رحلة في أحشاء المعاناة

تخرج منهكاً وتستمر في السير، تسأل رفيقك: "هنمشي كمان مرة؟" فيرد عليك: "إن شاء الله نلاقي حمار". ولكن حتى بعد أن تخلّينا عن كرامتنا، لا نجد الحمار الذي يريحنا، ولا نجد أيّ وسيلة لتخفيف عناء السير.

الخروج في غزة ليس كأيّ خروج. هناك، حيث يخرج الناس بحثاً عن نسمة حياة، نخرج نحن لنتنشّق غبار الموت. هناك، حيث يغيّر الآخرون من حياتهم، نعود نحن محمّلين بوطأة واقعنا، كمن يحمل جبلاً على ظهره. الخروج هنا ليس رفاهية، بل هو رحلة إجبارية في دهاليز المعاناة، تبدأ بخطوة خارج الخيمة، ولا تنتهي حتى تعود إليها مثقلاً بكل ما رأيت.

في أحد الأيام، توجب عليَّ مراجعة طبيب الأسنان من أجل التقويم. خرجنا وكأننا مستعدون للمشي أكثر من كيلومترين، لكننا كنا تمنّى لو وجدنا سيارة لنقلنا بدلاً من المشي، فيزداد تعبنا.

نسير في طرق رملية وعرة، فلا طريقَ صالحاً. على أطراف الطريق، إما ركام بيوت أو خيام تصرخ: "أنا المعاناة". منظرها كئيب، مليء بالمأساة، مغطى بالغبار، ممزق. وأمامها، يقف طفل صغير، وجهه كالخيمة يصرخ: "أنا المعاناة"، وعيناه تدمعان شوقاً لشيءٍ ضاع منه: طفولته، بيته، وألعابه. وفي أحد الطرقات، ترى أفراناً من طين، وفتيات صغيرات يضعن "صواني" من عجين فوق رؤوسهن، وعيونهن تصرخُ: "أنا المعاناة".

الطرق نفسها تصرخ: "أنا المعاناة"، فهي التي كانت مكسوة بالأخضر أصبحت صحراء قاحلة. أكوام النفايات تعرف مكانها، فلا تستطيع إلا أن تكتم أنفاسك. وبرك المجاري تسير بمحاذاتها، وتكمل سيرك متجنّباً ما يمكن أن يلوّثك، لكنك لا تستطيع تجنّب "القرف" الذي يطفح من كل شيء.

تستمر في السير، وتلتقي بأناس أيديهم "مُشحبرة" من سكن النيران، فتشعر أن هذه هي المعاناة. ثم تجد بائعاً تحت الشمس، وجهه يكاد يختفي، فتقول: "لا، بل هذه هي المعاناة". تنظر إلى البضائع، وإذا بها معلبات فقط، فتصرخ معدتك: "هذه هي المعاناة".

تكمل السير، وترى بسطة خضار، تتأمل الطماطم الحمراء، وتقول: "هذه هي المعاناة". وأمام محل ملابس، تتذكّر أنك تركت نصف ملابسك خلفك حين نزحت. تلاحظ أنّ الأسعار زادت بشكل جنوني، ولكنك بحاجة إليها فتشتريها على الرغم من ذلك.

تستمر في السير وتلتقي بمحل يعرض مكسّرات الجوز بسعر مرتفع جداً، فتعبر مبتسماً وتقول: "كيلو عين الجمل بـ 240 شيكل! عمار يا بلد!"

تصل أخيراً إلى الطبيب بعد ساعتين من المشي. العيادة تغيّرت مرة أخرى، جدرانها من النايلون هذه المرة. وبعد فترة من الانتظار، ترى الدكتور ويخبرك بعدم تناول أيّ شيء قاسٍ، وتضحك في داخلك، فكلّ ما تذوّقته كان قاسياً.

تخرج منهكاً وتستمر في السير، تسأل رفيقك: "هنمشي كمان مرة؟" فيرد عليك: "إن شاء الله نلاقي حمار". ولكن حتى بعد أن تخلّينا عن كرامتنا، لا نجد الحمار الذي يريحنا، ولا نجد أيّ وسيلة لتخفيف عناء السير.

تصل إلى الخيمة الساعة 2:30 ظهراً، بعد أن غادرت في التاسعة صباحاً. تقف على عتبة النسيج البالي الذي يفصلك عن العالم، ثم تلتفت لترسل نظرتك الأخيرة إلى الأفق حيث تختلط أصوات المعاناة بأنين الرحيل. تقول: "المرة المقبلة لن أخرج"، لأنّ رؤية خيمتك أرحم من رؤية البلاد.

لكن غداً، ستعيدك قدماك إلى الطرقات ذاتها، وستكمل السير. ليس لأنك شجاع، بل لأن العيش هنا انتزع منك ترف الاختيار. الخروج هنا ليس شجاعة، بل استسلام آخر لإرادة البقاء.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك