروة هو استخدام الأشياء المفيدة لنا في الطبيعة لسد حاجتنا إما باكتشافها واختراعها وإما بتكثيرها، فالحديد مثلاً ليس له فائدة ولا قيمة ما دام في باطن الأرض". وهنا يدعو المؤلف إلى استثمار الطاقات والثروات الكامنة وتحويلها إلى سلعٍ منتجةٍ لسد حاجات الإنسان المتزايدة.

المسألة السادسة: هل طاقة الاقتصاد الإنتاجية (أي الإنتاج من السلع والخدمات) تنمو أم أنها ثابتة؟ وهل هناك زيادة في إنتاج السلع والخدمات بين سنة وأخرى؟ أم أن هذا الإنتاج ثابت لا ينمو مما يؤثّر على مستوى معيشة الأفراد؟

يقول المؤلف في الدرس الثالث الصفحة (35) حول ضرورة تنمية الثروة: "منابع الثروة ثلاثة: الطبيعة، والسعي أو العمل، ورأس المال. والثروات ستتحصل إما باجتماع هذه كلها أو بعضها، فالإنسان …. كانت الطبيعة منبع ثروته الوحيدة… ثم خطأ الخطوة الأولى في عالم الزراعة والصناعة واستعان بالسعي والعمل مع الطبيعة لاستحصال الثروة أيضاً، ثم صار يستخدم ثروته التي جمعها في استحصال الثروة أيضاً".

في الدرس الرابع والعشرين الصفحة (69)، يتحدث المؤلف عن تقسيم الأعمال كأحد الوسائط في تكثير الثروة، فيقول: "هو أن يتخصص كل فرد.. بعمل مخصوص، كما أن لكل عضو في الحيوان والنبات عملاً مخصوصاً، فالجذور تمتد في جوف الأرض لتمتص المواد المغذية فتتناولها الألياف والأنابيب وتصعد بها إلى الأوراق فتضفي بفعل النور والهواء وتصبح صالحة للغذاء".

هذه الفكرة هي أساس نظرية تقسيم العمل في علم الاقتصاد الحديث، والتي تعني تجزئة عملية الإنتاج إلى أجزاء مبسطة، ويستند إلى كل عامل صنع أحد أجزاء السلعة، وتبرز ضرورة هذا المبدأ نتيجة تعقد الحياة الصناعية بحيث يعطي تقسيم العمل عدة فوائد: زيادة الإنتاجية، الاقتصاد في الوقت، رضى العمال، الاستغلال الأمثل لرأس المال، زيادة مهارة العامل، خفض نفقات الإنتاج، نمو الإنتاج الكبير في الصناعة. 

وفي الدرس الثاني والعشرين الصفحة (93)، يتحدث المؤلف عن حصة أو أجرة العملة، فالأجرة هي "الحصة التي تصيب العامل من الثروة في مقابل خدمته. وليس هذا التعامل من مبتكرات الأعصر المتأخرة بل هو قديم وإن اختلفت أشكاله".

وفي هذه المقاربة يؤطر الكاتب نظرية الأجور، والأجر في الاقتصاد الحديث هو التعويض المادي الذي يحصل عليه العامل لقاء عمله، بموجب عقد الاتفاق المبرم بينه وبين رب العمل، وفق طريقة دفع محددة متفق عليها بشكل مسبق. والأجر هو تعويض مادي أي بمفهومه العام يأخذ الشكلين النقدي أو العيني، أو كليهما معا. مما يقتضي وجود مفاهيم مختلفة أو متباينة لمقولة الأجر، والتي تشمل الأجر الاسمي والأجر الحقيقي، ولهذا السبب استخدم المؤلف مصطلح حصة أو أجرة العامل، فالحصة هنا قد تكون شيئاً عينياً يحصل عليه العامل من السلعة التي ينتجها كجزء من حصيلة أو غلة الأرض، أو قد تكون أجراً نقدياً يتناسب طرداً مع جهده المبذول في العمل.

وفي الدرس التاسع والعشرين الصفحة (116)، يتحدث المؤلف عن المسكوكات، والتي تقابل في علم الاقتصاد الحديث نظرية النقود والمصارف، حيث يرى بأن "التعامل بمبادلة الأشياء أمر صعب جداً لا سيما في بعض الأشياء التي لا يمكن تقسيمها… وأهم من ذلك كله تعيين القيمة فاخترعت النقود… وصارت تعد مالاً وثروةً كباقي الأشياء". 

لقد اختصر المؤلف مراحل تطور النظام النقدي في النظرية الحديثة للنقود، التي تسرد بأن النقود مرت بعدة مراحل: الاقتصاديات غير النقدية أو النقود السلعية، مرحلة النقود الذهبية والفضية أو المسكوكات، ومرحلة النقود الورقية. وتزامن تطور كل شكل من أشكال النقود مع تطور الإنتاج والحياة الاقتصادية.

