خليل الرز في "منديل بالفراولة".. متجولٌ يرمي اللآلئ

سرعان ما يصبح الشاب السوري جزءاً من المجتمع الآذري، ويتعرف إلى رايا، وخلال وقت سريعٍ يقع في حبها.

  • رواية
    رواية "منديل بالفراولة" للروائي السوري خليل الرز.

يؤسس الكاتب السوري خليل الرز (1956) عبر روايته "منديل بالفراولة"، الصادرة حديثاً عن منشورات (ضفاف- اختلاف)، عالماً ساحراً قوامهُ سردٌ متوالد عن سرد آخر، وحكاياتٌ تتسلسل إلى ما لا نهاية. تنشأ القصة على لسان البطل، وهو شابّ سوري حالم، يسكن العاصمة الروسية بين مجموعة من العرب والآذريين الوافدين للعمل. ويعمل كاتباً لصالح صحيفة أنباء موسكو في ثمانينات القرن الماضي. وعبر جملته الأولى "لم يكن لباب غرفتي قفل..."، نظن أننا سنقع على عالمٍ غير مستور، وربما غير واقع، بل نوقن بإمكانية أن يتداعى ويتفكك ويتحلل إلى جانب طاولة ملأى بالكتب، وقصاصة ورق، وثلاث حبات من الفراولة. إلا أننا نكتشف أن الشاب القادم من مدينة الرقة، على عكس ذلك، طافحٌ بالخبايا والأسرار، ذلك أنه يحيا في العاصمة  منذ زمنٍ، ويبدو صاحب عقلية تعي صراعاتها الداخلية، وتنشئ على الدوام حواراتٍ ذاتية قد تتطور لتخلق عالماً حقيقياً وقائماً عبر التهيؤات،  ومن خلال تقديمٍ ساحرٍ في إظهار اغترابهِ وكيفية تعامله مع أدق التفاصيل، والتي لها أن تتحول إلى تخيلات تعبر عن قدرته على التواجد في أكثر من مكان في لحظة واحدة. 

سرعان ما يصبح الشاب جزءاً من المجتمع، وهناك بين مجموعة من الآذريين، يتعرف إلى رايا، وخلال وقت سريعٍ يقع في حبها، وتبهرهُ صفاتها، ويذهب في الحب لأبعد ما هو معهود عنه، إذ يرصد أفكارها، ويتنبأ بانفعالاتها مثلما يجلس ساعات في مقعد أو في قطار يرصد شغفه الغريب حيالها. ما يصيبهُ بالحيرة، ذلك أنه يجد في علاقته غير المتوقعة بها فرصة سانحة لتصفية حساباتها مع زوجها، صاحب النفوذ في العاصمة باكو. إلا أنه يتحسس تجاهها مشاعر طازجة وفريدة، وهنا نقع أمام نوع فريد من الحب؛ حبّ يشتعل برغم المسافات الطويلة، ويتقد بغرابة أمام  قصر فترة التعارف، ويتحول إلى مشاعر جارفة تدفعه للتشكيك بما يحدث معه. فههنا عاشق يحيا دمعاً لذيذاً، وفي الوقت ذاته يعاني أسىً لا يوصف، الأمر الذي يؤسس لحملة من التهيؤات المستعرة، ويجعله قابلاً للانجرار وراء احتمالاتها.

ينثر الكاتب بالقصص، كمن يمشي رامياً على جانبيه أثمن اللآلئ، عبر مزجها بوجبات أدبية دسمة. فقد يستدعي عبر أحاديثه مع رايا حكاية موت المتصوف الآذريّ عماد الدين النسيمي، وهنا يظهر التباين في اختلاف تلقي القصص بين ثقافتين متباعدتين، وهو ما يسقط على عملية القراءة برمتها؛ فكل قارئ سيلقي بظلاله الذاتية والنفسية على النص، وهو أيضا ما يذهب إليه في حواراته الأخيرة حول رمزية منديل ديدمونة في مسرحية شكسبير الشهيرة "عطيل"، إذ يحدس السارد بإجرام قتلة النسيمي، فيما ترى رايا القصة مزجاً ثقافياً بين حضارتين، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل تنهمر حلميّةٌ أدبية كما في القصص التي حملت روح الأدبية الروسية، فنراه يستحضر بعد أحاديث طويلة مع ذاته صورة الحال التي سيؤول إليها بعد نقل "آبدول" لحقيقة ما يحدث بينهما إلى زوج رايا، على غرار ما يفعله إياغو في المسرحية الشهيرة: "لم أكن واثقاً طبعا بما إذا كانت ليالي دوستويفسكي البيضاء تستطيع أن تفعل شيئاً لنشيش زيت المقلاة، وما كان ثمة ضرورة لألتقطها وأنكب على قراءتها.." لذا نجده يردد مراراً بينه وبين نفسه: "فلنكن في حفظ الرب.. فلنكن في حفظ الرب".

