رايات سوداء فوق الخيام

يجب أن نحرّض أهلنا في الدهيشة وباقي المخيمات على وضع رايات سوداء فوق الخيام.

  • مخيم الدهيشة في مدينة بيت لحم عام 1950(الأرشيف الرقمي الفلسطيني - جامعة بيرزيت)
    مخيم الدهيشة عام 1950 (الأرشيف الرقمي الفلسطيني - جامعة بيرزيت)

حكاية من زمن الخيام.

***

طوى أبي يدي في يده وهو يمضي بي خارجاً من بوابة مخيّم الدهيشة، بعد أن سلّم على جدتي فاطمة وباس يدها، وطمـأنها أنه بخير، وأنه كان في زيارة صاحبه في مخيّم العرّوب.

أوصاني أبي:

- لا تخبر جدتك أنني كنت محبوساً في بيت لحم، فهززت رأسي، وأكدت له:

- طيّب يابا.

مررنا من أمام خيمة مخفر الشرطة، واتجهنا إلى المقهى، وجلسنا على كرسيين قصيرين حول طاولة صغيرة. 

حضر يوسف:

- أهلاً عم أبو رشاد..حمداً لله على سلامتكم جميعاً. 

- أهلاً بيوسف.

- شو تشرب يا عم؟

- كاسة شاي.

غاب يوسف قليلاً ثم عاد وهو يحمل كاستي شاي على الصينية، انحنى ووضعهما أمامنا.

قال أبي:

- ولكنني طلبت كاسة واحدة يا يوسف!

- الكاسة الثانية ضيافة للمحروس.

سألت أبي: 
- شو يعني المحروس؟

- أنت المحروس، يعني محروس من الله، يعني دعاء أن يحميك الله.

- أنت طلبت كاسة شاي واحدة، ولكنه أحضر كاستين!

- إنه يحترمك، لذا أحضر لك كاسة وحدك، وهو يعرف أنني لا أملك ثمن الكاسة الثانية. يوسف محترم. 

خرج أبي من حبس بيت لحم مع بعض الأشخاص الذين تم حبسهم. راح وجهاء مخيم الدهيشة إلى بيت لحم وقابلوا المسؤول هناك وطلبوا منه الإفراج عن المساجين، وهو أفرج عنهم. قالوا له: بدنا من سجنتموهم، المخيم يغلي من الغضب، فطلب منهم وعداً بألا يثيروا المشاكل في المخيّم.

سألني أبي:

- فاهم؟

- آ..يابا ..فاهم. أنتم كنتم تصيحون في المظاهرة: بدنا نروّح لبلادنا.. وبعدين جاء العسكر وأخذوكم، وبقيتم في الحبس 10 أيام، والوجهاء كفلوكم بأن لا تثيروا الشغب..شو يعني لا تثيروا الشغب يابا؟

- يعني ما نطالب بالعودة لبلادنا، والناس يتجمهروا على الإسفلت في مدخل المخيم، ونقطع طريق بين بيت لحم والخليل.

الأشخاص الذين حضروا للمقهى أخذوا يسلمون على أبي، وهو يقف ويهز أيديهم، ويؤكد لهم:

- لن نسكت، سنتظاهر ونهتف مطلبين بالعودة إلى بلادنا. لن نبقى في مخيم الدهيشة والمخيمات الأخرى. لن نعيش تحت الخيام بعيداً عن قرانا وكرومنا وأرضنا. 

كلما هم واحدهم أن يدفع ثمن الشاي يقول له يوسف:

- شاي العم أبو رشاد واصل، ألا يكفي أنه انحبس مع الناس الوطنيين من أجلنا!

رفع يوسف الكاستين اللتين شربنا شايهما، وأخذ يرحب بالرجال الذين خرجوا من السجن.