وفي الدرس الحادي والثلاثين، والذي هو بعنوان الاعتبار، تأثيره في التجارة- أنواعه- السندات التجارية، والذي يعد فكراً اقتصادياً لامعاً في مجال تنظيم السندات التجارية وأنواعها وتعريف القارئ بطريقة العمل بالسندات والمصارف وطبيعتها. فالمصرف هو مؤسسة تتعامل بالائتمان طويل وقصير الأجل بهدف جمع الأموال الفائضة عن حاجات المدخرين واستخدامها في عمليات الاستثمار والنشاطات الاقتصادية المختلفة. وهذا ما يجده القارئ في الدرس الثاني والعشرين بعنوان "البنوك"، التي تنحصر أعمالها "على الغالب في ثلاثة أمور: الدين، فتدين مالها بالربا (الفائدة) للتجار المعروفين، بسند أو بحسابٍ جارٍ يكون بينها وبين ذلك التاجر". وهذه الفكرة هي اختصار ونواة لفكرة الائتمان في الاقتصاد الحديث.

ورغم أن المؤلف لم يفصل في أنواع البنوك ووظائفها حسب نوعها، إلا أنه عرّف بوظائف البنك العامة، وتحدث عن الشِيك وإصدار الأوراق النقدية (البانقنوط)، وفرّق بينها وبين السندات، كما فرق بينها وبين السند وبينها وبين النقد.

وفي الدرس الرابع والثلاثون، أفرد المؤلف للبنك العثماني تفصيلاً عن نشأته عام 1863، وهو البنك الرسمي (المصرف المركزي)، وتحدث عن مجلس إدارة البنك والقوائم النقدية، والاحتكار، شارحاً أن هذا البنك يتبع في جميع معاملاته قوانين الدولة العليا وهذا يقابل في علم الاقتصاد الحديث أنه بنك البنوك وبنك الحكومة ومستشارها المالي.

وفي الدرس السادس والعشرين، يقفز المؤلف إلى ميدان أصبح في العصر الحديث منفصلاً عن علم الاقتصاد الذي يدرس بشكل أكاديمي في الجامعات، وهو ميدان الجمارك والذي يعد ميداناً أكاديمياً مستقلاً تحت عنوان التشريعات الجمركية، فـ"الكمرك، هو الرسم الذي تأخذه الحكومة على الأشياء (السلع أو البضائع Goods) الصادرة أو الواردة، وهذا تابع لأصول الحماية (الضرائب الحمائية)، وهذه الرسوم تشكّل قسماً كبيراً من واردات (إيرادات) الحكومة. وفي هذا الميدان يتحدث المؤلف عن ميدان الضرائب غير المباشرة أو ضرائب الإنفاق التي تُفرض على السلع أثناء عبورها الحدود الجمركية دخولاً وخروجاً، أستيراداً وتصديراً، وهي ضرائب غير مباشرة لا يشعر المستهلك النهائي بعبئها، لأنها لا تُفرض بشكل مباشر. كما تحدث المؤلف عن أنواع بعض الضرائب التي يقابلها في علم المالية الحديث الضرائب: الاتفاقية، القيمية، النوعية، الحمائية، الإيرادية.

ثم يتحدث المؤلف عن "الكامبيو"، والتي تعرف اليوم بالكمبيالة، والتي هي نوع من الحوالة المصرفية التي تسمح بتحويل جزء من أموال أحد المودعين في المصرف إلى حساب مودع آخر في نفس المصرف لقاء عمولة متفق عليها، وذلك لتسديد ثمن سلع أو لقاء خدمة معينة، وهذا ما يعطي مؤشراً عن تطور العمل المصرفي في بدايات القرن العشرين. 

وفي الدرس السابع والثلاثين، يتحدث المؤلف عن استهلاك الثروة، ويعطي القارئ فكرةً عن استهلاك رأس المال. ففي علم الاقتصاد الحديث يتم التفريق بين رأس المال الفني أو العيني أو الأصول الرأسمالية، والذي هو رأس المال والسلع التي لا تستخدم للاستهلاك بل تستخدم في العملية الإنتاجية عدة مرات، إذ يقول في الصفحة (142): "تقسّم الاستهلاكات إلى قسمين كبيرين: استهلاكات مثمرة، واستهلاكات غير مثمرة". 

ورأس المال الفني يأخذ أحد شكلين اثنين: رأس المال الثابت ورأس المال المتداول. فالأول يستخدم في عملية الإنتاج عدة مرات، والثاني يستخدم مرة واحدة وبعدها يفقد شكله وهيكله ومنفعته الاقتصادية. 