تختلط حياة الشاب مع انفعالاته، ومع عالم الآخرين المحيطين به. وتمتزج تجاربه الماضية بحياة من ينشدُ عالماً خاصاً، فترتسم عذاباته في مواجهته نفسه أولاً، والعالم الآخر ثانياً. نحن إذن بصدد عالمين متناحرين: ذاتهُ التي تقتات على تأجج صراعاتها، وعالمٌ خارجي يضغط عليه ويمنعه من إسكات ثرثرته الحكائية، ويجعله عاجزاً عن إيقافها وتبديد حضور العالم الخارجي فيها. قد نجده ضائعاً في مثلث الحب، بين منطقية عواطفه، وعدم قدرته في الوقت ذاته على التخلي عن المرأة التي أحب. يبدو هذا جلياً في مشهد لقائه الثلاثي مع رايا وزوجها. إذ نصطدم بفرادة عالمه المصاغ من الحيرة والتردد وفقدان الثقة، مثلما يبدو ذلك واضحاً عبر نكوصه لطفولته أثناء حديثه عن عائلته في الرقة، واستذكاره لعذابات الحياة آنذاك، ولنوبات العجاج المتكررة، وللسباحة التي لم تحدث في نهر الفرات، كله عبر محاولات لمشافاة النفس، وبحثاً عن الراحة والسكينة.

تنوس الرموز وتنمو بين تفاصيل الرواية، إذ يلتقي الشاب بشكل عرضي بالفتاة نونّا، وتجعل المصادفة ذلك اللقاء أمراً عادياً. يحكي لها عن حبه لرايا، فتدخل عالم تخيلاته، وتُعجب بحمله دمية يتحدث إليها مراراً، تلك الأحاديث التي تكشف عمق صراعه مع العالم ومع نفسه: "أعتقد أنه ليس من الضروري أبداً لكي تجري حياة شخص من الأشخاص في داخلك، أن يكون هذا الشخص موجوداً أو ممكن الوجود في أي مكان". لنجده بعد أسابيع في منزل جدة نونّا، وبين مجموعة من أصدقائها وأقاربها. وهنا تظهر أجمل المشاهد، إذ تدور حواراتٌ بتوجيه المعلم مكسيم فاديميتش حول منديل ديدمونة، ورمزية الفراولة التي تتحدث نونّا عنها بهوسٍ. فتعود الأحاديث لاستعادة الدور الهام الذي لعبه المنديل في تاريخ الفراولة، فقد كانت قبل شكسبير، رمزاً للكمال والاستقامة والعفة، وكانت على خلفيات اللوحات المقدسة، وعلى بعض الكتب الدينية، فيما تحول ذلك إلى معنى خليع على يد غوغول في رواية النفوس الميتة، وكذلك الأمر في رواية الدخان ل تورغينيف. وهنا تجري الحوارات عن نقطة التحول التي صنعها شكسبير في اختياره للفراولة وتطريزها على منديل بطلته، وإيضاح التضاد القائم بين الدلالتين، بين الكمال والعفة من جهة، والشهوانية من جهة أخرى. ليطرح المنديل في مسرحيته، ويفسرهُ الساهرون بكونه لم يرد للثمرة أن تتخذ دلالة شافية واحدة، بل لربما أراد منحها دلالات مفتوحة وناقصة، لها أن تختلف تبعاً لحامل المنديل. كما حال بطل روايتنا، وكما الرواية ذاتها، إذ نجد أننا في النهاية أمام سيناريوهات متعددة الاحتمالات، تمسي قصصاً لا تُنقلُ، ولا تُخلّصُ، بل تُعاش بكل تفاصيلها. وهي بذلك تشبه ما نصادفه في اللوحات والقصائد والمسارح التي لا تتملق الأذواق الدارجة، وتدفعنا في المشهد الأخير للتساؤل بتلذذ: هل حقا حدث كل ذلك؟ "في الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء كنتُ، في داخلي، أتجول مع نونا في حديقة النباتات، وآكل مع رايا محشي ورق العنب في شقة صديقتها أنوش، وأفكر بتصليح دراجتي المعطوبة في الموزع لكي نتنزه عليها أنا والدمية، فقد كان الطقس جميلاً جداً في ذلك المساء".

*كاتبة من سوريا