دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي

يعرض الكاتب رؤية فكرية ثاقبة وتصوّراً واضحاً لحركة الفكر الإسلامي في ميادين التاريخ الإنساني، واستعراضاً أميناً لصورة الإسلام، بتراثه المتنوّع الغني والمنفتح على الحضارات الأخرى.

  • كتاب
    كتاب "دعوة إلى العقلانية" للمفكر السنغالي سليمان بشير ديان.

الكتاب: "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي".

المؤلف: سليمان بشير ديان، فيلسوف وأكاديمي سنغالي، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون (1988)، أستاذ مبحث الفلسفة بجامعة كولومبيا الأميركية، يدرس تاريخ الفلسفة والفلسفة والصوفية في العالم الإسلامي، والفلسفة والأدب الأفريقيين، فضلا عن الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين.

صدر الكتاب عن: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. (تعريب: طلعت فاروق).

يقدّم الكتاب قراءات متعدّدة لنصوص فلسفية مختلفة تمتد عبر التاريخ الفكري الإسلامي، من ابن سينا والغزالي، مروراً بابن طفيل وابن رشد وصولاً إلى الأفغاني ومحمد عبده وأمير علي وعلي عبد الرازق ومحمد إقبال. 

يتوجه الكاتب اساساً إلى تلبية حاجة ملحّة اليوم، عنده وعند كثيرين، وهي الدعوة إلى إعادة "العقلانية" إلى مكانها المعتبر ضمن حراك الفكر الإسلامي، والعمل على الإستحضار المتّزن لروح القرآن الكريم، وتعزيز القدرة على نقد الذات وتقويمها بحيث تستعيد الحياة الفكرية الإسلامية حيويّتها وإنفتاحها، كمنطلق لتحقيق التقدّم واللحاق بالموكب الذي لا يتوقف.

ويعرض الكاتب رؤية فكرية ثاقبة وتصوّراً واضحاً لحركة الفكر الإسلامي في ميادين التاريخ الإنساني، واستعراضاً أميناً لصورة الإسلام، بتراثه المتنوّع الغني والمنفتح على الحضارات الأخرى. وهو يطرح بين دفتيّ كتابه تساؤلات عن الإسلام وعلاقته بالفلسفة ومدى حاجته، كدين، إليها. كذلك يعرض مسيرة حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي، فيقدّم رؤية ثاقبة لعملية التثاقف بين الفكر الإسلامي والفكر والفلسفة العالميين، ويُتيح عرضاً فكرياً ــ تاريخياً للإسلام ضمن حركة الفكر الفلسفي الإنساني من خلال حواراته مع مقولات التراث الفكري الأخرى، وتأثير التوجهات الفلسفية، الإغريقية أساساً، على الفلسفة الإسلامية.

يتناول سليمان بشير ديان كذلك مسألة تطوير اللغة العربية وتبديل النظرة إليها، من لغة محاطة بهالة مقدسة باعتبارها لغة النصوص الدينية المؤسِّسة، إلى لغة فلسفية رائدة في جميع العصور والمجتمعات، مؤهلة للخوض في تساؤلات العقل الكبرى حول الوجود وماهيته، بالإضافة إلى التفكير في حياة الفرد البسيطة. ويعمل على تسليط الضوء على جدالاتٍ فكرية عديدة دارت قديماً في هذا الصدد، ونشطت بشكل واضح مع تأسيس المأمون "بيت الحكمة" الذي اضطلع بمهمة ترجمة الفلسفة الهيلينية، اليونانية، إلى اللغة العربية.

عن منابت كتابه يقول ديان إنها "نابعة بدرجة كبيرة، من تجربتي في عقد حلقات دراسية، استمرت عدة سنوات حول الموضوع". وفي سياق عمله الفكري عمد إلى طرح أسئلة وتقديم إجابات عنها؛ من ذلك تساؤله حول معنى أن يكون واحدنا إنساناً، ومسؤوليته من حيث كونه إنساناً، تجاه الطبيعة، ليصل إلى التساؤل عمّا إذا كان التصوّف يتعارض مع العقلانية. 

