خليل صويلح: أعرافُ الصّنعةِ الروائية

"لن يجد الروائي من ينصف كتابه بما يستحق، لا مجلات ثقافية مقروءة، ولا منابر رصينة، ولا نزاهة أو شجاعة نقدية إلا في ما ندر".

  • كتاب
    كتاب "حفرة الأعمى" للروائي السوري خليل صويلح.

يُكمل الكاتب السوري خليل صويلح في كتابه "حفرة الأعمى" (الصادر عن دار نينوى 2022) ما بدأهُ في كتاب "نزهة الغراب" من تقديم تجربته في القراءة والكتابة والنقد، إلى استثمارهِ كل الطرق السردية، والخطط الممكنة ليجنِّبَ القارئ والكاتب معاً، السقوط في حفرة الأعمى. إذ ينظم خريطة طريق سردية، موجهاً الوصايا لنفسه، قبل توجيهها للآخرين، وبتحديقة مركزة نحو الأعراف التي تؤطر السرد بالمحددات الفنية والجمالية، ومحللاً أسباب هيجان الموجة الكاسحة في كتابة الرواية، حتى اقتراح الحلول عبر دراسات نقديةٍ تقتفي أثر الأخطاء الكبرى في الكتابة.

الكتابة بوصفها ضرباً من الانتحال

"في سباق الجري المحموم بين المخيلة الروائية والوقائع اليومية التي يصوغها كوكب طائش مجنون، سيقع الأدب في أقرب حفرة". من هنا تبدو ورطة الأدب في عالم اليوم، إذ تكمن المعضلة في نسيان الكتّاب عاملَ الاختزال كضرورة بلاغية وجمالية. ففي الرواية، كثيراً ما يقع الروائيون في شرك الحشو والوصف الفائض عن الحاجة، وهو ما أدى إليه الخطأ في تفسير معنى السرد وخطورته، إذ لم يعد الأمر بالنسبة لمن يكتب يتعلق بامتلاك حكاية بمقدار ما يعنيهِ إعادة تركيب حيوات أشخاصها وأمكنتها: "إخلاصكَ للحكاية كما حدثت.. أولى علامات الاحتضار السردي وعطب المخيلة". 

من هنا يعوّلُ خليل صويلح على دور المخيلة لقاء انهمار العناوين، وتكاثف أعمالٍ غابت عنها الذائقة، ليكتفي القارئ والناقد بما يحصل على الجوائز، ولتختصَرَ المواسم الثقافية بحفنة عناوين تودي بشطب أسماء من لم يحصدوا جائزة: "أنت لن تحصل على لقب روائي من دون أن ترصع صدرك بجائزة". لتُعزَى رداءةُ الحال إلى غياب الناقد الحقيقي، وإلى فقدان النقد وظيفته، وتخليه عن دوره. ذلك أن الأبواب باتت مشرعة لصالح انتشار الشعبوي والعشوائي بوصفه أدباً، وليحدث الأمر كما لو أنه احتلال أكثر منه إقامة جمالية، ومع فقدانه أدواته في الاشتباك مع النصوص، تكاثرت المواقع الركيكة و(الغروبات) الثقافية لاقتحام الساحة، ولتصدير كل ما هو هش وفارغ، وليتورط القارئ والكاتب معاً، في مقتلة السرد، وتعويم نسبة السفه والحمق في الكتابة لقاء نسبة الحنكة والمعرفة.

وصفةٌ للتخلص من الوهن السردي

يعمل الكاتب في الأجزاء الأولى من كتابه على تفسير كلمة "سرد"، من خلال الانكباب الحصري على متطلباته، وإقصاء لما عداها. فاحتراف الأدب كما يقول يحتاج إلى حاسة من يعتنق ديناً. ومن هنا يفتش عن وصفة للتخلص من الوهن السردي الذي اجتاح حمى الكتابة الروائية، إذ لا بريق مدهشاً في عمارات النصوص، ما يدفعُ نحو تحليل طرق التخلص من البدانة في السرد: "في حال كنتَ غشيماً في السرد، ستقع في الحفرة باكراً". تبدو الحنكة الروائية مطلباً، فامتلاك مهارة التخلي، وتشذيب النصوص مما يعلق بها، يشكل تحدياً بالنسبة لأي كاتب، ويعزز الحاجة إلى اختزال شخصياته وإحاطتها بسورٍ منيع. لتتوالى الأفكار عبر خطاب نقدي متعدد الإمكانات، وليس عبر إسداء النصائح ولا المواعظ التي تعج بها الكتب الإرشادية، وورشات كيف تكتب نصاً في 15 يوماً، إنما من خلال خلطة نقدية رفيعة، وتذوقٍ لاذعٍ لما يضخه عالم النشر المجنون. من دون أن يكتفي الكاتب بذكر تجارب روائية ونقدية مضيئة في عالمي الأدب العربي والغربي، بل يُسقط الأمر على نفسه، مبدياً خطواته الأولى في الكتابة، بدءاً من اختباره أسماء شخصياته، إذ لطالما احتاجَ أوقات تأمل طويلة في الوقوع على اسم مناسب لهذه الشخصية أو تلك، تبعاً لمعايير عديدة، كالبيئة مثلاً، إلى غربة بعض الأسماء عن مكانها الأول. وإلى الاسم الفخ، وتلك الأسماء التي شكلت التجربة بذاتها، فيما لعبت أخرى دور بيضة الحكاية وذروتها.