خصص المؤلف الدرسين الأخيرين (الأربعين والحادي وأربعين) للحديث عن واردات (إيرادات) الدولة من أملاكها والرسوم والتكاليف (الضرائب) بأنواعها، حيث عد بأن "الويركو" أو التكاليف أو الضرائب هي "دين على كل فرد يدفعه للحكومة في مقابل خدمتها له كتخليص الحق وحفظ الأمن، فالنفع متبادل بين الطرفين ولا يجوز أن يعفى أحد من ذلك".

وبحق، فذلك تأسيس لعلم اقتصاديات المالية العامة الذي يدرّس اليوم في الجامعات، كما أنه شرحٌ لفلسفة الضريبة، فالضرائب اليوم هي من أهم إيرادات الدول التي تمكّنها من تقديم الخدمات، وتزداد أهمية مساهمة الضرائب بازدياد الخدمات التي تقدمها الحكومات للأفراد، من طبابة وتعليم ومواصلات وبنى تحتية.

ثم يتحدث المؤلف عن "البودجة" أي الميزانية، التي توازن بين الواردات (الإيرادات) والمصارفات (النفقات)، "فإذا زاد المصروف عن الوارد (عجز الموازنة)، فلا بد حينئذ من الاستقراض (الدين العام)".

وهنا ينظّم المؤلف بنود الميزانية، بحيث "يراعى التعديل الوسطي في السنين السابقة التي لم يحدث فيها شيء اضطر الحكومة إلى مصروف فوق العادة… وإذا اضطرت الحكومة إلى مصارف (نفقات)، خصوصية فوق العادة (طوارئ وأزمات اقتصادية) وقت البودجة، يلحق بها ذيل (ملحق)، يسمى تخصصات فوق العادة". 

إن الموازنة بين بندي الموازنة العامة بشقيه الإنفاق الجاري والاستثماري مع بند النفقات العامة هو من المسائل بالغة الأهمية اليوم في عمل وزارات المالية، وهو عمل لا يقدر عليه سوى أهل الاختصاص، وغالباً ما يكون تقديرياً لأنه من الصعوبة بمكان ذكر النفقات العامة كافة، فهناك نفقات سرية لدواعٍ أمنية وعسكرية وسياسية. وقد برع المؤلف في وصف بنود الميزانية وفق مصطلحات زمانه، وهو وصف علمي دقيق حيث يقول في الصفحة (152): "تمر البودجة من أربع حلقات: الترتيب، القبول والموافقة، الإجراء، التفتيش". وهذه الحلقات يقابلها اليوم: إعداد مشروع الموازنة، التصديق عليها، إقرارها، مراقبة تنفيذها.

وفي ختام الكتاب، يتحدث المؤلف عن الاستقراضات، والتي تعني الدين العام الحكومي، حيث تلجأ الحكومات إلى الاقتراض من الداخل (المصرف المركزي) أو من منظمات مالية دولية، أو من دول صديقة، لسد العجز في الموازنة العامة، وهنا يسميها المؤلف "الديون العمومية"، والتي تكون على نوعين "منتظمة وغير منتظمة". 

باختصار، إن القارئ خلال صفحات هذا الكتاب سوف يلتقي بالمصطلحات الاقتصادية التي كانت سائدة في بدايات القرن العشرين، كما سيلتقي بشرح وافٍ وكافٍ عن سيرورة الحياة الاقتصادية في بلاد الشام وغيرها من الدول، فضلاً عن أنه سوف يتعرف على آليات عمل الاقتصاد بطريقة سهلة وشيقة وبأمثلة قريبة لذهن القارئ العادي غير المختص، من دون تكلف أو تعقيد، وبما يؤدي في النهاية إلى فهم آليات عمل الاقتصاد بشكل علمي، وهذه الأمور هي ما تعطي الكتاب أهميته، التي تنبثق من أهمية الكاتب الشهيد، الذي نتمنى لو أنه عاش بيننا حتى بدايات الثورة المعرفية والتكنولوجية والاقتصاد المعرفي.

*كتاب (حياة البلاد في علم الاقتصاد) لرفيق رزق سلوم، أحد شهداء 6 أيار / مايو 1916، هو أول مؤلف في علم الاقتصاد الحديث باللغة العربية، وقد وضعه رفيق رزق سلوم وهو لا يزال في الـ21 من عمره. وقد أعيد طبع الكتاب في دمشق مؤخراً عن دار دلمون الجديدة، تقديم وتدقيق إبراهيم علوش.

**د. ذو الفقار عبود  أستاذ الاقتصاد في جامعة تشرين.