يذكّر الكاتب بأن كلمة "الفلسفة" هي لفظة أجنبية معرّبة، ومجالاً فكرياً اعتبره العرب في مرحلة ما، جديداً منفصلاً ولا يقع ضمن نطاق علومهم الدينية ولا الدنيوية، إلا أنها لم تكن غائبة عن حراكهم الفكري في الحقيقة والواقع. وتشهد المكتبة العربية على زخم هذا الحضور وتأثيراته في اليقين الجماعي للمسلمين، ما تجلّى بشكل واضح في كتابات العديد من الفلاسفة العرب الذين أغنوا التراث الفكري الإسلامي بموضوعات فلسفية أكدت الحضور القوي لمناهج الفكر والبرهان.

"ضربة" الغزالي

لئن شهد التفكير الفلسفي داخل المجتمع الإسلامي ضربة مبكّرة وقوية مع كتاب "تهافت الفلاسفة" للمفكر أبي حامد الغزالي المنتمي إلى مذهب الأشعرية (التي خرجت من رحم المعتزلة، رافضةً التصور العقلي المحض لله سبحانه)، إلا أن تأثير الغزالي لم يعمّر طويلاً من جهة كما أنه أطلق حراكاً فكرياً مناهضاً لتوجهات أبي حامد، ما أغنى مكتبة الفكر الإسلامي بالعديد من المؤلفات الثمينة. وبعد عقود قليلة جاء القاضي الفقيه والفيلسوف ابن رشد ليُعلن تمام الإنسجام بين الدين والفلسفة، ووصل إلى حدّ المناداة بجعل دراسة الفلسفة فرضاً دينياً، على الأقل بالنسبة إلى المؤهلين فكرياً، أي الراسخين في العلم.

ويعود للفيلسوف السنغالي المسلم ديان الفضل في الإضاءة على حقيقة باتت واضحة اليوم. فقد استنتج بنظرة لمّاحة أن تاريخ الفلسفة في الإسلام هو في واقعه جزءٌ حيّ من تاريخ العلوم الإسلامية ذاتها، سواءً منها تلك التي أبدعها المسلمون أنفسهم، كالفقه والأصول والتفسير والحديث والصرف والنحو والمعاني والبديع والبيان... أو تلك التي تُرجمت من غير المسلمين، ثمّ صارت جزءاً من علوم المسلمين، كالطبّ والنجوم، والحساب، والهندسة، والمنطق.

والواقع أن العديد من الباحثين اعتبروا يعقوب بن إسحاق الكنديّ المتوفّى 260هـ، أوّل فيلسوفٍ مسلم ترك آثاراً ومؤلّفاتٍ في الفلسفة. وعلى العموم، فإن ترجمة أعمال أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وغيرهم إلى العربية، من بغداد إلى نيسابور إلى الإسكندرية إلى قرطبة إلى فاس إلى تمبكتو وغيرها، أسهمت بقوة في تطوير العلوم، والفلسفة على وجه الخصوص، في المحيط العربي بشكل عام. كذلك ساهمت في تمهيد أرضية خصبة ضمن مباحث المفكرين المسلمين لتنمية الروح النقدية الواعية، من خلال الجهد التنظيري الهادف إلى الإستنارة بالمعرفة وتخصيبها بالمنطق والحوارات التي لا تركن إلى المعميات بل تسعى إلى تنويرها بالتفكير المنطقي البريء من المواقف المُسبقة.

ويلفت ديان إلى ظهور تساؤلات فلسفية ضمن الفكر الإسلامي تتصل بالقضاء والقدر وحرية إرادة الإنسان، الأمر الذي أنتج ظهور فرق فكرية إسلامية كانت أشهرها الجبرية والقدرية اللتان أخذت كلٌّ منهما حيّزاً واسعاً من الحوارات والمناظرات داخل المجتمعات الإسلامية. ثم تضاعف الحماس في التوجّه إلى اعتماد العقل والتفكير المنطقي في خضمّ ما عُرف بعلم الكلام الذي هدف إلى إثبات العقائد عن طريق العقل، حيث اشتدت السطوة التي عرفتها طرائق فرقة المعتزلة في هذا المجال.