تحلقوا حول طاولتين، وقرّبوا الكراسي من بعضها، ومالت رؤوسهم حتى كادت تتلاصق. أصغيت لكلامهم المهموس والمتقاطع: لن نسكت، السجن لا يخيفنا. بلادنا احتلت ونحن لن نقف متفرجين. لن نعيش تحت الخيام. نحن لسنا وحدنا فأهلنا في كُل المخيمات معنا ونحن معهم. يجب أن نتواصل معهم، ننتدب واحداً من مخيمنا يتوجه إلى مخيم الفوار ومخيم العروب، وحتى إلى مخيمات أريحا.

يجب أن نحرّض أهلنا في الدهيشة وباقي المخيمات على وضع رايات سوداء فوق الخيام.

تساءل الحاج أبو جمعة:

- رايات! من أين لنا القماش الأسود؟

ردّ الأستاذ سليمان:

- أي شرايط سوداء، المهم أن يعرف كل من تسبب في نكبتنا أننا لن نصمت، وأننا نرى أن الحياة سوداء بعيداً عن بلادنا.

وضع يوسف أكواب الشاي على الطاولة: تفضلوا يا أعمامي..نحن معكم. الشاي ضيافة احتراماً لكم. 

طبطب الأستاذ سليمان على ظهري، وقال:

- اذهب واطلب من رفاقك أن يمزقوا الملابس السوداء المهترئة ويشبكوها بأعواد صلبة فوق الخيام.

رحت إلى خيام المدرسة فوجدت الأولاد يمزقون خرقاً سوداء ويشبكونها بالعصي والأعواد لنثبتها فوق أعمدة الخيام الأمامية. في الصباح الباكر وجدت أبي مستيقظاً، وكانت جدتي فاطمة تحت بطانية تسترق السمع:

- شو في يا محمود؟

أجابها أبي:

- ما في شي يمّا.. نامي يمّا.

غمزني أبي بأصبعه وهو يهمس:

- دير بالك على جدتك، ولو أن عمك عبد الرحمن لن يقصّر. إذا حبسونا اليوم فخذ جدتك عند أختها الجدّة ذوابة في خيمة عمّك عبد الرحمن. 

شاويش المخفر دار بين الخيام ومعه رجال شرطة، واصطحبوا أشخاصاً طلبوهم إلى بيت لحم.

نحن الأولاد غادرنا صفوفنا وتجمهرنا على الإسفلت، وارتفعت أصواتنا النحيلة:

 بدنا نروّح لبلادنا

ما بدنا نعيش بمذّله

تدفق الرجال من تحت الخيام، وهم يلوحون بقبضاتهم ويهتفون:

ما بنرضى بحياة الذل 

لا للعيش تحت الخيام

أخذنا نرتجف من البرد، فأمرنا أستاذنا محمود الخطيب أن نقفز باستمرار حتى تنبعث الحرارة في أجسادنا العارية. لم نكن نملك أحذية في أقدامنا، وتسلل البرد في أجسادنا مع نزول المطر فوقنا. تبللنا وطقطقت أسناننا، وازداد ارتجافنا.

خرج الناس من تحت الخيام، وملأوا شوارع وأزقة المخيم، وسمعنا أصواتاً ترتفع:

- إلى بيت لحم..إلى بيت لحم. فليعتقلونا جميعاً، على الأقل الحبس دافىء.. وفيه أكل!

قطع الناس طريق بيت لحم الخليل، فارتفع صوت شاويش المخفر: 

- خليكم في الدهيشة، بلاش بيت لحم يا ناس..وما تقطعوا الطريق.

من تمّ جمعهم من المخيم كانوا يقفون أمام خيمة المخفر رأيناهم يتحدثون بكلام لم نسمعه، لكنهم اندفعوا لمقدمة الحشد، وصاح أحدهم: يلاّ إلى بيت لحم.

يا له من يوم!

أخذت أجسادنا ترتجف ولكننا لم نكن خائفين. وها أنتم ترون ماذا يحدث في مخيم الدهيشة وكل المخيمات في هذه الأيّام، ومنذ سنوات, وإلى أن نعود.

تنويه: كبرت وكبر أبناء جيلي، ومات من ما. أقصد: أستشهد. وها هي الأجيال تقاتل، وستواصل حتى تتحرر قرانا ومدننا وكل فلسطيننا.