خلطة من المشهيات السردية

".... إعادةُ السرد العميق إلى مجرى النهر وحسب". من هنا يدعو الكاتب إلى التحلل من قواعد الأنساق لمصلحة الكثافة السردية كقوة تحيي النصوص، وهو ما لا يجيء بالاستسهال، فأن يحيا المرء الكتابة يعني أن يرتهن للشغف والاكتئاب والوحدة. هي دفقة هائلة من العوامل، وإسهابٌ في شرح ما يعيد للرواية مهمتها الجمالية، بما يكتب لها النجاة بعيداً عن احتضار الذائقة العامة، سواء في الإرسال أم التلقي، مفضلاً مصطلح المطبخ الروائي في تفسير عمليات طهي النصوص لجهة الإضافة والحذف والتقطيع، وبما يقصي القارئ بعيداً عن تتالي قوائم أكثر الكتب مبيعاً، وإيقاظه من سباته، ليس بمنع الروايات المسلية أو الممتعة، بل بإعادة السرد العميق إلى مكانته، بمعزلٍ عن خلطات مختلفة المقادير وأخرى مشبعة بشحوم الترهل والسطحية. لذا نجده ينبش المخبوء في الأدب، ويخرج نصوصاً مهملة، وأرصدة سردية قابعة في الظل، غيبتها مطحنة روائية تمزج القمح والزؤان معاً، وليخرج صوته مستاءً من فقدان الروائي مهمته في الاستيلاء على أدمغة القراء والحفاظ على انتباههم، وتحوله إلى مكنةٍ تحكي القصص كما يرويها الآخرون، لا كما تتطلبها أعراف الصنعة الروائية كخلطة هائلة من الأحلام، والمشكلات، والمشهيات السردية.

رحلات استكشاف للحالة الإنسانية

مبدياً فضائل الجدة في هندسة السرد ونسف ما يتوّه البوصلة نحو ما هو نافر، يطال الكتاب عملية القراءة عبر تفكيك عمل الحواس حيال ما يطبقه الكاتب من استعارات، خصوصاً حاسة النظر، والتي تولد الحاجة الملحة إلى تصنيع الخيال، وتخدم صوغ وقائع لم تحدث تبعاً لمصلحة الحقيقة الأدبية كخيار فني. من هنا يخرج صنع الله ابراهيم، والجاحظ، وبوتزاتي، إلى جانب ابراهيم أصلان وغيرهم، كأمثلة حيوية لما أسموه معنى اقتفاء الأثر. يحضر ابن رشد كرافدٍ تخييلي وامتحانٍ يفكك الوثيقة التاريخية، ويضعها في مهب التخييل، بصورةٍ تعيد للروائي أدواته في استكشافه للحالة الإنسانية، وشحنها بجرعات فنية وجمالية تجيب عن تساؤلاتنا حيال مكانة الرواية وسط كل ذك الصخب، وتضيف إلى رسوخ الأسس الصلبة لما يُكتب، بعيداً عن المدائح، والقوائم التجارية، وصور أغلفة الكتب في المعارض العامة. 

"لن يجد الروائي من ينصف كتابه بما يستحق، لا مجلات ثقافية مقروءة، ولا منابر رصينة، ولا نزاهة أو شجاعة نقدية إلا في ما ندر، فاكتفى بمدائح قراء مجهولين، أو صورة لغلاف كتابه في أحد المعارض، أو بقائمة قصيرة لإحدى الجوائز العربية، مغتبطاً بأنه مازال حياً في سجلّ نفوس الكتابة، حتى لو كان اسمه أسفل الفهرست!".