وفي خطوة جريئة يستعيد الفيلسوف المسلم في كتابه، الجدال الأشهر في تاريخ الفلسفة الإسلامية بين المعتزلة والأشاعرة، ومحاور الصراع الفكري والسياسي بينهما، حيث اختلفت الفرقتان بين عقلانية مفرطة تبناها المعتزلة في تفسير المسائل الدنيوية والغيبية، مع طيّ الجانب الروحي العقائدي في علاقة الفرد بالله والكون؛ وأشعرية انتصرت لروحانية الدين والركون للعقائد، ودعت إلى الإعراض عن المغالاة في اعتماد التفكير الفلسفي والمنطقي في شؤون الدين والحياة. وهذا ما اعتبره الكاتب "حالة من التجدّد المستمر"، إذ "لا يمكن أن يكون الدين في تنافر عقدي مع الزمن أو المستقبل".

حاجة الدين إلى الفلسفة

لعلّ الأبرز والأهم في خضم جهد المفكر السنغالي ديان في كتابه "دعوة إلى العقلانية"، كان طرحه أسئلة أكثر تحديداً وعمقاً من نوع: "... كيف وقع اللقاء بين الإسلام والفلسفة؟ وهل يحتاج الدين إلى الفلسفة؟ وما هي الآثار المترتبة على إضفاء النزعة الفلسفية على اللغة العربية من خلال ترجمة النصوص اليونانية إليها؟ وما معنى التفسير الفلسفي لرواية دينية؟ وهل يمكن للدين أن يتعايش مع العقلانية الفلسفية؟ وهل تتعارض الصوفية مع العقلانية؟ وما معنى كوننا بشراً؟ وما هو واجب الإنسان أزاء الطبيعة؟ وهل هناك ما يسمى بالدولة "الإسلامية"، أو هل المسلمون أحرار في استحداث النظم السياسية التي تتوافق مع متطلبات أزمانهم، وتسمح لهم بالعيش في مجتمعات ديمقراطية منفتحة؟

لقد انطوى طرح "ديان" هذه التساؤلات على جرأة حميدة في التصدّي للأفكار المسبقة والعمل على مقارعة بعض الطواطم التي لطالما عملت على تضييق فكر المسلمين، من دون أن تتمكن من مسّ ولا طمس جوهر الإسلام وحقيقته. وقد أفرد المفكر ديان" أن قدراً كبيراً من اهتمامه في كتابه بعمليات إحياء وتنشيط الفلسفة ضمن مشهدية الفكر الإسلامي، متخذاً من أحد روّادها، "جمال الدين الأفغاني" مثلاً حيّاً على ذلك في تفكيره ومسلكه، واعتبره من أبرز رواد هذا الحالة التي تبعه على دروبها "تلميذه" محمد عبده. فكلاهما دعا إلى التحرر من أغلال التقليد، وإعمال العقل ونبذ الخرافات. وهذا أيضاً ما تبِعهما على دربه الأزهري علي عبدالرازق، المعارض الشديد لمبدأ "دينية الدولة" وبالتالي رفضة فكرة الخلافة والنظر إلى عالم جديد منفتح لا قيد فيه على الفكر. وهذا كان أيضاً دأب المفكر والشاعر الهندي المسلم محمد إقبال في ما بعد.

وخلال سعيه إلى تدبّر الأجوبة على التساؤلات التي طرحها، سلّط الكاتب الضوء على فكرة ثابتة عنده مؤداها قيام التفاعل الناشط والعميق بين الفلاسفة المسلمين والتراث الفكري الغربي ضمن مسار جدلي تفاعلي، يتأثر من خلاله هؤلاء بأولئك، ويُؤثرون فيهم، فتجري عملية تبادل الأفكار وتفاعلها ويتحصّل بالتالي إثراء الفكر الإنساني وإغناء الحضارات المحتاجة كلٌ منها إلى مثيلتها الأخرى المختلفة، في مسيرة الرقي والحضارة.  

وهو حرص على تقديم وجهة نظر تقول إنه "تقع على عاتق الفلاسفة المسلمين اليوم مسؤولية إظهار جدارة التراث الفكري والروحي للإسلام، ودوره البليغ في توفير الأسس النظرية للتفكير المعاصر في سياق التحديات الكوكبية التي يوجهها إنسان اليوم". 

واستعرض الكاتب بعناية فائقة وبنَفَسٍ متصالح مع التراث والحداثة، الحوار الفكري الناشط الذي أطلقه الفلاسفة المسلمون مع التراث الفكري الغربي والفلسفات التي طرحها. وأشار إلى أن الإسلام لا يتعارض مع العقلانية الهادفة في مآلها أساساً إلى تحقيق مصلحة الإنسان، ما يتيح تفاعلاً فكرياً إيجابياً بين مجموعة كبيرة من النصوص التي أنتجها الفلاسفة المسلمون، بين القرنين التاسع والثاني عشر، مع عدد كبير من النصوص الفلسفية العالمية المعاصرة، منوّهاً بواقع التعددية الفكرية. وقدّم ذلك وفق رؤية إسلامية واضحة وثابتة الأسس، ترتكز على عطاءات التراث الفكري والروحي الذي أنتجته الحضارة الإسلامية نفسها. 

وضمن هذا المضمار، استعرض ديان قراءات متعدّدة لنصوص فلسفية مختارة تتوزع على مختلف أزمنة التاريخ الفكري الإسلامي. كان واضحاً أن هدفه الأسمى هو تثبيت العقلانية الصريحة على كرسيها المعتبر ضمن ميادين الفكر الإسلامى المتزن، وتعزيز التوجه القصدي إلى النقد الذاتي بما يُعيد للنشاط الفكري الإسلامي نقاءه وحيويته وانفتاحه.

 التصدّي للإتهامات

من الواضح أن مشروع "ديان" الفكري مثّل محاولة واعية لبناء اسس مشتركة يمكن أن تجتمع على هيكلها مختلف المسارات الفلسفية (من شرقية وغربية) في مختلف مناحي الثقافة الإنسانية، بما يُعيد تقديم تاريخ الفكر الإنساني ضمن بوتقة جديدة متحررة من التوجه الغربي الهادف إلى احتكار المعرفة والفلسفة تحديداً واعتبارها فضيلة غربية المنشأ تقوم على اعتماد العقل والمنطق، في مقابل إشاعة مزاعم بأن الفكر في الشرق ولدى المفكرين الشرقيين عامة، يغرق في الماورائيات والميتافيزيقيا الغرائبية الضالعة في أودية الخرافات والأساطير. 

هذا التفكير الغربي المتحيز، ومعه التوجه المتنامي إلى مركزة الفلسفة والعقلانية في الغرب، والسعي إلى إلصاق كل ما هو خُرافي وأسطوري وغير عقلاني بالشرق، يختصر ما اجتهد "ديان" بالتحديد لكشفه والإضاءة عليه وتفنيده ونقضه وتصحيحه وإعادة تقديم الفكر والفلسفة الشرقيين بما يتطلبه الأمر من رصانة وجدّية، بعيداً عن الأفكار المسبقة.

وفي أحد توجهاته الأساسية، تناول "ديان" تطوير النظرة إلى اللغة العربية، من لغة محاطة بهالة مقدسة لا يجوز المسّ بها لاعتبارها لغة النصوص الدينية المؤسِّسة، إلى لغة فكرية وفلسفية وبالتالي وسيلة لنشر الفكر والمحاججة بالفلسفة ومنطق الأمور، وتبادل كل ذلك مع الآخرين، لاعتبارها مؤهلة للخوض في تساؤلات العقل الكبرى حول الوجود وماهيته، من دون إغفال التفكير في حياة الفرد البسيطة. 

مُجمل مُحتوى كتاب "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي"، تقلّب بين الفلسفتين الإسلامية والغربية" مُستعرضاً أبرز ما جاء به الفلاسفة المسلمون البارزون، من المشرق العربي حتى الأندلس، والمواجهات الفكرية التي دارت بينهم. وإلى جانب مسارات حالات التواجه والجدال المتنامية داخل دوائر الفلاسفة المسلمين أنفسهم، عرض "ديان" حالات النقاش وتبادل الحجج بين هؤلاء وأساطين الفلسفة في المجتمعات الغربية، وعمليات التثاقف الناتجة والتي ازدهرت بين الفريقين، مُستفيداً كل فريق من الآخر، ولا سيما إثر ترجمة بعض الكتب الفلسفية العربية إلى اللاتينية ومن ثم إلى لغات الغرب، وبخاصة منها كتاب الغزالي السابق للتهافت، وهو "مقاصد الفلاسفة"، ثم كتاب "منطق الغزالي العربي وفلسفته"، وهو الكتاب الذي ألّفه الغزالي ليفسّر ويشرح للناس مناهج الفلاسفة وطرقهم في التحليل، تمهيدًا لتبيان تهافتهم في كتابه اللاحق "تهافت الفلاسفة".

وهكذا، عندما واجه المسلمون أسئلة فلسفية من قبيل أن الإنسان مخيّر أو مسيّر، أو موضوع النظر في صفات الله وعلاقتها بجوهره السامي، أو النظر في مسألة خلق القرآن من عدمه (كالقضايا الرئيسية التي أسهمت في توليد العلم سواء من الكلام أو العقيدة)، أمكن للعلماء فقط توظيف نظرتهم العقلانية من أجل تبنّي التساؤلات والحجج الفلسفية، وفي هذا المسعى، تمكن العلماء المسلمون من استيعاب المنطق اليوناني والعلوم الفلسفية الأخرى التي كانت تترجم إلى اللغة العربية.

معاكسة الديكارتية

في ملاحظة لمّاحة يقارن المفكر سليمان بشير ديان بين الرسالة التي سعت رواية "حي بن يقظان" إلى إيصالها، والمشروع الفكري الديكارتي. فالإنسان بالمفهوم الذي قدّمه إبن طفيل في شخصية "بن يقظان"، من خلال تأمّله في الطبيعة وأحوالها وإدراكه ماهيته من جهة ودوره من الجهة المقابلة، يُتيح له أن يقيم علاقة تعايش وتكامل بينه وبين سائر المخلوقات الحيوانية والنباتية على حد سواء. وهذا يتعاكس مع مفهوم التنوير الديكارتي الذي يرى الإنسان "سيداً ومالكاً" للطبيعة، يسيطر عليها من خلال العلم ويجعلها لصالحه دون سواه. وهذا نمط من السلوك البشري الأناني الذي لا يخدم فكرة الحفاظ على الأنواع الحية. 

الكلمة الأخيرة

ختاماً، لعل النقطة البارزة التي تقصّد ديان الإضاءة عليها في مُؤلفه، تجلّت في الثقة التي رآها موكلة للعقل البشري وقدرته على التعلّم. هذه النقطة هي ما تم تطويره بالفعل في الرواية الفلسفية الشهيرة "حي بن يقظان". فهي وفّرت تظهيراً ذكياً لمقدرة الإنسان العقلية وبالتالي الفكرية، حيث أن القرآن ميّزه بالقدرة على التفلسف والوصول إلى أعلى مراتب الحقيقة المرتبطة بالكون، وكينونته كإنسان.وفي مواجهته للذين رأوا أن نشر وإشاعة الفلسفة داخل المجتمع الإسلامي خطأ جسيم ينبغي تجنّبه وعدم السعي إليه ولا الوقوع فيه، انتبه الفيلسوف السنغالي ديان إلى أن واقع السنة النبوية الشريفة أثبت العكس، حيث قدّرت عالياً السعي وراء المعرفة مهما كان مصدرها، وجاء فيها صراحة أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها". وهكذا، عندما واجه المسلمون أسئلة فلسفية من قبيل أن الإنسان مخيّر أو مسيّر، أو النظر في صفات الله وعلاقتها بجوهره، أو النظر في مسألة خلق القرآن من عدمه، أمكن للعلماء المسلمين توظيف نظرتهم العقلانية من أجل تبنّي التساؤلات والحجج الفلسفية. بعد أن كانوا تمكّنوا من استيعاب المنطق اليوناني والعلوم الفلسفية الأخرى التي كانت تترجم إلى اللغة العربية.